في سيرته الذاتية "التقرير إلى غريكو"، والتي ترجمها الشاعر ممدوح عدوان، تحدث الكاتب اليوناني "نيكوس كزنتزاكي" عن أصوات الأجداد التي تظل رابضة في فيافي الروح، وتنتظر أولى زخات المطر وأولى حبّات الدموع حتى تنهض فتسندنا بالآهات والاختلاجات والنداءت والصرخات، هي أصوات قصية داخل أفئدتنا، تسكننا إلى الأبد وتتنقل عبر الجينات من سلالة إلى أخرى.
احتضنت قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة في سهرة الجمعة 27 ماي 2022، العرض ما قبل الأول لـ"السيكودراما الموسيقية" التي حملت عنوان "غدًا يوم القيامة"
هذه الأصوات البعيدة، وتلك النداءات والغمغمات، حضرت ملامحها في العرض ما قبل الأول لـ"السيكودراما الموسيقية" التي حملت عنوان "غدًا يوم القيامة" والتي أعدّها فريق عمل وافر العدد والعدّة، قاده الموسيقي كريم ثليبي واحتضنته قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة في سهرة الجمعة 27 ماي/ أيار 2022.
لنتفق منذ البداية أن السيكودراما أو تشريح النفس بأدوات فنية قصد العلاج أو المداواة، أمر غير متداول في تونس وفي الوطن العربي بشكل عام، ويمكن إرجاع ذلك لطبيعة الحضارة الشرقية حيث نقيم وحيث انطبعت شخصيتنا. وبالتالي، يمكن اعتبار هذا المشروع هو الأول من نوعه لفرادته وابتكاره لطرق تواصلية جديدة مع المتلقي، وفي مستوى البحث الموسيقي والتوليف الفني بين روح السرد المكتوب، ورحلة الأصوات الدفينة، وابتداع ألحان حرّة طليقة من أجل تغيير شكل إقامتنا على الأرض.
أصل عنوان هذا المشروع الموسيقي الضخم "غدًا يوم القيامة" هو نفس عنوان رواية أدبية ألّفها الكاتب التونسي محسن بن نفيسة صاحب الرحلة الطويلة في الكتابة للمسرح والمسرح المدرسي، وهي المنطلق الأول لكامل الفريق من أجل إنجاز عملهم المذكور. وقد أبقى كريم الثليبي على العنوان نفسه، ربّما وفاء للنص الذي انطلق منه نحو بناء هذا المشروع الفني وأيضًا لأن هذا العنوان بقدر ما هو يشرّع على النهاية والانقضاء، نجده يحيل على المستقبل الواسع.
تحولت رواية "غدًا يوم القيامة" للكاتب محسن بن نفيسة، بعد تقليبها على عدة أوجه والبحث في صميمها، إلى ساعتين من الموسيقى الدافقة النابعة من أمكنة بعيدة في الروح
الانطلاق من نص سردي نحو بناء سيكودراما موسيقية ليس بالأمر الهيّن، لأن هذا التحويل يتطلب من الباحث الموسيقى أدوات وعي بآليات الكتابة الأدبية وأساليب الخطاب والأهداف التي يرنو إليها الكاتب، ومن خلالها يريد التغيير أو التأثير في المتلقي، سواء أكان فردًا أو مجموعة أو مجتمعًا بأسره. ومن ثمّة، حمل كل وجهة النظر تلك على أوتار الآلات الموسيقية بعد استنطاقها وتحويلها إلى نوتات.
وتقريبًا ذلك ما حصل مع رواية "غدًا يوم القيامة" للكاتب محسن بن نفيسة، إذ تحولت الرواية بعد تقليبها على عدة أوجه والبحث في صميمها من قبل الثليبي وفريقه، إلى ساعتين من الموسيقى الدافقة النابعة من أمكنة بعيدة في الروح.
في هذا العمل الموسيقي المخصوص، والذي يمكن اعتباره نوعا من "التيرابي"، تم تشريك الأركسترا السمفوني التونسي بقيادة الأستاذ المايسترو محمد بوسلامة بكامل عناصره لخبرته ونزوع مناخات الموسيقى التي ينجزها مع ما يريده مشروع "غدًا يوم القيامة"، فوعي الأركسترا وعناصره بالفكرة الأساسية للمشروع، تعتبر في حدّ ذاتها جزءًا من المشروع ذاته، وهو ما لمسناه من خلال العرض ما قبل الأول، فهمّة العازفين وحرارة الأوتار تحت أصابعهم تشي بذلك.
