20-يوليو-2016

شركة خاسرة تشتري شركة خاسرة(فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

ربّما بات للحديث عن استفحال الفساد في تونس، وتحديدًا في مجال الصفقات العمومية، نموذجًا بيّنًا يكون به الاستدلال وذلك لحجم شبهات الفساد المتعلّقة به من جهة، ولاستعراضه تداخل شبكات المصالح من جهة أخرى، والحديث هنا عن صفقة شراء شركة الاتصالات المالطية "GO" التي اقتنتها مؤخرًا شركة "اتصالات تونس" العمومية.

وصفت المعارضة التونسية صفقة شراء شركة الاتصالات المالطية من قبل شركة اتصالات تونس بـ"فضيحة الدولة" لحجم شبهات الفساد المتعلقة بها

وهي صفقة صنّفتها المعارضة التونسية بأنها "فضيحة دولة"، فيما يردّ الطرف الحكومي بتفنيد ذلك، وإن يتواتر في الكواليس أن رئيس الحكومة قد طلب بنفسه إيقاف إجراءات الشّراء في هذه الصفقة. ويعتبر مراقبون أن هذه الصفقة تمثل "تطبيعًا" مع الفساد، رغم أن الحكومة أعلنت أن مكافحته تمثّل أولوية لها، بل ونصّت وثيقة أولويات حكومة الوحدة الوطنية المنتظرة على محور كامل حول مكافحة الفساد.

اقرأ/ي أيضًا: حملة #جايينكم .. عين على الموظف التونسي في رمضان

تضارب مصالح أم مصالح متوائمة؟

يشير المعارضون لصفقة شراء شركة الاتصالات المالطية "GO" إلى أن أوّل شبهات الفساد تتمثّل في تضارب المصالح الصّارخ وخرق معايير الشفافية على أربعة مستويات. يتعلّق المستوى الأوّل باتحاد صفة البائع والمشتري حيث أن مالك الشركة المالطية هو شريك كذلك في "اتصالات تونس"، والحديث هو عن "الشركة الإماراتية للاتصالات"، التي تملك 35 في المئة من الشركة التونسية العمومية.

ويتولّى الشريك الأجنبي خططًا محورية في مجلس الإدارة وهي أساسًا المدير العامّ المساعد والمدير المالي والمدير التجاري ويتلقون منحهم من البائع أي الشركة الإماراتية وهو ما يؤثر على تقدير مصلحة الشركة التونسية، بل إنه يوجد عضو في مجلس الإدارة في الشركتين التونسية والمالطية في نفس الوقت.

في جلسة استماع بالبرلمان، تحدث النائب عن المعارضة عماد الدائمي أن "الشركة الإماراتية هي شركة مشبوهة وتريد أن تتخلص من شركاتها المفلسة بما فيها شركة اتصالات تونس". وفي هذا الجانب، سبق وأن أعلنت الشركة الإماراتية قبل ثلاث سنوات عن رغبتها بيع حصّتها بالشركة التونسية بعد أن اشترت 35 في المئة من أسهمها سنة 2006 بقيمة 2.25 مليار دولار حينها.

وفي نفس الإطار، تعيش شركتها المالطية صعوبات مالية حادّة حيث بلغت ديونها 50 مليون يورو بما يقارب نصف رأسمالها، وهو ما يعني أن بيعها قد يمثّل خيارًا مناسبًا بالنسبة لمالكيها، لتكون شركة اتصالات تونس، التي تعرف بدورها صعوبات مالية، هي الجهة المشترية، وهو ما جعلها تبدو كضحيّة في خطة الشركة الإماراتية لتسوية وضعية شركاتها.

في ردّه على هذه الشبهات، قال ممثّل الشركة التونسية في نفس جلسة الاستماع البرلمانية إن قرار شراء شركة Go Malta اتخذه أعضاء مجلس الإدارة الممثلين عن الدولة في الشركة التونسية دون مشاركة المساهم الاستراتيجي. وهو ردّ لم يقنع معارضي الصّفقة لاتحاد صفة البائع والمشتري خاصة في ظلّ وجود شبهات أخرى.

