هل يمكن أن نتخيّل تونس دون هجرة ومهاجرين؟
ببساطة لا يشوبها تبسيط، لم تكن تونس الإفريقيّة لتفخر ببعض ما فيها لولا الهجرات المتعاقبة، عربًا مشارقة ومغاربة وأندلسيّين وسودانيّين (بالمعنى التّاريخيّ لبلاد السّودان أي دول جنوب الصّحراء) وصقلّيين وطليان ومالطيّين وغير ذلك بمن فيهم الرّوس الذين لجؤوا لبنزرت هربًا من دمويّة الثورة البلشفيّة.
لولا كلّ ذلك، لم تكن تونس لتفخر بـ"الشّاشيّة"، و"الطّريزة" والطّماطم والعنب، ولولا هجرة الأندلسيّين لما رأت الهريسة النّور، ولما ميّز الجلّيز والقرمود الأخضر الجميل من العمران، ولولا هجرة أهل السّودان لما كان "السطمبالي" و"الشقاشق" شاهدان على ثراء موسيقات تونس ولما أثّث "بو سعديّة" خيالنا الطّفوليّ بسحر جنوب الصّحراء.
لم تكن تونس الإفريقيّة لتفخر ببعض ما فيها لولا الهجرات المتعاقبة، عربًا مشارقة ومغاربة وأندلسيّين وسودانيّين وصقلّيين وطليان ومالطيّين
ولولا تشوّهات الوعي الحديث والاستبطان الكولونياليّ لمنتوج أوروبيّ خالص هو الحدود وما يرتبط بها من تقييد حرية التنقّل، لما احتاجت تونس لـ"معايير دوليّة وحقوقيّة" تلتزم أو تستأنس بها في موضوع الهجرة، فالأعراف الاجتماعيّة وما تقتضيه من واجبات الضيافة وإجارة اللاجئ والحفاوة بعابر السّبيل تتقدّم على المعايير الدّوليّة بأشواط وتستند إلى أسس أخلاقيّة جماعيّة عميقة.
وإذا كان القسط (الموضوعيّة) يقتضي الإقرار بشوائب تاريخ الهجرة والوافدين وأوّلها العبوديّة في حقّ أهل السّودان، فإنّ إعلان العتق سنة 1846 الذي كرّسه المجتمع في الكتاتيب والمساجد والمدارس التي لجأ لها المُحَرّرون دون الحاجة إلى بأس الدّولة يمثّل نقطة مضيئة إضافيّة في تاريخ الهجرة إلى تونس.
شاهد/ي أيضًا: مهاجرون في مركز إيواء بمدنين:حلم العبور نحو أوروبا
وككلّ صائفة تتلاطم أمواج المهاجرين في تونس (وفي ليبيا أيضًا)، وتبدو تحدّيات إدارة الهجرة أكثر إلحاحًا، بيد أنّ هذه الأمواج تبدو عاتية في العالم بأسره، ويبدو أنّها تُنذر بأزمة ضمير كبرى شبّهتها يوم 18جوان/يوليو الماضي النّائبة الأمريكيّة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز بمحنة الهولوكوست إبّان الحرب العالميّة الثّانية، وهو تعليق أثار جدلًا واسعًا في خضمّ نقاش داخليّ مُحتدم حول مراكز الإيواء والاعتقال المُمَنهج للمهاجرين الذي تُمارسه إدارة ترامب.
وفي النّصف الثّاني من شهر جوان/يونيو، شهد العالم على الأقلّ حادثتين مأساويّتين: الأولى هي صورة جثّة الأب أوسكار ألبيرتو متأبّطًا طفلته الصّغيرة وهما غارقان في نهر ريو غراندي بولاية تكساس بينما الأمّ تشاهدهما من الضفّة المقابلة للنّهر، أمّا الحادثة الثانية فهي مأساة كانت بطلتها القبطانة الألمانيّة كارولا راكاتي التي رفضت قرار وزارة الدّاخليّة الإيطاليّة بعدم إنقاذ واستقبال المهاجرين العابرين من الضفاف الليبيّة إلى سواحل جزيرة لمبادوزا وانتهى الأمر باعتقالها يوم 29 جوان/يونيو.
الأعراف الاجتماعيّة وما تقتضيه من واجبات الضيافة وإجارة اللاجئ والحفاوة بعابر السّبيل تتقدّم على المعايير الدّوليّة بأشواط وتستند إلى أسس أخلاقيّة جماعيّة عميقة
وبالعودة إلى تونس، فإنّ أزمة المهاجرين في مركز الإيواء بمدنين وما تلاها في قابس من جدل حول دفن جثث المهاجرين من طرف المُنتخبين ديمقراطيًا تمثّل للأسف امتدادًا لهذه الأزمة الأخلاقيّة العالميّة وهي إلى حدّ كبير تشوّه حديث لأعراف اجتماعيّة كانت تونس بمقتضاها أرض عبور وإيواء واستقرار للمهاجرين.
على أنّ إدارة ملفّ الهجرة ليست محض مسألة أخلاقيّة، فهي كذلك موضوع اقتصاديّ اجتماعيّ بامتياز. ورغم غياب إحصائيّات دقيقة حول عدد مواطني دول جنوب الصّحراء المقيمين بطريقة غير نظاميّة في تونس، فإنّ بعض المصادر تتحدّث عن عشرة آلاف شخص. بيد أنّ ارتفاع عدد مواطني جنوب الصّحراء الذين يعبرون إلى السّواحل الأوروبية انطلاقًا من تونس بحوالي ثلاثة أضعاف سنة 2017 مقارنة ب2016 وفيما تلاها من السّنوات يؤشّر على أنّ عدد المستقرّين قد يكون أكثر من هذا العدد.
