10-أبريل-2019

قصص تحمل مشاهد عنف ورسائل خطيرة لا تراعي سن الأطفال (صورة توضيحية/Getty)

 

 

وقفت السيّدة سهام في شغف وتركيز تتصفّح قصّةً للأطفال داخل أحد الأروقة بمعرض تونس الدوليّ للكتاب (أفريل/ نيسان 2019)، كانت تلتهم الكتاب التهامًا، فتُنهيه في بضع دقائق، ثم تلتقط ثانيًا، فثالثًا، فرابعًا وهكذا، فتحتفظ بهذا وتعيد ذاك إلى مكانه. بدا سلوكُها غريبًا ولافتًا يُثير الفضول، تَحَدَّثْنَا إليها، بعد أن أنهت التفحّص، عن سرّ هذا التحرّي والتقصّي فأجابت في ثقة ووضوح وثبات بما معناه "لا أشترِيَنَّ قصّةً إلّا بعد التحقّق من لغتها ومضمونها".

علّلت هذه المرأة الحريصة المتيقِّظة عزمها الصارم قائلة بلهجة تونسيّة خالية من التعقيد" ثمّه قِصَصْ لغتها خايبه وحْكَايَاتْها مَا تِعْجِبْشْ"، هذا التعليل لا ينطوي على تصوّر نقديّ عميق يتّصل ببنية القصّة وحِبْكتها وأسلوبها وأبعادها ومرجعيّاتها ومقاصدها، إنّما هو موقف تلقائيّ بسيط، لكنّه يُنبّه إلى ضرب آخر من المخاطر التي يتعرّض لها أبناؤنا، مخاطر تتسرّب لهم من خلال ما تتضمّنه قصص الأطفال من زلّات وانحرافات.

اقرأ/ي أيضًا: المحتوى الإعلامي الموجّه للأطفال.. ماهي الخطوط الحمراء؟

القصص المسمومة

شعارُ معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الخامسة والثّلاثين "نقرأ لنعيش مرّتين" وشعار سهام شأنها شأن غيرها من الأمّهات والآباء "نقرأ كُتُبَ الأطفال مرّة ومرّتين" وذلك قبل عرضها على الأطفال لحمايتهم من "القصص المسمومة". فعنوان الكتاب واسم مؤلّفه ودارُ نشره وغلافُه عناصر لم تعد تمثّل بالنّسبة إلى الوليّ مؤشّرًا على الصّلاحية الفكريّة والأدبيّة والذوقيّة والأخلاقيّة.

هذا المشغل قد يبدو هيِّنًا بسيطًا ناعمًا في ظنّ المواطن التونسيّ قياسًا إلى ما تعرّض له الأطفال خلال الأشهر الأخيرة من انتهاكات طالت الأجساد والنفوس والأذهان، وتجسّدت اغتصابًا وتحرّشًا في عدد من المدارس وإكراهًا على نمط حياتيّ متطرّف في بعض الكتاتيب وإهمالًا أفضى إلى الموت في المبيتات والمستشفيات والطرقات.

إن الوهن الذي أصاب كتب الأطفال قد تحوّل إلى ظاهرة ترقى إلى مستوى الأزمة وهو من كبائر الآثام التربويّة التّكوينيّة التي تطال الناشئة

رغم ما يبدو من تباين في الخطورة بين زلّات الأقلام وما يواجهه أطفالنا من وأد وإجرام، فإنّ ذلك لن يدفعنا إلى التعامل باستخفاف مع "الانحرافات القصصيّة" لسببين على الأقلّ:

الأوّل كمّيٌّ يتمثّل في أنّ الوهن الذي أصاب كتب الأطفال قد تحوّل إلى ظاهرة ترقى إلى مستوى الأزمة، فلو سلّمنا أنّها من الصّغائر قياسًا إلى بقيّة الجِنايات، فإنّ كثرتها وانتشارها الواسع وتواترها يجعلها من كبائر الآثام التربويّة التّكوينيّة التي تطال الناشئة.

والسبب الثاني الداعي بإلحاح إلى التركيز على هذا الضرب من الإهمال هو نوعيٌّ، ذلك أنّ "الطفل أب الرّجل" فالخطأ في توجيه هذه الفئة معرفيًا وقيميًا وذوقيًا من شأنه أن يُخلّف لاحقًا جيلًا غير متوازن مضطربًا عنيفًا شاذًا متطرّفًا، فالإهمال السلوكيّ مهما كانت خطورته بالزّجر والقانون والرّقابة يمكن أن يُجْبَرَ، أمّا الإهمال التربويّ ومنه "الإهمال القصصيّ" يمكن أن لا يُبقِيَ ولا يَذَرَ.

