علاقة الإنسان بالأشياء والكلمات والأمكنة والمعاني، تبدو بعد محكومة بالأسرار والحكايا العجيبة والقصص السريالية المخاتلة لبنيات العقل الساكنة والثابتة المليئة بالاستقرار. هي بعد تبحث لها عن خيطها السري الممتد من الطفولة البعيدة إلى جوهر الحضور العاتي اليوم، تمامًا كأغنيات بلا أشعار وأقمار لا تعرف مأتى نورها المشع وأزهار في الأعالي لا تعلم لماذا الريح تريد لها الاقتلاع والتطويح بها في السماوات العالية.
علاقة الإنسان بنفسه وبمحيطه غير مفهومة وغير محدودة. بل تبدو أحيانًا بلا ضفاف لتكون أشمل وأبعد أثرًا وتخضع لبورصة اللاّمعقول والمزيد من التأمل والبحث عن معنى المعنى. هي علاقة تتغير مؤشراتها في كل وقت وحين وتسافر إلى أبعاد مجهولة في المبنى والدلالة. لذلك نجد أن هذا الإنسان يرتّب علاقاته مع نفسه ومع عوالمه الضاجة واللامرئية أحيانًا بأساليب غريبة ويعايشها على نحو غير متشابه وعلى إيقاعات غير نمطية.
علاقة الإنسان ببعض أرقام الهاتف لديه هي قصص صغيرة فيها المجهري وفيها المركّب والبسيط، وفيها العفوي والسحري، لكنها في النهاية تحيلنا على وجه آخر للبنية العاطفية والنفسية للكائن البشري
وضمن هذه الدائرة التي يتداخل فيها النفسي بالاجتماعي، سنتطرق تحديدًا إلى علاقة الإنسان بأرقام هواتف بعينها، يحفظها عن ظهر قلب ولا تغيب عنه أبدًا بل هي حجر زاوية في الذاكرة، منطبعة ومشعة ولا يريد لها النسيان، فقط لأنها ارتبطت بأحداث عاطفية أو تهم العمل أو أخرى تهم العائلة والأصدقاء.
علاقة الإنسان ببعض أرقام الهاتف لديه هي قصص صغيرة فيها المجهري وفيها المركّب والبسيط، وفيها العفوي والسحري، لكنها في النهاية تحيلنا على وجه آخر للبنية العاطفية والنفسية للكائن البشري، وجه بالكاد نراه، لكنه موجود إذا دققنا النظر من حولنا.
- "نعم أسافر من أجل استرجاع رقمي القديم"
فهذا "محمد الطاهر" (اسم مستعار)، وهو كهل جاوز الأربعين من عمره ويبدو رياضيًا وعلامات البشاشة لا تغادر محياه ويشتغل سائق سيارة أجرة بالعاصمة، تحدث لـ"الترا تونس" عن علاقته برقم هاتف بعينه، فقال عندما توقفت التاكسي في تقاطع باب سعدون في اتجاه ضاحية باردو: "هو رقم يعزّ عليّ كثيرًا لأنّه يذكرني بالحب الأول والأخير". ويضيف مبتسمًا أن الرقم محور حديثه كان قد اقتناه منذ الطفرة الأولى للهاتف الجوال في تسعينات القرن الماضي في تونس، وبواسطته تعرف على زوجته الحالية وعاش معها قصة حب عاتية أصبحت مضرب الأمثال في حيهم لصفائها ونقائها.
وأوضح "محمد الطاهر" أنّ هذا الرقم عاش معه كل الهزات التي عرفتها هذه العلاقة طيلة فترة الخطوبة وأيضًا كان هذا الرقم وسيطًا حاملًا لكلمات حب جياشة قالها لخطيبته خلال سهرات وأسمار لا تنسى.
محمد الطاهر (سائق سيارة أجرة) لـ"الترا تونس": تنقلت من العاصمة إلى زغوان فقط من أجل استعادة رقم هاتف عزيز جدًا عليّ كنت قد اقتنته منذ التسعينات وعايش معي قصة حب عاتية أصبحت مضرب الأمثال
وأشار صاحب سيارة الأجرة إلى أن هذا الرقم كان لا يفارقه رغم اقتنائه أرقامًا أخرى من مشغلين جدد للهاتف الجوال بتونس، وكان يشحنه من حين لآخر حتى يستمرّ، لكنه غفل عن شحنه لمدة مطولة بعض الشيء فما كان من الشركة المشغلة إلا أن أغلقت الرقم وأعادت تسويقه لشخص آخر.
