مع نهاية كلّ عام ميلادي، يطلّ علينا العرافون والمنجمون عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، كلّ يحمل معه حساباته الفلكية بنجومها وكواكبها، أو كرة الكريستال أو أوراقه وقواقعه ورماله. يتنافسون في عرض توقعاتهم وتكهناتهم التي يقدّمونها بطريقة مغرية مثيرة، لاستمالة الناس لتصديق ما يتنبؤون به عن الحروب والأوبئة والاقتصاد والسلم وعن الكوارث الطبيعية وغيرها من أمور الغيب. ولم تعد تكهناتهم محدودة في الزمن أو المنطقة الجغرافية، فقد باتت عابرة للحدود، يتكهنون بكلّ ما قد يحدث في دول غير دولهم وما قد يهدد شعوبًا أو مناطق في العالم.
وكم من تكهنات وادعاءات ثبت كذبها، وكُشف زيف مُدّعيها. لكن على الرغم من ذلك تتشبث العديد من وسائل الإعلام سنويًا بعرض تكهناتهم خلال ليلة رأس السنة. وتتنافس هي الأخرى في استدعاء أشهرهم على المستوى العربي والعالمي، ليظلّ النقاش محتدمَا بين المدافعين عن التنجيم وبين منتقديه. وبين هذا وذاك مازال لعالم التنجيم والتنبؤ عشاق حدّ الإدمان.
يبرز وجود العرافين والمنجمين أكثر في الأزمات والكوارث نتيجة لحالة الارتباك المجتمعي الذي يعيشه الناس والخوف من المجهول، فيظهرون خلال الحروب والأزمات الدولية بشكل خاص
وقد يبرز وجود العرافين والمنجمين أكثر في الأزمات والكوارث نتيجة لحالة الارتباك المجتمعي الذي يعيشه الناس، والخوف من المجهول، فيظهرون خلال الحروب والأزمات الدولية للتنبؤ بنهاية تلك الحروب أو خلال ظهور أوبئة تهدد شعبًا ما.
بل باتوا خلال السنوات الأخيرة يظهرون حتى خلال التظاهرات الرياضية الكبرى سواء في المنافسات القارية أو العالمية. وباتت تصدر كتب بالآلاف تتضمن تنبؤاتهم السنوية. كما تزايدت في الفترة الأخيرة أعداد من يحرصون على متابعتهم عبر البرامج المتخصصة لقراءة الطالع، وما يدفعهم إلى ذلك سوى الشعور بالإحباط والخوف من المجهول، والسعي للاطمئنان حتى ولو التعلق بمجرّد وهم.
منجمون عالميون
ورغم التقدم العلمي الذي وصلته البشرية، إلا أنّ ظهور المنجمين والعرافين لم يرتبط بفترة زمنية معيّنة، بل ارتبط بالأساس بحصول بعض الأحداث الغامضة التي عجز العلماء عن تفسيرها، فقد وجد قراء الطالع في ذلك الفراغ العلمي مكانا للتموقع والغوص في علوم الغيبيات لتفسير بعض الظواهر أو التنبؤ ببعض الأحداث الأخرى أو الحديث في أمور عجز العلم عن تفسيرها، ليطفو المشعوذون والدجالون لنشر سلسلة من التنبؤات، لمواجهة الأمراض الوبائية، أو الحديث عن فيروسات قاتلة، أو لإنهاء حروب بين دول أو لنهضة اقتصاد، أو حتى لتقديم سبل للنجاة والخلاص.
