17-مارس-2019

هل تتحول الديمقراطية التونسية إلى ديمقراطية شكلية مناسباتية؟ (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

تناولنا في الحلقات السابقة من سلسلة "كيف سننتخب؟" أهمية نزاهة المسار الذي يؤدي إلى الاقتراع  والذي تتشكّل فيه إرادة المواطنين الحرة والمستقلة (الحلقة الأولى)، كما تناولنا التأثيرات الممكنة لاستطلاعات الرأي (الحلقة الثانية) والفايسبوك (الحلقة الثالثة) على نوايا تصويت التونسيين في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة. وتم توضيح كيف أن الوضع يتسم في تونس، على عكس ما يوجد في الديمقراطيات، بغياب الآليات التي تمنع التأثيرات السلبية لاستطلاعات الرأي والفيسبوك على الانتخابات المقبلة حماية للمسار الانتخابي حتى لا يفقد مصداقيته.

إن الخطر الأكبر، وكما أشرنا إلى ذلك، هو أن تتحول الديمقراطية التونسية إلى ديمقراطية شكلية تستأثر بها النخب السياسية ويتحوّل فيها المواطنون أو جزء منهم إلى مجرد أصوات يقع تعبئتها بطرق ماكرة أثناء المسار الانتخابي وتختزل فيها السياسة في المنافسة الانتخابية الشكلية. فتصبح الميديا في هذا السياق مجرد وسائل توظفها الأحزاب السياسية والقوى الاقتصادية للتحكم في اتجاهات الناس.

اقرأ/ي أيضًا: سلسلة "كيف سننتخب؟": الميديا الاجتماعية والفيسبوك كمصدر تهديد للانتخابات (4/3)

ومن الواضح أن هناك سياسيين يشتكون من التوظيف السياسي للميديا التونسية، لعل أهمهم الرئيس السابق المنصف المرزوقي، الذي يعتبر أن الميديا التونسية في أغلبها منحازة لما يسميها "القوى المضادة للثورة"، إضافة لسياسيّين آخرين على غرار حمّة الهمامي الذي رغم حضوره الكثيف في الميديا فهو يعتقد أنّها خاضعة للسيطرة السياسية.

كما تتعالى أصوات من داخل المهنة من حين إلى آخر لإدانة الاصطفاف السياسي لبعض الصحفيين ولانخراط الصحفيين وبعض مؤسسات الميديا في أجندات سياسية. ولا يمكن للمتمعن في هذه التصريحات إلا أن يستشف منها أن هناك صراعًا سياسيًا خفيًا حول استخدام الميديا كآلية من آليات توجيه اتجاهات الناس ونوايا تصويتهم يوم الانتخابات.  

أزمة الثقة بين المواطنين والصحافة

قبل التطرق إلى المؤشرات التي يمكن أن نوظفها لمعرفة ما إذا كانت الميديا التونسية يمكن أن تمثل آلية من آليات التلاعب بإرادة المواطنين الانتخابية، لنرى أولًا تطور علاقة التونسيين بالميديا حتى نتبين مما إذا كانت لا تزال تؤدي دورًا ما كمصدر معرفة عن الحياة السياسية، إذ لا فائدة من السيطرة على الصحافة والبرامج الإخبارية إذا كان التونسيون قد ملّوا منها وهجروها.

إن الدراسات والبحوث في هذا المجال نادرة جدًا إن لم تكن غائبة تمامًا. وفي هذا الإطار، تتنزل أهمية استطلاع الرأي الذي أنجزته جمعية "بر الأمان" الذي أشرنا إليه في الحلقة السابقة، الذي يبين أن 80 في المائة من العينة المستجوبة يعتبرون أن الميديا لم تساعدهم في عملية الاقتراع في الانتخابات البلدية الأخيرة أي بتعبير آخر أنها لم توفر المعارف الضرورية للاختيار بين المرشحين.

الدراسات والبحوث حول تطور علاقة التونسيين بالميديا نادرة جدًا إن لم تكن غائبة تمامًا

وتشير نتائج الاستطلاع ذاته أن أربعة من أصل خمسة مواطنين لم يلفت اهتمامهم أي موضوع من مواضيع الحملة الانتخابية وأن ثلثي المستجوبين لم تقنعهم الميديا بالتوجه إلى صناديق الاقتراع. وتبدو هذه النتائج غريبة نوعًا ما بالنظر إلى الجهود التي بذلتها مؤسسات ميديا عديدة وخاصة العمومية منها لتغطية الحملة الانتخابية.