وهذا الاستقرار يطرح بدوره سؤال الظّروف والأطر القانونيّة والاجتماعيّة المتعلّقة بإقامة وتشغيل الأجانب في تونس. ولعلّ هذا السّؤال الملحّ واستتباعاته على أرض الواقع هو ما جعل الأمين العامّ للاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل يعلن يوم 03 جويلية/يوليو على هامش الجلسة العامة الخامسة للشّبكة النّقابيّة للهجرة في بلدان المتوسّط عن عزم الاتّحاد على "تنظيم العمّال الأفارقة فإدارة ملفّ الهجرة ليست محض مسألة أخلاقيّة، فهي كذلك موضوع اقتصاديّ اجتماعيّ بامتياز".
إدارة ملفّ الهجرة ليست محض مسألة أخلاقيّة فهي كذلك موضوع اقتصاديّ اجتماعيّ بامتياز
شاهد/ي أيضًا: تونسيون مفقودون بإيطاليا: قلق العائلات وغموض المصير
بيد أنّ هذه الدّعوة تنطوي على تغييب جملة من الوقائع أهمّها أنّ العمّال القادمين من دول جنوب الصّحراء لا يتمتّعون أصلًا بوضع مهنيّ أو اجتماعيّ قانوني، وهو الشّرط الأساس لأيّ تنظّم نقابيّ ممكن إن كان هذا التنظّم أصلًا ذا مغزى. وكما تُشير دراسة حول وضعيّة العمّال القادمين من دول جنوب الصّحراء في تونس، فإنّ واقع استقرار العمّال الأجانب في تونس لا يزال رهينة قوانين تعود إلى مرحلة الستّينيات فضلًا عن كون نشاطهم المهنيّ هو أساسًا نشاط غير مُهيكل وهشّ وقد يقترن بأشكال متعدّدة من الاستغلال وانتهاك المعايير الأخلاقيّة المُتعارف عليها في العمل.
ومن هذا المُنطلق، فإنّ الأولويّة يجب أن تُعطى إلى إصلاح المنظومة القانونيّة المتعلّقة بالشّغل برمّتها بما يجعلها تتكيّف تدريجيًا مع التحولات الديمغرافيّة والاجتماعيّة بما فيها الهجرة. فإذا كانت مراكز الاحتجاز أو "الإيواء" ممارسة مشينة أخلاقيًا بمعزل عن أي اعتبار قانوني أو معياريّ دوليّ، فإنّ البديل هو فتح الباب لاستقرار المهاجرين في تونس وانخراطهم في سوق الشّغل والمبادرة الحرّة لا سيّما أنّ الاقتصاد يحتاج ليد عاملة إضافيّة في القطاعات الفلاحيّة والخدميّة بما فيها القطاعات ذات القيمة المضافة العالية على ضوء الهجرة المتزايدة للإطارات التونسيّة.
الأولويّة يجب أن تُعطى إلى إصلاح المنظومة القانونيّة المتعلّقة بالشّغل برمّتها بما يجعلها تتكيّف تدريجيًا مع التحولات الديمغرافيّة والاجتماعيّة بما فيها الهجرة
وإذا كانت العقليّة السّائدة تكاد تحصر نشاط المهاجرين في المهن البسيطة، فإنّ المهاجرين هم أيضًا الطّلبة الأجانب الذين يدرسون في تونس وقد يكون شكل نشاطهم استثماريًا صغيرًا أو متوسّطًا في المرحلة الأولى، وقد يكون ذلك جسرًا لتقوية العلاقات التّجاريّة بين بلدانهم الأصليّة وتونس.
وإلى حدّ كبير، فإنّ حقّ المهاجرين على تونس، حقّهم في معاملة أخلاقيّة تسمو على بلادة المعايير والشكلانيّة القانونيّة الدوليّة التي تشرّع لإيطاليا والولايات المتّحدة ارتكاب فضاعات في حقّ المهاجرين، وحقّهم في العمل والكسب وخلق الثروة والعبور إلى حيث شاؤوا إن هم أرادوا ذلك، وحقّهم في الاستقرار والجنسيّة التّونسيّة وفق معايير واضحة وشفّافة وإعطاء الأولويّة في ذلك لأبناء المغرب وأهل السّودان (دول جنوب الصّحراء) نظرا للروابط التاريخيّة العميقة، إنّ هذه الحقوق مجتمعة هي أيضًا خلاصة حقّ التّونسيّين في كسر قيود الهيمنة القانونيّة على حركة المجتمع والأفراد وحريتهم في العمل والتّنقّل. وهذا التّحرّر يعني أيضا كسرا للقيود التّعاقديّة لمجلّة الشّغل فليس "الترسيم في العمل" أو التنظّم النقابيّ طموح المهاجر، فالهجرة مغامرة حرّة، وحقّ المهاجرين على تونس أن يعيشوا حريتهم تامّة غير منقوصة!
اقرأ/ي أيضًا:
"الحرقة" في تونس: بين انتشارها كثقافة شبابية جديدة.. وظاهرة "الفراريزم"