موسيقى عرض "غدًا يوم القيامة" تخارجت من النص السردي فيا يشبه حركة الموج الإيقاعية المتتالية، حيث كانت تتناهى إلى عقل المتلقي وعينه في شكل لوحات لحنية رتيبة وعنيفة، مهتزة وهادئة، باسمة وحزينة، قلقة ومجنونة، راكضة ونائمة.. موسيقى سيرانيّة محمولة على الإغواء الكبير والحفر الدفين في الأحزان، موسيقى تشبهنا إلى حد كبير، فإذا تأملناها كما يتأمل صوفي حركة غروب الشمس، فإنّنا نلمح نتفًا لحنية متسرّبة من حفلات الأعراس وأهازيج الحصاد وترانيم السباسب البعيدة.
كان الفنان الموسيقي وعازف الكمان المشهور زياد الزواري، مشاركًا في هذا العمل، يعزف بأصابع القلب ويقف كنخلة في مقدمة الأركسترا، فيما تبدو لمساته واضحة في هذا العمل الفني المفتوح/ الورشة.
كما لمسنا تميّز عازف النايات حسين بن ميلود، الذي كان ينفخ من عقله في القصب، بل كان رافعة كل الألحان التي بسطها الفريق في عرض "غدًا يوم القيامة".
هذه الموسيقى الجذابة والمتآلفة في عرض "غدًا يوم القيامة"، لم تكن لوحدها، لقد أسندتها أصوات دافقة وحناجر ملحمية مثل السوبرانو يسرى زكري، والشابة الفلسطينية ناي البرغوثي، والفنانة سنية مبارك، وسيرين الهرابي ومحمد علي شبيل وهيثم الحذيري وصابر الرضواني وسامي بن ضو.. وكانت فوانيس إضاءتها أيضًا من عناصر قوتها.
"غدًا يوم القيامة" هي حوار داخلي مع الذات ومع الآخر، وهي آلية شهيرة في مجال علم النفس السريري، ابتدعها "جاكوب ليفي مورينو" الذي كان يداوي مرضاه بإدماجهم في أعمال مسرحية وموسيقية
هذه الحناجر التي تعالت في صالة الأوبرا بتونس ليلة الجمعة 27 ماي/ أيار 2022، كانت منبثقة من شقوق جدران قديمة في قرى بعيدة على ضفاف روح متعبة أعياها السفر في الحياة. إنها أصوات الأجداد التي حدثنا عنها "نيكوس كزنتزاكيس" في تقريره إلى جده الغريكو، أصوات الملاحم التي عاشتها هذه الأرض، بل الملاحم التي عاشها الإنسان على مرّ الأزمنة، أصوات الحروب التي نزلتها البشرية، أصوات الفرح المتربص بنا في الزوايا، أصوات نشيج الأحبة عند الفجر، أصوات الرحيل والغربة، أصوات المطر وهي تلتحم برائحة أمّنا الأرض.
"غدًا يوم القيامة" هي حوار داخلي مع الذات ومع الآخر، وهي آلية شهيرة في مجال علم النفس السريري وقد ابتدعها "جاكوب ليفي مورينو" في النصف الأول من القرن العشرين، وهو طبيب نفسي يهودي روماني، درّس بعدّة جامعات بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان يداوي مرضاه بإدماجهم في أعمال مسرحية وموسيقية ويسند إليهم أداورًا شبيهة بما حدث لهم -وما يحدث في حياتهم اليومية- وتسببت لهم في آلام نفسية عميقة.
وكان "جاكوب ليفي مورينو" يحث مرضاه أيضًا على ممارسة الرسم، وهدفه الأسمى من ذلك هو تعبير المريض عن المكبوتات الكامنة والتي لا تطفو عادة بالمحاورة وجلسات الحديث العادية، وإنما بممارسة الفن حتى يتحقق النفاذ وينتفي الصراع الداخلي، وهو تقريبًا ما يصبو إليه هذا المشروع ويبدو أنه وفّق في ذلك.
من الضروري مراجعة السينوغرافيا على الركح، والتعويل على عملية إخراج واضحة المعالم، فكثرة دخول وخروج الفنانين، يبدو أنها أضرت بجمالية العرض
في هذا العرض ما قبل الأول للمشروع الإبداعي من جنس السيكودراما الموسيقية "غدًا يوم القيامة"، والذي أعتقد أنه مازال مفتوحًا ومشرّعًا على التغيير والتشذيب، يمكن الإشارة إلى ضرورة مراجعة السينوغرافيا على الركح، والتعويل على عملية إخراج واضحة المعالم، فكثرة دخول وخروج الفنانين، يبدو أنها أضرت بجمالية العرض.
كما أنّ لقطة الخروج النهائي للفرقة والفنانين بعد تحية الجمهور تتطلب مراجعة عاجلة، كما أن الشريط السينمائي المرافق للعمل والذي أعده خصيصًا المخرج "عبد الحميد بوشناق"، والذي يمكن حمل محتواه على أكثر من تأويل، فإنه بدا قصيرًا جدًا بالنظر إلى طول العرض نفسه.