ويمكن تفسير هذه النتائج بعزوف التونسيين عن الشأن السياسي بشكل عام وعدم ثقتهم في النخب السياسية على تغيير الأمور. إذ تشير دراسة مسحية قام بها المعهد الوطني للإحصاء أن 41.8 في المائة لا يعتقدون أن الانتخابات البلدية ستغير بشكل حاسم إدارة الشؤون المحلية.

ويمكن أيضًا أن نجد تفسيرًا لتقييم التونسيين لدور الميديا في عملية الاقتراع بطبيعة التغطية الإخبارية ذاتها التي اعتمدت على مقاربة خبرية في أغلب الأحيان مكتفية بنقل أخبار الحملة وعرض البرامج الانتخابية دون اعتماد مقاربة تفسيرية لرهانات الانتخابات ودلالات البرامج المعروضة أو التحقق من الوعود الانتخابية.

اقرأ/ي أيضًا: سلسلة "كيف سننتخب؟": استطلاع الرأي، مرآة "الرأي العام" أو آلية لصناعته؟ (4/2)

ويمكن أيضًا تفسير هذه المقاربة التحريرية الخبرية المحضة بقلّة الإمكانات المتاحة للصحفيين لتطوير مضامين تفسيرية أو أعمال ميدانية أو لرغبة الصحفيين بضرورة الالتزام بالحياد والموضوعية وبالمعايير التي وضعتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري لضمان الإنصاف في مستوى التمثيل للمترشحين في التغطية الانتخابية. في المقابل، لا تبدو النتائج إيجابية على الأقل انطلاقًا من نسبة مشاركة التونسيين في هذه الانتخابات ومن المؤشرات التي يتيحها استطلاع رأي جمعية "بر الأمان"، وبالنظر كذلك إلى المؤشرات التي تؤكد أن الميديا الاجتماعية تمثل المصدر الأهم الذي يستقي منه التونسيون الأخبار عن الحياة السياسية أو على الأقل السياق الذي يستهلكون فيه الأخبار السياسية.

وعلى هذا النحو، فإن المقاربات التحريرية التي تكتفي بالأسلوب التقريري والتسجيلي الناقل للبرامج والتصريحات أو التصريحات المضادة قد برهن على محدوديّته لأنّ الناس بإمكانهم متابعة هذا النوع من المضامين على الميديا الاجتماعية نفسها تحديدًا عبر صفحات الأحزاب السياسية، ولأنّ ما ينتظره الناس هو أكثر من إعادة نشر أخبار المرشّحين على صفحاتهم. 

وفي هذا الإطار، يمكن أن تؤدي الصحافة أدوارًا جديدة لا تجعل منها فقط واجهة عرض على غرار التحرّي في وعود المرشحين وتوفير المعارف حتى يدرك الناس بطريقة عقلانية ونقدية هذه البرامج والوعود. وفي الإطار ذاته، فإنه حريّ بنا أن نتساءل عن مدى قدرة الصحافة التونسية على أن تكون بديلًا لفيسبوك باعتباره فضاء حملات يزدهر فيه التضليل والأخبار الكاذبة.

كيف يمكن أن نتأكد من استقلالية الميديا التونسية؟

تؤكد مؤشرات عديدة أنّ تونس تحتل مرتبة متميزة في مجال حرية الصحافة بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، فهي تحتل المرتبة الأولى عربيًا في ترتيب حرية الصحافة الذي تصدره منظمة "صحفيون بل حدود"، وهي أيضًا مصنفة "دولة حرّة" في مؤشر منظمة "فريدم هاوس" للحريات. كما صُنّفت تونس بوصفها الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي في مؤشر الديمقراطية.

في المقابل، توجد مؤشرات سلبية عديدة نذكر منها محدودية المواثيق التحريرية في مؤسسات الميديا التي تجسّد المعايير الصحفية، ولكن بالخصوص غياب الشفافية في مستوى ملكية مؤسسات الميديا السمعية البصرية والمطبوعة والإلكترونية كما تقتضي ذلك القوانين المنظمة للقطاع (كراسات الشروط وأحكام المرسوم 115). وهي مؤشرات لا تسمح بالحكم على استقلالية الصحافة. وفي هذا الإطار، يمكن أن نتساءل عن مدى استقلالية بعض الصحف أو الإذاعات والتلفزيونات التي لا تنشر أو تبثّ إعلانات إشهارية؟

كما أن ضعف موارد المؤسّسات الصحفية التونسية بشكل عام بجعلها (على الأقل نظريًا) سجينة قوى عدّة على غرار المؤسسات الاقتصادية ووكالات الإشهار والاتصال التي يمكن أن تمارس القوى السياسية نفوذها عبرها. فلا يعني إلغاء وزارة الاتصال (أو الإعلام) أن السلطة السياسية والسياسيين بشكل عام تخلوا عن نزوة التحكم في الصحافة واستخدامها للظهور من جهة أولى أو لفرض رؤيتهم على الناس من جهة ثانية.