لهذين السّببين وغيرهما، نفتح في "ألترا تونس" ملفّ الزلّات والانحرافات في قصص الأطفال، وحتّى نرفع الحرج والشكّ عن القارئ الذي أضنته المغالطات وأقضّت مضجعه المبالغات، قمنا برصد دقيق لهذه التجاوزات في حقّ الأبرياء والفلذات.

اقرأ/ي أيضًا: "رد بالك على عصفورتك".. عن عالم الجنس وبراءة الطفولة

زلّات في حجم المأساة

لا تَحتاجُ إلى أن تكون باحثًا أو مختصًا لتقفَ على مستنقع الانحرافات الذي سقطت فيه قصص الأطفال، ولا يقتضي الأمر لرصد هذه الظاهرة كفاءة في البحث وكدّا للذهن، خُذْ عشرة كتب موجّهة إلى الناشئة دون فرز أو انتقاء، وانظر فيها بصفة تلقائيّة عفويّة ستعترضك في إحداها أو في بعضها زلّاتٌ ترقى إلى مرتبة المأساة. في هذا السياق، يمكن أن نذكر ثلاثة نماذج على سبيل التعليل والتبرير لا بمقصد الفضح والتشهير، فالمقال العلميّ والإعلاميّ يقومان على الدليل والبرهان والمثال، وبالمثال يتّضح الحال.

الأنموذج القصصيّ الأوّل هو كتاب صدر سنة 2014 بعنوان "الضفادع تطلب ملكًا"، حجمه صغير جدّا يتكوّن من حوالي مائة وعشرين كلمة زلّاته تتخطّى عدد صفحاته السبع. ففي الصفحة الأولى" تتضرّع الضّفادع إلى الله تعالى أن يجعل لهم (هكذا وردت في الكتاب) ملكًا"، وفي الصفحة الرابعة "سألت الضّفادع أن يمنّ عليها بملك آخر يأمر وينهى"، وفي الصفحة الأخيرة "قال بعض الضفادع علينا أن نرضى لواقعنا..".

قصة الأطفال "الضفدع تطلب ملكًا"

هذه الشواهد وغيرها فيها فضلًا عن الأخطاء اللغويّة، إشارات ترقى إلى مستوى التصريح بمواقف تتعارض مع قيم التخطيط والإرادة والشجاعة، وفيها ردود أفعال وأقوال تعدل عن النزعات التحرّريّة والعقليّة، بل فيها دعوات إلى قبول الاستبداد سبيلًا إلى الأمان، وفيها إيهام بأنّ التمسّك بالاستقرار يقتضي القبول بالهوان. كما تتضمّن تأكيدًا على أنّ تصحيح المسار سليلُ الدعاء والتسليم بالأقدار، فبأيّ عقيدة وبأيّ رأي سيقرأ من تربّي على هذا الضرب من القصص بيت أبي القاسم الشابي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بدّ أن يستجيب القدر

وكيف سيقيِّم قارئُ هذا اللون من الحكايات سلوك الشباب التونسيّ الذي تصدّى للمستبدّ في ثورة الحريّة والكرامة بسلاح العزم والشّهامة؟

المزالق التربويّة القيميّة في القصّة المذكورة تبدو أدنى خطورة ممّا يقصفنا به الأنموذج الثاني. إذ انفتحت قصّة "الضفدعة والفأر" على وصف دقيق مفصّل لبعض مشاهد العنف والتنكيل بالجثث اخترقت أكثر من ثلثي الكتاب الممتدّ على أقلّ من مائة كلمة. فقد تحوّلت الضفدعة فجأة دون مقدّمات وبلا دوافع أو أسباب من أوثق مراتب اللطف والوداعة إلى أخطر درجات العداء والصّاديّة، "ففي يوم من الأيّام خطر ببال الضفدعة أن تقتل صديقها الفأر ظلمًا، فقالت في نفسها سأعبث بهذا الفأر وأضحك من صياحه وسأجد غيره أتّخذه صديقًا".

رسائل عنف لا تراعي سن الناشئة

ويتمادّي القصّاص في وصف المشهد الدمويّ قائلًا: "ربطت ساقها بساق الفأر، وكان الحبل قصيرًا، وأخذت تجرّه تارة وتقترب تارة أخرى حتّى وصلت إلى المستنقع، فارتمت في الماء وجرّت معها الفأر الضعيف إلى قاع الغدير، فمات وطفت جثّته فوق الماء"، وتتواصل مشاهد الرعب لتدرك ذروتها في أخر صفحة من القصّة في عبارة جاء فيها" مزّقها النسر بمخالبه، وقدّمها أكلة لرفاقه".

