08-يوليو-2019

بيّنت العملية الإرهابية في شارع شارل ديغول تفهّم الأمنيين لعمل الصحفيين (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

في ليلة ماطرة قبل زهاء 3 سنوات، كنت رفقة صديق في مقهى بجهة البحيرة قبل أن يفاجئنا اتصال من زميل صحفي يخبرنا بوقوع تفجير إرهابي في شارع محمد الخامس، أكبر شوارع العاصمة، لنهرع إليه سريعًا، وقد ساعدتنا صديقة في الوصول إلى بداية الشارع الذي كان مقفلًا من قبل الأمن لننزل من أجل إكمال المسافة المتبقية ركضًا.

كادت الأنفاس تنقطع قبل أن نصل إلى مكان العملية، وقد بدأ يتراءى لنا المشهد المخيف: انتشار لرجال الأمن في كل مكان، وكذا انتشار للصحفيين والمصورين والمواطنين فالجميع يريد معرفة ما يجري، وذلك مع غياب كامل للحواجز والأشرطة التي تحدد أماكن كل طرف، إنها فوضى عارمة بالنهاية.

تطورت العلاقة بين الأمنيين والصحفيين خلال تغطية الأحداث الإرهابية على مدى السنوات الأخيرة ليؤكد الصحفيون اليوم معاينة تعامل احترافي من قوات الأمن بما مكنهم من أداء مهامهم رغم تسجيل بعض النقائص

اقرأ/ي أيضًا: أحداث يوم الخميس المشهود.. الدروس الصحفية المستخلصة

وكانت تُسمع عبارات نابية، في هذا الجو المحتقن، في تعبير واضح عن حجم الحنق الذي يشعر به الجميع، لكن فجأة ودون سابق إنذار، انطلق عدد من أعوان الأمن في ملاحقة الصحفيين لطردهم من المكان حتى أن أحد الزملاء الصحفيين قد سقط تحت ضربات الأعوان وتهشمت الكاميرا التي يحملها، كما تعرض صحفيون آخرون إلى الضرب والركل.

قام الأمنيون بالاعتداء على الصحفيين خلال تغطية العملية الإرهابية في شارع محمد الخامس في نوفمبر/تشرين الثاني 2015

 

وقد حال هذا المناخ المضطرب دون قيام الصحفيين بمهامهم، في ظل الفوضى العارمة وشح المعلومة مما لم يساعدهم حتى على نقل الأخبار إلى قنواتهم وإذاعاتهم وصحفهم خاصة الإلكترونية منها.

لكن اليوم، بعد ما يقارب 4 سنوات على هذا الحادث، عرف الأمن التونسي تجارب عديدة ما أكسبه الخبرة في التعامل مع العمليات الإرهابية، ليأتي مشهد مغاير تمامًا عاينه الصحفيون في العملية الإرهابية الأخيرة في شارع "شارل ديغول" بالعاصمة.

نزار الزغودي، صحفي ميداني منذ أكثر من 10 سنوات يعمل مراسلًا لقناة أجنبية، تنقل فور سماعه لخبر الانفجار إلى وسط العاصمة ففوجئ بمدى الحرفية التي لقيها لدى أعوان الأمن، كما يقول في حديثه لـ"ألترا تونس".

نزار الزغدودي (مراسل صحفي): بمجرد الاستظهار ببطاقة الصحفي يسمح لنا أعوان الأمن بالدخول إلى المكان المخصص للصحفيين مع بقاء موقع العملية خاصًا بالمحققين

يؤكد نزار أن الأمن التونسي بات اليوم قادرًا على التعامل مع المفاجآت "وجدنا بمجرد الوصول إلى موقع العملية حواجز تمنع المواطنين من الدخول إلى مسرح العملية، لكن بمجرد الاستظهار ببطاقة الصحفي يسمح لنا أعوان الأمن بالدخول إلى المكان المخصص للصحفيين مع بقاء موقع العملية خاصًا بالمحققين. لا وجود لحنق ولا فوضى ولا شتائم".