أشهر المتنبئين بعدّة أحداث والتي كثيرًا ما تعود العديد من وسائل الإعلام إلى تنبؤاتها، امرأة تدعى "فانغا" التي ظهرت في بداية القرن العشرين. نُشر حولها عشرات التقارير بعدّة لغات عن أشهر ما تنبأت به من أحداث. كُتب أنّها تكره لقب العرافة ولا تحب التنبؤ بالمستقبل وأنّها لا تنقل سوى كلام الكائنات التي تراها. وقيل إنّها تنبأت بالعديد من الأمور على غرار تفكك الاتحاد السوفيتي، وتفاصيل وفاة ستالين، وظاهرة الاحتباس الحراري، أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، كما تنبأت أنّ الرئيس الولايات المتحدة الأمريكية رقم 44 سيكون من أصول أفريقية، وهو ما حدث بالفعل بعد أن تولى باراك أوباما الحكم وكان هو الرئيس رقم 44. كما قيل إنّها تنبأت بتفشي فيروس خطير في 2020.
في تونس أيضًا ظهر بعض العرافين والمنجمين لتقديم تنبؤاتهم حول نهاية فيروس كورونا، فيما ادعى آخرون قدرتهم على علاجه مقدمين خلطاتهم الطبيعية
بعض ما نقل عنها وقيل أنّها تنبأت به كان قد حصل في حقبات تاريخية مختلفة، وكلّما حدثت كارثة عالمية إلاّ وعادت بعض وسائل الإعلام إلى نشر من قد تكون قد تنبأت به "فانغا" سابقًا، على الرغم من عدم وجود أي فديو أو تسجيل أو كتاب يوثق حقيقة ما قد تنبأت به بالفعل، ليقع نقل تنبؤات لا دليل ثابت إن كانت بالفعل قد تنبأت بها بالفعل، أو أنّ ما ينقل عنها هو مجرّد أقاويل قد تكون لا دخل لها بها.
من بين بعض الأسماء الأخرى التي كثيرًا ما تظهر في وسائل الإعلام العربية والعالمية، خلال حدوث بعض الكوارث، العراف الفرنسي "ميشيل دي نوستراداموس"، صاحب كتاب "Propheties" (التنبؤات)، والذي بات أشهر كتاب في العالم حول التنبؤات، لاحتوائه على الكثير من الأحداث المزمع حدوثها منذ زمانه، وحتى التنبؤ بنهاية العالم، لاسيما وأن تنبؤاته قد أثارت جدلًا واسعًا في أوساط الكنيسة وعند الملوك والحكام، خاصة عندما كانت بعض تنبؤاته تتعلق بوراثة العرش أو موت الملك أو هزيمة جيش.
في السنوات الأخيرة، ظهرت أيضًا العديد من الأسماء العربية والعالمية من المنجمين أو ما يطلق عليهم بـ"الفلكيين"، مدعين قدرتهم على التنبؤ بأحداث في المستقبل. وتتنافس وسائل الإعلام على استدعاء أشهرهم خلال رأس السنة تحديدًا لمعرفة ما قد يكشفونه من كوارث أو بشائر للعام الموالي، يقدّمونها بطريقة غامضة معقدة وقليلة التفاصيل حتى لا يقعوا في فخ التكذيب.
وسام (منجم) لـ"ألترا تونس": خوف الناس من المجهول جعلهم يبحثون عن أي أخبار مطمئنة حتى ولو عبر المنجمين والعرافين
ومع انتشار فيروس كورونا في ووهان بالصين، وانتقال العدوى إلى العديد من الدول الأخرى، عادت بعض وسائل الإعلام والبرامج التلفزيونية إلى عرض بعض التنبؤات السابقة لبعض المنجمين الذين تحدثوا عن ظهور وباء وانتشاره في عدّة دول.
فيما استضافت وسائل إعلام أخرى بعض أولئك المنجمين لاستقصاء تنبؤاتهم حول موعد نهاية الفيروس وتأثيراته على العالم وتداعياته الاقتصادية وغيرها من أمور الغيب. بعضهم قال إنّه وباء ظهر فجأة وسينتهي فجأة، وبعضهم قال إنّ نهايته ستكون مع نهاية الشهر المقبل، والبعض قال إنّ الوباء سيُحدث تغييرات كبيرة على مستوى العلاقات الدولية وتمركز القوى في العالم. وقدموا تفسيراتهم بطريقة غامضة دون تفاصيل. فيما تنبأ البعض الآخر بنهاية الوباء وظهور آخر في أفريقيا لكنّه أقل خطورة.