حيث تلعب المؤسسة المالية "Crédit suisse" دورًا مزدوجًا في هذه الصفقة، فهي التي موّلت الشركة التونسية بقرض من جهة، وهي البنك الاستشاري للشركة الإماراتية، ذات الدور المزدوج بدورها، من جهة ثانية. ويفند الطرف الحكومي وجود تضارب مصالح في هذا الجانب، على أساس أنه تم التفاوض مع عدد من البنوك قبل اختيار البنك السويسري الذي منح قرضًا بفائض بقيمة 6 في المئة. ويضيف أن الشركة التونسية كانت ستشارك في تمويل الصفقة ولكنه تمّ التراجع لأنّ الدّولة في الحاجة للعملة الصّعبة.

من جانب آخر، تظهر شبهات الفساد بخصوص خرق معايير الشفافية والمحسوبية على المستوى الثالث وذلك بخصوص مكتب الدّراسات الذي تولّى دراسة الصفقة وإجازتها، وهو مكتب Deloite الذي يديره محمّد الوزير، وهو رئيس المجلس الوطني لحزب آفاق تونس، الذي ينتمي إليه وزير الاتصالات نعمان الفهري. وفي نفس السياق، تظهر شبهة تضارب مصالح على مستوى آخر ومضمونها أن مكتب المحاماة للشركة التونسية الذي أشرف على الصفقة هو بدوره مكتب محاماة الشركة الإماراتية، أي اتحاد جهة الإشراف القانوني على الصفقة بالنسبة للبائع والمشتري في نفس الوقت.

ويؤكد المعارضون للصفقة وجود خرق للمعايير القانونية والأخلاقية لشفافية الصفقة ويدفعون كذلك بأن الصفقة تم الإعداد لها مسبقًا بين الطرفين، بما يجعل طلب العروض الدّولي مجرّد غطاء. ويتمثّل دليلهم في هذا الجانب بأن الشركة المالطية حدّدت آجالاً لقبول العروض، ومع عدم تقديم الشركة التونسية لعرض لغياب موافقة سلطة الإشراف، قامت لاحقًا الشركة المالطية بالتمديد في الآجال وذلك بعد يوم واحد من حصول المشتري المنتظر على الموافقة.

اقرأ/ي أيضًا: الصناديق الاجتماعية في تونس.. إفلاس غير معلن

شركة خاسرة تشتري شركة خاسرة

يشكك مراقبون في المردودية الاقتصادية لشراء الشركة المالطية، خاصة وأن السوق المالطية سوق صغيرة مقارنة بتونس، كما أن الشركة تعرف صعوبات حادة

في معرض تناول دوافع شراء الشركة المالطية، يتحدث مسؤولو الشركة التونسية أن هذه الصفقة ستمكّن من الولوج للسّوق الأوروبية، وستساهم في تطوير الإمكانيات التقنية والعملية لشبكة الاتصالات التونسية. لم تقنع هذه الدوافع نوّاب البرلمان بما فيهم نواب الائتلاف الحاكم، حيث توجه النائب عبد العزيز القطي عن نداء تونس للمدير العام للشركة التونسية بالقول: "صدمت بتقديم الإدارة لأسباب شراء الشركة المالطية وكنت أتوقع أن تكون هناك أسباب أخرى".

يشكّك مراقبون في المردودية الاقتصادية لشراء الشركة المالطية، خاصة وأن السوق المالطية سوق صغيرة جدًا مقارنة بتونس، كما أن الشركة تعرف صعوبات اقتصادية حادّة كما أن حجم ديونها يبلغ قرابة نصف رأسمالها. إضافة إلى ذلك، قامت هذه الشركة نهاية سنة 2015 ببيع كل ممتلكاتها العقارية. وفي ذلك، ردّ مسؤولو الشركة التونسية أن الهدف هو شراء الخدمة والتراخيص والعلامة التجارية وليس العقارات. وهو ردّ زاد في الشكوك من الجدوى الاقتصادية للصفقة خاصة وأن الشركة التونسية تعرف بدورها صعوبات مالية حيث بلغت خسائرها سنة 2015 قرابة 40 مليون دولار.