ويرجع الصحفي الميداني تطور تعامل قوات الأمن في التعامل مع الصحفيين خلال الأعمال الإرهابية بصفة خاصة لاعتقاد المؤسسة الأمنية بدور الإعلام في نقل الصورة والخطر المحقق للمعلومات المغلوطة على الأمن القومي.

الأمنيون والصحفيون.. من المواجهة إلى الشراكة

عرفت العلاقة بين الأمنيين والصحفيين تذبذبًا كبيرًا طيلة السنوات الأخيرة، وقد بلغت إلى درجة نشر أمنيين على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لتهديدات ضد صحفيين، غير أن العلاقة اتجهت لاحقًا نحو الشراكة نوعًا ما. وفي هذا الجانب، نظمت وزارة الداخلية دورات تكوينية بمشاركة النقابات الأمنية والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين حول كيفية التعامل بين الأمنيين والصحفيين وقت الأزمات للوصول إلى علاقة تكامل من خلال تطبيق مبدأ "الصحفي لا يعيق عمل الأمني والأمني لا يعيق عمل الصحفي".

أنيس الدو (مصور صحفي): بات الأمنيون قادرين إثر كل عملية وبسرعة كبيرة على تقسيم مكان العملية وحمايته مع تخصيص موقع للصحفيين

اقرأ/ي أيضًا: "تفجير" حي الانطلاقة: ليس من رأى كمن سمع (شهادة)

أنيس الدو، مصور صحفي اكتسب خبرة طويلة من خلال تغطية الأنشطة السياسية بما في ذلك الأحداث الإرهابية، يتحدث لـ"ألترا تونس" عن تجربته مع الأمن التونسي مبيّنًا، في البداية، اختلاف رؤية المصور عن الصحفي على اعتبار أن المصوّر هو الملزم بالاقتراب والحصول على صورة واضحة لساحة العملية، وهو الأكثر عرضة للتعامل المباشر مع الأمنيين.

يقول الدو، بخصوص عملية شارع محمد الخامس قبل 4 سنوات، إن الأمنيين صبوا جام غضبهم وقتها على الصحفيين وكأن الكارثة تعنيهم هم فقط، لكنه أوضح أنه خلال العملية الإرهابية الأخيرة في شارع "شارل ديغول"، لم تُلاحظ تلك اللخطبة وعدم التركيز والغضب والتذبذب وفق تعبيره.

ويضيف محدثنا أن تطورًا كبيرًا في طريقة تعامل الأمنيين يشمل أيضًا كيفية حديثهم مع الصحفيين "بات الأمنيون قادرين إثر كل عملية وبسرعة كبيرة على تقسيم مكان العملية وحمايته مع تخصيص مكان للصحفيين وإحداث دائرة كبيرة من الحواجز لمنع المواطنين من الاقتراب".

تطور لافت في تعامل الأمنيين مع الصحفيين خلال العملية الأمنية في شارع شارل ديغول في جوان/يونيو 2019

 

يستذكر المصوّر الصحفي أنه خلال تغطيته لمظاهرات في مدينة القيروان عام 2015، وقعت محاصرته مع زملاء له في مكان بين قوات الأمن والمتظاهرين، في "موقف خطير جدًا" وذلك قبل أن تتقدم سيارة شرطة كبيرة الحجم إلى مكان الصحفيين لتنقذهم وتحملهم إلى مكان آمن، وفق حديثه.

لم يقتصر تطور أداء الأمن التونسي في التعامل مع الأحداث الإرهابية فقط، فبمناسبة انعقاد القمة العربية بتونس في مارس/آذار الماضي، كنتُ وسط العاصمة لتغطية بعض المظاهرات الرافضة لانعقاد القمة، وقد انصب اهتمامي على خطة قوات الأمن للتعامل مع المظاهرات التي كانت على درجة كبيرة من التنظم.