ويروي "محمد الطاهر" أنّه تفطّن للأمر عن طريق زوجته التي هاتفته على رقمهما القديم فكان المخاطب من الجهة الأخرى صوتًا نسائيًا. ويضيف أنه اتصل بالسيدة مالكة الرقم وتبين أنها تقطن في مدينة زغوان وسرد عليها قصته مع رقم الهاتف. ومن ثمة تنقل مع زوجته إلى زغوان من أجل استرجاع الرقم فالتقى بالسيدة المذكورة وزوجها وتعرفوا جميعًا على بعضهم البعض، وانتهى اللقاء بأن قدمت له السيدة تنازلًا مكتوبًا عن الرقم قدمه إلى مصالح الشركة المعنية واسترجعه من جديد.
ويختم محدثنا قصته بالقول إنه شعر وزوجته بسعادة غامرة إثر استرجاع رقم الهاتف القديم المحمل بالذكريات الجميلة، ويذكر أن كل العائلة احتفلت بذلك بما في ذلك الأبناء.
- "بعد وفاة والدي كنت أشحن هاتفه واتصل به وأنتظر الرد من الجهة الأخرى"
"سامي" لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو مهندس صيانة لمعدات الإعلامية ويشتغل بشركة أوروبية مستثمرة بتونس، خلال جلسة جمعتني به بأحد مقاهي حي لافيات بالعاصمة تونس، حكى هو الآخر قصته الغريبة مع رقم هاتف. إذ روى في البداية أنه وحيد أبويه، وكان والده معلّمًا مرموقًا ومحبوبًا في مدينتهم العريقة القيروان. وكان يعتبره أبًا فوق العادة لما غمره به من محبة وعلم.
ويضيف أن والده توفي فجأة بسبب سكتة قلبية، وكانت صدمة قصمت ظهره. يقول سامي إنه لم يستوعب الأمر لأنه كان متعلقًا بوالده ويعتبره رمزًا ومرجعًا له في كل شيء فشعر بفراغ كبير بسبب هذا الغياب.
سامي (مهندس) لـ"الترا تونس": لم أستوعب الوفاة المفاجئة لوالدي وصرت أعمد إلى شحن هاتفه باستمرار والاتصال برقمه دائمًا في نفس الساعة التي كان يهاتفني فيها سابقًا حتى أحسّ بنوع من التواصل معه رغم رحيله
وذكر أنه كان يهاتف والده يوميًا ويخصص وقتًا للحديث إليه والتشبع بنصائحه المتواصلة وتسرّب أدعيته التي لا تنقطع عن لسانه. ويضيف المهندس سامي أنه، بعد الرحيل المفاجئ، كان في كل مرة يشحن هاتف والده ويخاطبه في نفس الموعد الذي كان يخاطبه فيه سابقًا وينتظر أن ترفع السماعة من الجهة الأخرى بالقيروان ويسمع صوت والده.
وأكد أنه شديد الوعي بما يفعل وأن دقات قلبه أصبحت متماهية مع رنات هاتف والده في كل مرة كان يهاتفه فيها رغم رحيله منذ أزيد من سنة. وختم سامي حديثه بتأكيد أنه لم يستطع القطع مع تلك العادة واعتبر ذلك الفعل نوعًا من التواصل مع والده الراحل.
- "لا أقبل أن تهاتفني والدتي من رقم غير رقمها الذي ترعرعت على إيقاعه"
أما "منار"، وهي طالبة ماجستير بمجال هندسة المجال وتصميم المواد بالجامعة التونسية، فذكرت لـ"الترا تونس" أن علاقتها بأرقام الهاتف فيها الكثير من الوفاء والعاطفة، موضحة أنها مثلًا لا تقبل أن تكلمها والدتها من رقم غير رقمها الذي نشأت على إيقاعه منذ صغرها وتعودت أن تسارر والدتها عبره. وهي تعتبره مخزن كل ذكرياتها من الطفولة إلى اليوم، وهو أيضًا الرقم الذي تعلمت من خلاله أثناء الطفولة استعمال الهاتف وتلك المغامرات الأولى قبل اقتناء هاتف خاص.