محاضرة عن شفافية الميديا التونسية

كيف تفقد الصحافة استقلاليتها؟

لا يمكن للميديا والصحافة أن تقوم بأدوارها إذا كانت لا تتمتع بالحرية والاستقلالية. وفي هذا الإطار، من المهم جدًا أن نميّز بين الحرية والاستقلالية، فحرية الصحافة تعني أن المواطنين يتمتعون بحرية إنشاء الصحف أو إطلاق القنوات الإذاعية والتلفزيونية في إطار القانون، وأيضًا حرية ممارسة مهنة الصحافة دون قيد أو حدود من السلطة السياسية. كما تعني حرية الصحافة أنه بإمكان الصحفيين إنجاز عملهم  (البحث عن المعلومات والتحقيق الميداني) دون تدخل السلطة السياسية أو ممارسة ضغوط عليهم من سلطة أخرى. ولكن لا يعني هذا أن الصحافة مستقلة تمامًا، إذ يمكن أن تكون الصحافة حرة وغير أخلاقية

 وتفقد الصحافة التونسية استقلاليتها لسببين:

السبب الأوّل (داخلي): إذ يمكن أن تتخلى بعض المؤسسات الصحفية أو حتى الصحفيين عن استقلاليتهم  طواعية باسم الحرية أي عندما يقبل الصحفيون بالارتباط الطوعي ببعض القوى الإيديولوجية والسياسية إما بسبب انتماءات الصحافيين الأيديولوجية أو بسبب عدم إيمان العميق للبعض منهم بقيم الموضوعية والاستقلالية أو الحياد. ويؤدي ضمور هذه القيم إلى تفريط بعض الصحفيين في قيمة البحث عن الحقيقة خدمة لحق التونسيين في المعرفة وذلك باسم قيم أخرى يعتبرها الصحفيون ضمنيًا أهم من القيم الصحفية على غرار النضال من أجل قضايا ما.  وهذا ما قد يفسر أن بعض الصحفيين (خاصة ما يسمى بـ"الكرونيكور") انحازوا إلى مرشحين بعينهم باسم مناهضة الإسلاميين من جهة أولى أو باسم صدّ القوى المناهضة للثورة من جهة ثانية. وفي كل الأحوال، عادة ما تتشكل مواقف الصحفيين  داخل السياسة التحريرية للمؤسسات التي تكون أحيانًا بدورها مرتبطة بقوى سياسية و أيديولوجية.

يمكن أن تتخلى بعض المؤسسات الصحفية أو حتى الصحفيين عن استقلاليتهم  طواعية باسم الحرية أي عندما يقبل الصحفيون بالارتباط الطوعي ببعض القوى الإيديولوجية والسياسية

أما السبب الثاني (خارجي): يتعلق بممارسة بعض القوى على غرار المستشهرين لضغوط خفية على الصحفيين والمؤسسات الصحفية بشكل ماكر إما خدمة لمصالحها أو خدمة لمصالح قوى أو شخصيات سياسية. ولهذا السبب بالذات، وضعت المهنة الصحفية ضوابط مهنية وأخلاقية (على غرار المواثيق الأخلاقية والتحريرية) لحماية الصحافة من الانتهاكات الداخلية (التي يقوم بها الصحفيون أنفسهم لاعتبارات غير صحفية)، وكذلك من الانتهاكات الخارجية حتى لا تفضي حرية الصحافة إلى الانحياز إلى المصالح المختلفة السياسية والإيديولوجية والاقتصادية. فلا معنى لحرية صحفية تستخدم للتضليل على سبيل المثال.  