مشاهد عنف وتنكيل لا تتناسب مع سنّ الأطفال

النموذج الثالث فيه دعوة إلى مجاراة الناس إذا انحرفوا وضلّوا، ففي قصّة "نهر الجنون"، قرّر الملك أن يتماهى مع شعبه الذي فقد عقله لمّا شرب من نهر الجنون، فبدا العاقل في هذه المملكة شاذّا إذ قال الوزير لسيّده "أيّها الملك لم يبق إلّا أنا وأنت لم نشرب من النهر فبدى (هكذا كتبت بخطأ في الرسم) لأهل المملكة أنّا نحن المجانين وهم العقلاء لذاك أحضرت ماء من النهر لنشرب منه وهكذا يستوي حالنا بحالهم".

قصة الأطفال "نهر الجنون"

هذه الأمثلة الحمّالة للعديد من الانزلاقات القيميّة والسلوكيّة والأسلوبيّة لا تضاهي عنفًا وانحرافًا ما تفطّن له المختصّون.

في هذا السياق، تحدث لطفي الحجلاوي، الدكتور الجامعيّ وأديب الأطفال، لـ"ألترا تونس" قائلًا: "يكفيك أن تتجول في معرض الكتاب وتتابع ما يُطبع سنويًا حتى تجمع العديد من النصوص الضعيفة أو التي بها سقطات أحيانًا غير مقبولة وأحيانًا أخرى كارثية".

الجامعي وأديب الأطفال لطفي الحجلاوي (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

جبهة الإنقاذ القيميّ والتعديل الذوقيّ

رغم تراخي سلطة الإشراف في التصدّي لظاهرة "الانحراف القصصي" في أدب الأطفال، فإنّ فئة كبيرة من المجتمع التونسيّ شكلّت تلقائيًا ما يمكن نعته بجبهة الإنقاذ القيميّ والتعديل الذوقي. يتصدّر هذه الجبهة الأولياء المتيقّظون لما يستهلكه أبناؤهم من أعمال فنيّة، ففي سنة 2016 تفطّن بعض الآباء والأمّهات بولاية صفاقس إلى قصّة دُعِيَ أبناؤهم إلى مطالعتها تضمّنت مشاهد عنف وخمرة وأعمالًا منافية للحياء لا تتناسب مع الأفق الجماليّ لهذه الفئة العمريّة.

واللافت أنّ هذا النشاط قد كان في إطار تظاهرة " تحدّي القراءة"، تحت إشراف المعلّم، وبإيعاز من هؤلاء الأولياء فتحت المندوبيّة الجهويّة تحقيقًا أفضى إلى سحب القصّة من جميع المكتبات، وكان عذر المربّي عند التحقيق معه أقبح من ذنبه إذ تعلّل بأنّه لم يطّلع على القصّة قبل تقديمها إلى تلامذته.

 كوّنت فئة كبيرة من المجتمع التونسيّ تلقائيًا ما يمكن نعته بجبهة الإنقاذ القيميّ والتعديل الذوقي لمراقبة قصص الأطفال

وفي إطار هذه الهبّة التلقائيّة في مقاومة "الفساد القصصي" الذي يستهدف الأطفال، تفطن أحد زوّار معرض الكتاب في دورته السابقة إلى وجود "قصة مرعبة" صادرة عن دار نشر تابعة لإحدى البلدان العربية الشقيقة. وقد تضمّن هذا الكتاب الموجّه إلى الأطفال أحداثًا حول حرب أهلية، وكان مشحونًا برسوم وأفعال وأقوال تبيح بخطاب صريح مباشر القتل و"قطع الرؤوس" و"قطع الأيادي" تحت مسمى "الجهاد" وتحمل عنوانًا "اللّهم أرزقني الشهادة". سجل الزائر تلك المشاهد في فيديو ونشرها آنذاك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتحوّلت إلى قضيّة رأي عامّ ودفعت إلى فتح تحقيق أفضى إلى غلق الفضاء المخصّص لدار النشر المدانة بلون من ألوان الخطاب ذي الطابع الإرهابيّ.

ولئن بدت هذه الجبهة في مواجهة زلات قصص الأطفال وانحرافاتها فرديّة عفويّة، فقد مضت أطراف و مؤسّسات أخرى نحو أنشطة تنظيريّة وتشريعيّة وتأطيريّة وتطبيقيّة أوسع وأعمق وأدقّ في مقاومة خطر "القصص المسمومة" وهو من أهمّ العناصر التي سنتطّرق إليها في الجزء الثاني من تقريرنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس

المتحرّش بالأطفال أو "البيدوفيل".. مضطرب جنسيًا ومنبوذ اجتماعيًا