وأضافت منار أن رقم والدها مشحون هو الآخر بالقصص والذكريات الباذخة، مشيرة إلى أنها لا تتخيل أن يتصل بها والدها يومًا من رقم آخر غير رقمه.
كما أشارت منار إلى أنها اقتنت شريحة هاتف من إحدى صديقاتها لتحتفظ بها كذكرى فقط لأنها توصلت من خلالها بخبر نجاحها في الجامعة وحصولها على شهادة الإجازة.
- الأبعاد السيكولوجية للتعلق بالأرقام
حملنا هذه القصص المشحونة بتعلق بعض الناس بأرقام هواتف بعينها دون غيرها إلى الأستاذة سوسن درين المختصة في علم النفس والباحثة بالجامعة التونسية حتى نفهم أكثر فأكثر طبيعة هذه العلاقة وسبر ما أنتجته من سلوك نفسي.
سوسن درين (مختصة في علم النفس) لـ"الترا تونس": في لحظة الفراغ العاطفي والنفسي تتحول الأرقام إلى ملاذ، وفي حالات موت ورحيل الأحبة يتحول رقم الهاتف إلى همزة وصل مع الفقيد البعيد الذي ذهب إلى الضفة الأخرى من الوجود
وقد أكدت منذ البداية أن الإنسان الذي تنهض بنيته النفسية على ثلاث حسب مدرسة التحليل النفسي، الهو والأنا والأنا الأعلى، تنتج فيما تنتج سلوكات تعود إلى عناصر تلك البنية وتتفاوت حسب مسارات الطفولة والحياة بتشعباتها فيما بعد.
وأضافت سوسن درين أنّ من المخرجات الأصلية للبنية النفسية للإنسان نجد قيمتي الاعتراف والوفاء، أي الاعتراف لمن نحب ومن قدّم لنا جميلًا ومن درّسنا ومن جعلناه مؤثرًا في حياتنا، وحتى للمكان الذي نشأنا فيه والطبيعة التي طبعتنا بجمالها وتدربت أعيننا على النظر إليها يوميًا.
وبينت المختصة في علم النفس أنه "من هنا يأتي الوفاء لذاك العالم الصغير الذي تكون بفضل الاعتراف، لكن ثمّة شخصيات مغرقة في الوفاء للأشياء والأمكنة ولأناس بعينهم من العائلة ومن الأصدقاء أو دائرة العمل ومن هنا نفهم التعلق بأرقام الهاتف".
سوسن درين لـ"الترا تونس": يصبح رقم الهاتف في بعض الحالات إلى عنصر حي من عناصر الذاكرة لأنه يتحول إلى وسيلة لصناعة تلك الذاكرة فيصبح التعلق والتملّك ذريعة لحفظ ذاك الرصيد من الذاكرة
وتتابع في ذات الصدد: "في لحظة الفراغ العاطفي والنفسي تتحول الأرقام إلى ملاذ، وفي حالات موت ورحيل الأحبة يتحول رقم الهاتف إلى همزة وصل مع الفقيد البعيد الذي ذهب إلى الضفة الأخرى من الوجود، وفي حال فُقد الرقم الهاتف يشعر الشخص المعني بأن الفقد أصبح مضاعفًا وتنتابه حالات من الأسى المتواصل وعدم الشعور بالرضا. كما يصبح رقم الهاتف في بعض الحالات إلى عنصر حي من عناصر الذاكرة لأنه تحول إلى وسيلة لصناعة تلك الذاكرة فيصبح التعلق والتملّك ذريعة لحفظ ذاك الرصيد من الذاكرة، فلا نستغرب إذا من سفر أحدهم من مدينة إلى أخرى من أجل استرجاع شريحة هاتف من شخص آخر".
يبقى السلوك البشري في علاقته بالأشياء والأمكنة والمحيط والناس، محكومًا بعدة عوامل وعناصر إذا ما اكتمل حضورها تنتج ما يمكن تسميته بـ"الطفح النفسي" الذي يؤثر بدوره على الحضور داخل المجتمع، فنبدو أحيانًا طريفين وأحيانًا أخرى غريبين.