أساليب ماكرة للتأثير على إرادة الناخبين بواسطة الصحافة

كيف يمكن للميديا أن تخدم هذا المرشح أو ذاك؟ من البديهي أن انخراط ميديا معينة في خدمة مرشح ما هي عملية خطرة جدًا خاصة بسبب الالتزامات القانونية للإذاعات والتلفزيونات الحاصلة على رخصة ونتائج ذلك على مصداقية الصحفيين العاملين فيها الذي يفترض فيهم الدفاع عن الحدود الدنيا للاستقلالية، وعلى نحو ما يمكن أن يكون ذلك بمثابة عملية انتحارية حين تتحوّل ميديا معينة إلى وسيلة دعائية لصالح مرشح ما. 

في هذا الإطار، تتهم مثلًا الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري قناة "نسمة" بأن مالكيها يوظفون القناة لمصالح سياسية ضيقة. فالقناة "تنتهك حقّ أطفال تونس ونسائها وشيوخها وتمّس من كرامتهم، مستغلة في ذلك فقرهم وهشاشة وضعياتهم إلى حد تحويل هذا البؤس إلى مادة إعلامية مشهدية مهينة، كل ذلك في سبيل تضليلهم وتسوّل أصواتهم خلال المحطات الانتخابية القادمة".

في المقابل، هناك عدة أساليب ماكرة للتأثير في نوايا تصويت التونسيين ومنها:

- معالجة الشخصيات المنافسة لشخصية سياسية ما عبر قصص صحفية أو أخبار تخدمه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، فتستفيد هذه الشخصية بشكل آلي من إفساد الصحافة والميديا لصورة المنافسين له بأي شكل من الأشكال (التحجيم، نشر الفضائح، حجب نشاطاته إلخ).

- استعادة الصحافة للسردية التي تقوم عليها منظومة الاتصال السياسي للمترشح، فيصبح الصحفي جزءًا من هذه المنظومة ويتحوّل إلى عنصر من عناصر تسويق المترشح. وفي هذا الإطار، يكتفي الصحفيون عادة بنقل أخبار الحملة دون معالجتها.

-  تأطير الأخبار "Framing news": يمكن أن تستخدم الميديا والصحفيون تكتيكات أخرى مستترة لخدمة مرشح ما أو تيار سياسي ما ومن هذه التكتيكات ما يسمى "تأطير الأخبار" لأن الميديا لا تعطينا الأخبار عن الأحداث بل أيضًا النظارات التي يجب أن ننظر من خلالها إلى الأحداث ونؤول بواسطتها هذه الأحداث. فالميديا خاصة عبر البرامج الحوارية أو "Talk Show" وباختيار مسائل معينة أو تغييب قضايا بعينها (الماضي السياسي لمرشح ما وحصيلة تجربة حكمه مثلًا) تساهم في خلق بيئة ما مثلًا مواتية لاستقطاب وتقسيم الناس "Clivage" إلى معسكرين متضادين متعارضين. فقد عُرضت الانتخابات التشريعية والرئاسية السابقة على التونسيين من أغلب الميديا على أنها صراع حاسم بين "القوى التقدمية" (الحداثية والديمقراطية) و"القوى الدينية المحافظة" (المدافعة عن الهوية والثورة).

الميديا خاصة عبر البرامج الحوارية وباختيار مسائل معينة أو تغييب قضايا بعينها تساهم في خلق بيئة ما مثلًا مواتية لاستقطاب وتقسيم الناس

إن المتمعن في بعض تقارير الرصد التي تنشرها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي يكتشف بيسر كيف دفع الاستقطاب السياسي والإيديولوجي إلى انحياز بعض مؤسسات الميديا (وليس كلها) إلى هذا المرشح أو ذاك (المنصف المروزقي والباجي قائد السبسي). فقد جاء في تقرير الهيئة عن انتخابات 2014 (الصفحة 121) "وقد توخى عدد من وسائل الإعلام مسارًا يحمل عديد السمات المشتركة: عدم توازن في التغطية دون أن يكون بالإمكان تحديد توجه واضح لفائدة كيان سياسي أو مترشح معين، في المرحلتين الأوليين من المسار، لتتموقع لاحقًا بوضوح خلال الدور الثاني".

لكن هذه التكتيكات ليست دائمًا مضمونة لصالح مرشح واحد لأنها تفترض أن كل مؤسسات الميديا انخرطت في هذه الإستراتيجية وأن هناك قوة قادرة على وضع منظومة متكاملة لضمان ولاء مؤسسات الميديا كلها لإدارة "غرفة عمليات". ويكاد يكون هذا الأمر أقرب إلى نظرية المؤامرة إضافة إلى أنه يفترض أن الصحفيين قد تحولوا بمحض إرادتهم إلى مجرد أدوات.