تعامل الأمنيين مع مظاهرات ضد القمة العربية بتونس (عبد السلام الهرشي/ألترا تونس)

 

وقد انقسمت القوات الأمنية إلى 3 فرق تقف خلف بعضها لكل فرقة قائد، وكانت مهمة الفرقة الأولى هي منع المتظاهرين من التقدم، ودور الفرقة الثانية هو معاضدة الفرقة الأولى، أما الفرقة الثالثة مخصصة للتدخل إن احتاج الأمر لدفع المتظاهرين إلى التراجع. ولم يكن يحمل الأعوان أية أسلحة ولم تحصل أية مناوشات، كان الأمر سلسًا وظهر القادة الأمنيون على الميدان على درجة عالية من التركيز.

تطور في التعامل الأمني.. لكن النقائص قائمة

لم يتقتصر تطور الأداء الأمني على العاصمة فقط، إذ كانت ملحمة بنقردان عام 2016 شاهدة على حجم التعاون بين المواطن والأمني والصحفي. بلال مبروك، مراسل لقناة أجنبية واكب العملية الإرهابية في بنقردان منذ بدايتها، يخبرنا أن التعامل مع الصحفيين وقتها كان سلسًا وكانت ظروف العمل جيدة حتى أن الصحفيين لم يواجهوا مشاكل فيما يتعلق بتوفر المعلومة.

لكن من جهة أخرى، يؤكد بلال على وجود بعض النقائص قائلًا: "يوجد تطور لافت في التعامل مع العمليات في حد ذاتها ما سهل عمل الصحفيين بطريقة كبيرة لكن لا يزال يوجد الكثير من العمل فيما يتعلق بالمعلومة. حين حدوث إعلامية إرهابية في الدول المتقدمة، تنعقد نقطة إعلامية كل ساعة لتوفير المعلومة بطريقة عادلة لجميع وسائل الاعلام وقطع الطريق عن الشائعات إلا أنه في تونس تشعر بوجود إنتقائية في تقديم المعلومة".

بلال مبروك (مراسل صحفي): تنعقد نقطة إعلامية كل ساعة حين حدوث عمل إرهابي في الدول المتقدمة لتوفير المعلومة بطريقة عادلة لجميع الإعلاميين إلا أنه توجد في تونس إنتقائية في تقديم المعلومة

وبحثًا عن أسباب تطور تعامل قوات الأمن بالخصوص مع الصحفيين خلال العمليات الإرهابية وهل يعود الأمر لدورات تدريبية مكثفة أم للتجارب المكتسبة على مدى السنوات الماضية، اتصلنا بكاتب عام نقابة الإدارة الفرعية لفرق الطريق العمومي وسيم محمودي الذي أكد أن تواتر العمليات الارهابية منذ 5 سنوات أكسب الأمن التونسي كفاءة وخبرة في التعامل مع هذه العمليات وحتى الجرائم العادية.

وتحدث النقابي الأمني، أيضًا، عن مساعي وزارة الداخلية إلى تحسين صورتها التي تم ترجمتها في عدد من اللقاءات والدورات التدريبية والعمليات البيضاء أهمها دعوة الصحفيين سنة 2015 من قبل مدير عام التكوين سمير الطرهوني بالمدرسة الوطنية بسيدي سعد لمحاكاة بعض الأحداث وتدريب الصحفيين والأمنيين على التعامل في هكذا حالة.

يمكن القول خلاصة، وتحديدًا بعد حادثة شارع" محمد الخامس" عام 2015، إنه يوجد اتفاق من المتابعين للشأن الأمني وبالخصوص من الصحفيين على تطور أداء وزارة الداخلية في التعامل مع العمليات الإرهابية وتحديدًا حول تطور تعامل الأمني مع الصحفي وكذا المواطن، ولكن لا يزال الكثير من العمل لإنجازه لسد العديد من النقائص خاصة فيما يتعلق بتوفير المعلومة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما هي أخلاقيات الصحفيين التونسيين؟

كيف بات يفهم التونسيون كلمة "جبل" في السنوات الأخيرة؟