وحسب تقديرات المراقبين وبالنظر لقيمة الصفقة البالغة 300 مليون يورو وخسائر، الشركة التونسية والمالطية على حدّ السواء، ستكون الشركة التونسية مطالبة بدفع مبلغ يصل لمليار دينار تونسي أي قرابة 500 مليون دولار في غضون الخمس سنوات القادمة. ويذهب المختصّون للتحذير بأن هذه الصفقة ستؤثر على ميزان العملة للدولة التونسية في الفترة القادمة. وفي جانب آخر، يمثّل عدم التخطيط للقيام بهذه الصفقة في الخطّة الاستراتيجية لشركة "اتصالات تونس" عنصرًا مدعمًا لفرضية أنه تم إسقاطها لاحقًا بضغوط من الشركة الإماراتية وبتواطئ مع الفاعلين السياسيين وتحديدًا وزارة الاتصالات.

كلّ هذه الشبهات حول فساد الصفقة جعلت علي بالأخوة، النائب عن نداء تونس، يتساءل "هل نحن بصدد إرضاء الشركة الاماراتية بعد خسارتها؟".

الفساد.. الداء الذي يقاوم في تونس

رغم إعلان الحكومة على محورية مكافحة الفساد في استراتيجيتها، لا تزال الشكوك تتتابع حول جديّة المضي في ذلك، خاصة وأن تونس ورثت إرثًا ثقيلًا وشبكة مصالح عن نظام بن علي، الذي كان نظامًا مافيوزيًا بامتياز ديدنه الفساد، حيث لا تمثّل شبهات الفساد اللاحقة بهذه الصفقة مثالًا متفردًا، بل تتأتى كشاهد جديد لانفلات الفساد في تونس. وقد اعتبرت المعارضة أن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي قدّمه رئيس الجمهورية باجي قائد السّبسي في وقت سابق هو دعوة لتكريس الإفلات من العقاب في جرائم الفساد المالي والاعتداء على المال العامّ، لما يتضمّنه من عفو عن مرتكبي هذه الجرائم، وبما يمثله من رسالة سلبية للمستثمرين في الخارج حول وعود الحكومة لمكافحة الفساد.

وفي السنة الفارطة وفي إطار الصفقات العمومية، كشف نائب معارض عن شبهات فساد بخصوص صفقة اختيار البنك الأجنبي "لازار" للترويج لمخطّط التنمية، وهو ما أدّى لاحقًا للتراجع وإعادة فتح طلب عروض جديد، ما يعني إقرار بوجود شبهات فساد في الصفقة الأولى. وقد اُتهم في هذه الصفقة ياسين إبراهيم وزير الاستثمار ورئيس حزب آفاق تونس، وهو الحزب الذي ينتمي إليه وزير الاتصالات نعمان الفهري وهي جهة الإشراف على صفقة الشركة المالطية. ولم تقع مساءلة الوزير في البرلمان كما واصل بقاءه في الحكومة، ومن المنتظر أن يكون وزيرًا في الحكومة الجديدة، ما يعني تكريس الإفلات من المساءلة والتتبّع.

في نفس السياق، كشف نائب مستقيل عن الاتحاد الوطني الحرّ، مشارك في الحكومة، على ابتزاز رئيس حزبه سليم الرياحي لرجال أعمال بالتعاون مع المكلف العامّ بنزاعات الدّولة، محامي الدّولة، الذي تمّ تنحيته قبل أقل من شهر، في تأكيد ضمني لاتهامات النائب البرلماني. وبذلك، اُغلق الملفّ دون فتح تحقيق برلماني أو قضائي.

ومؤخرًا، رفض رئيس الحكومة الحبيب الصّيد تقديم استقالته وفق ما تفترضه خارطة طريق تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، مخيّرا اللجوء للبرلمان، وهو سيناريو لم ينتظره رئيس الجمهورية والائتلاف الحاكم برمّته. يتناقل في الكواليس أن قرار التخلّي عن رئيس الحكومة الحالي يعود لعدم رضوخه لمجموعات المصالح من بعض الأحزاب السياسية ودوائر رجال الأعمال، حيث تظلّ خشيتهم أن يواجه رئيس الحكومة البرلمان والشعب بحقيقة هذه الضغوطات والدوافع الحقيقية للتخلي عنه، وهو ما يضع حينها الائتلاف الحاكم في حرج كبير وفي مساءلة مباشرة أمام الشعب التونسي.

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. مرزوق وآخرون في شراك "وثائق بنما"

تونس.. لوبيات السياسة والإعلام تعلن الحرب