في المقابل، لا يمنع ذلك بعض مؤسسات الميديا وبعض الصحفيين من العمل لصالح هذا المرشح أو ذاك لعدة اعتبارات منها مثلًا المصالح السياسية والانتماءات الإيديولوجية التي تجعل من الشرعي لدى البعض التخلي عن الحياد باسم المسؤولية (بالنسبة للصحفيين) أو المصلحة الاقتصادية (بالنسبة للمؤسسات) بسبب ارتباط بعض السياسيين بقوى اقتصادية تتصرف كممولة للميديا عبر الإشهار. وفي هذا الإطا،  لا يمكن أن تنجح هذه التكتيكات إلا في حالة تحالف قوى سياسية ومؤسسات ميديا وقوى اقتصادية (تموّل الميديا عبر الإشهار).

اقرأ/ي أيضًا: "كيف سننتخب؟": في نزاهة المسار الانتخابي (4/1)

ما العمل؟

تمثل عملية رصد التغطية الإخبارية للانتخابات التي تقوم بها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري أو بعض جمعيات المجتمع المدني على غرار تجربة "مرصد المواطن للإعلام" ذات أهمية بالغة وآلية جيدة تسمح بتقييم أداء الميديا ونزاهة الصحافة والميديا. لكن نتائج عملية الرصد تصبح لا فائدة منها إذا نشرت بعد الانتخابات بفترة طويلة مما يقلص من فائدتها لفهم نزاهة العملية الانتخابية وهذا ما يحصل في تونس في العادة.

وبشكل عام، تكشف عملية الرصد عدة خروقات تقوم بها التغطيات الصحفية مثل الدعاية السلبية والإيجابية والتحيز وعدم الحياد وتضليل الناخبين ونشر الأخبار الزائفة وتحريف المواقف وغياب الدقة والموضوعية

فيما تتعلق الآلية الثانية بقدرة المهنة الصحفية نفسها على كشف الممارسات الخفية لتطويع مؤسسة ميديا ما لصالح هذا المرشح أو ذاك. 

وخلاصة القول، إن ما حصل في تونس منذ 2011 يمثل "ثورة" بمعنى القطيعة الجذرية مع نمط إدارة السلطة السياسية التي أصبحت تخضع إلى المنافسة التي تستخدم فيها الأساليب المشروعة التي نص عليها القانون في إطار الحملات الدعائية، ولكن أيضًا تستخدم أساليب أخرى غير مشروعة لمن أمكن له ذلك. ومن هذا المنظور فلا معنى للتصويت إذا كان قائمًا على معرفة مغشوشة بالحياة السياسية وبوقائعها وبالفاعلين فيه، فلا معنى لإرادة سياسية تتغذى بالأخبار الكاذبة والمعلومات ومن الدعاية السياسية الفجة ومن ميديا لا تعمل على تنوير المواطن ومده بالمعارف الضرورية حتى يتمكن من اتخاذ قرار عقلاني.

كلما سمحت ديمقراطية ما لقوى خفية بالتلاعب بإرادة الناخبين كلما كان ذلك دليلًا على أنها أصبحت ديمقراطية شكلية

وكلّما سمحت ديمقراطية ما لقوى خفية بالتلاعب بإرادة الناخبين كان ذلك دليلًا على أنها أصبحت ديمقراطية شكلية يستدعى فيها المواطن بطريقة مناسباتية للتعبير عن إرادة لم تتشكل بطريقة مستنيرة. فالديمقراطية ليست مؤسسات فقط بل تفترض بيئة سياسية écosystème تسمح للمواطن بالمشاركة من جهة أولى، وتؤمّن كذلك الشروط التي تجعل من الاقتراع امتدادًا لمسار يتيح تكوينًا حرًا ومستقلًا للقرار الانتخابي.

والواضح أنّ الديمقراطية التونسية الناشئة والاستثنائية في محيطها العربي تبدو هي بدورها مريضة بعزوف المواطنين عن الشأن العام وامتناعهم عن التصويت. وقد يكون مردّ ذلك قناعة المواطنين الذين يقاطعون الاقتراع العام بأنّ الأمور محسومة بواسطة باستطلاعات الرأي التي لا تحظى أحيانًا كثيرة بالثقة وذلك عدا عن حملات التضليل والأخبار الكاذبة في ظل صحافة لا تقوم بدورها الكامل في تنوير المواطنين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأخبار الكاذبة Fake News.. خطر يهدّد انتخابات 2019

في أزمة الصحافة التونسية أو احتضارها..