في تونس أيضًا ظهر بعض العرافين والمنجمين لتقديم تنبؤاتهم حول نهاية فيروس كورونا، فيما ادعى آخرون قدرتهم على علاجه مقدمين خلطاتهم الطبيعية التي تشفي من كلّ داء وتتماشى مع أي فيروس قد يظهر في العالم. ورّبما قد لجأ العديد من التونسيين إلى استفسار بعض المنجمين والعرافين حول نهاية الفيروس، بعيدًا عن مخابر العلماء والباحثين في الطبّ، وعن الإحصائيات والأرقام والحقائق العلمية والبحوث وغيرها، دافعهم الخوف من المجهول والفضول لمعرفة موعد نهاية كابوس عزل ربع سكان الأرض تقريبًا.
يقول وسام (39 سنة)، أحد المنجمين لـ"ألترا تونس"، إنّه يتلقى يوميًا عشرات المكالمات، كلّ يبحث عن طالعه وما قد يخفيه مستقبله وتتكشف عنه الأبراج، مضيفًا أن العديد منهم باتوا يسألونه اليوم عن الفيروس وموعد نهايته وكيف ظهر أو كيف سينتهي وغيرها من الأمور التي من الممكن أن يتنبأ بها عن الأمر". وبيّن أن "خوف الناس من المجهول جعلهم يبحثون عن أي أخبار مطمئنه حتى ولو عبر المنجمين والعرافين".
حبيب الرياحي (باحث في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": فئات عديدة لا تولي أهمية للتقدم العلمي ولقيم التغير الاجتماعي وفق قيم عقلانية ولكنها تتشبث بطقوس خرافية
من جهته، قال الباحث في علم الاجتماع، حبيب الرياحي، لـ"ألترا تونس"، إن الاستقرار الصحي بالنسبة للشخصية التونسية يعتبر "رأسمال الحياة" على حد تعبير فئات عديدة من المجتمع التونسي، كما أنّها تتوجس كثيرًا من المستقبل كما ذهب إلى ذلك المنصف وناس في كتابه" الشخصية التونسية محاولة في فهم الشخصية العربية". وأضاف الرياحي "وباعتبار ما نعيش على وقعه هذه الأيام من خلال تفشي وباء كورونا وما أحدثه من حالة هلع وخوف وريبة خاصة أنه وباء فتاك يهدد البشرية جمعاء، عادت ظاهرة اللجوء إلى العرافين والمنجمين وهي ظاهرة قديمة قدم المجتمع التونسي بحثًا عن خبر سار حول موعد انتهاء الكورونا وعودة الحياة إلى نسقها العادي".
كما أبرز أنّ "هذه الظاهرة يمكن قراءتها سوسيولوجيًا، فاللجوء إلى هذا العالم الروحاني والسحري يعتبر سبيلًا للخروج من حالة الحيرة إلى الاطمئنان على المستقبل، فصناعة الوهم وترويج أنّ الوباء زائل في ميعاد معيّن يعتبر عاملًا من عوامل تغيير الواقع الاجتماعي، وهذا ما يجعل فئات اجتماعية عديدة تؤمن بهذه الخرافات وتعمل على تعميمها على بقية مكونات المجتمع".
وختم بالقول إنّ فئات عديدة لا تولي أهمية للتقدم العلمي ولقيم التغير الاجتماعي وفق قيم عقلانية ولكنها تتشبث بطقوس خرافية وتعطي ثقة تامة لباعة الوهم، على حدّ تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا:
المهاجرون وطالبو اللجوء في تونس.. معاناة مضاعفة زمن الكورونا