28-مايو-2018

لم يكن مسلسل شورّب ليرى النور لولا مكسب الحرية الذي تحقق لتونس

"علي شورّب" هو أحد أشهر " باندية " تونس في النصف الأول من القرن العشرين. و"الباندي" يدير كل شيء بـ"البونية " أي بقبضة اليد. وعادة ما تكون هذه الشخصيّات ذات كاريزما شعبية وتميل بها الألسن إلى الأسطورة. وهذا ماحدث لعلي البجاوي المكنّى بـ"شورّب" لغلظة شفاهه. فقد تداوله الناس بالحديث إلى درجة يصعب فيها فرز الحقيقة من الخيال.

علي شورّب، هذه الشخصية الجدلية التقطته الدراما التونسية وحولت مسيرته إلى مسلسل تلفزيوني يبثّ حاليًا على إحدى القنوات التلفزيونية الخاصّة وأخرجه ربيع التكّالي ويقوم بدور شورّب الممثل لطفي العبدلّي إضافة إلى عدة وجوه أخرى بارزة مثل دليلة المفتاحي وفريال قراجة.

اقرأ/ي أيضًا: بطل مسلسل رمضان 2018: من هو علي شورّب؟

شورب أخرج قسرًا من دوائر التاريخ الاجتماعي التونسي إلى مهب النسيان

لم يكن لهذا المسلسل أن يرى النور لولا مكسب الحرية الذي تحقق لتونس في السنوات الأخيرة فالنهج الثقافي والفنّي الذي سطّره الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لدولة الاستقلال وواصله بن علي من بعده لم يكن يسمح للواقع الاجتماعي بهوامشه وزخرفه بالبروز والتعبير عن نفسه فنيًّا وثقافيًا، فشخصية قاعيّة مثل شخصية علي شورب وغيرها أخرجت قسرًا من دوائر التاريخ الاجتماعي التونسي إلى مهبّ النسيان، باستثناء الإشارات الطفيفة التي قامت بها السينما التونسية لهذه الشخصيات في بعض الأفلام مثل فيلم "يا سلطان المدينة" للمنصف ذويب و"عصفور سطح " لفريد بوغدير.

النهج الثقافي والفنّي الذي سطّره بورقيبة وبن علي لم يكن يسمح للواقع الاجتماعي بهوامشه وزخرفه بالبروز والتعبير عن نفسه فنيًّا وثقافيًا

علي شورّب هو من فئة الصعاليك الشرفاء عاش بين الاستعمار والاستقلال في فترة هشاشة اجتماعية كان فيها الشعب التونسي يبحث عن الأمن في مختلف أبعاده. وكان شورّب وأمثاله يقومون بنوع من الحماية لأحيائهم فيبطلون السرقات ويؤمنون الأسواق ويستعدون الأغنياء المتجبّرين ويناوشون السلطة الحاكمة ويتبادلون العنف مع ممثليها إذا ما أمعنت في التضييق على أنشطتهم وأنشطة أهل الحيّ.

وهنا يروى أنّ شورب ومع بداية يفوعته كان مزعجًا للجندرمة الفرنسية والجيش الفرنسي وهو ما اعتبر مقاومة للاستعمار. هذه النماذج الاجتماعية نجد لها ما يشبهها في مجتمعات عربية أخرى وخاصة المجتمع المصري حيث لا يخلو حيّ في القاهرة وضواحيها أو الاسكندرية من "باندي" وهو ما يسمّى "بالفتوة".

وللبانديّة عوالمهم السرية والغامضة فهم يبيعون الممنوعات من خمور ومخدرات ويعيشون قصص الحبّ والعشق ويحيون حياة المجون ويستعرضون عضلاتهم في العراك حفاظًا على لمعان صورهم ويذهبون إلى الحفلات الخاصة في أحيائهم حيث يتم الاحتفاء بهم كضيوف رفيعي المستوى فيسترقون النظر للنساء وتغنى لهم أغاني بعينها فيرقصون على إيقاعها رقصات تميزهم.

هذا التّنوع والثراء والغموض يجعل منها شخصيات مركّبة لها عدّة أوجه تغري السينما والدراما التلفزية لتحويلها إلى أعمال فنية وهو ما حدث فعلًا مع شخصية شورّب خلال شهر رمضان الحالي.

هذا المسلسل تدور أحداثه في بين ستّينيات وسبعينيات القرن العشرين في العاصمة تونس وتحديدًا في منطقة الحلفاوين بربط باب سويقة بالمدينة العتيقة أين كان يعيش علي شورّب وهو ما يقتضي ديكورات وإكسسوارات ولباس تعود إلى تلك الفترة وهذا ما لم نلاحظ حضوره القوي في العمل الدرامي مما جنّب القائمين على الإنتاج الإكثار من المشاهد الخارجية في شوارع وأزقة العاصمة وحتى المشاهد الداخلية تبدو خالية من حياة تلك الفترة كالبارات والكافيشانطات والمنازل "العربي" بتفاصيلها اليومية.

المعارك التي يجب أن تدار أمورها بكل حنكة لم نرها في حجم تاريخ "معاركي" كبير مثل علي شورّب، لقد كانت هزيلة وبسيطة وخالية من أية كاريزما

المعارك التي يجب أن تدار أمورها بكل حنكة ــ لأن جوهر حضور الباندي في محيطه مبني على العراك ــ لم نرها في حجم تاريخ "معاركي" كبير مثل علي شورّب، لقد كانت هزيلة وبسيطة وخالية من أية كاريزما وهذه في اعتقادي من هنات المسلسل.

اقرأ/ي أيضًا: الأعمال الفنية التاريخية: تحريف للتاريخ أو وسيلة لتعميمه؟

"الكاستينغ" لم يكن في المستوى المطلوب والعبدلي جسديًا لا يرقى إلى طول وقوة شورّب

"الكاستينغ " لهذا النوع من المسلسلات يقوم على تشريك خبراء في إدارة الممثل والمختصين من مؤرخين وأنتروبولوجيين وعلماء اجتماع ولم لا أهل الشخصية ومن عايشه من أصدقائه وذلك حتى نقترب أكثر من الشخصية ونكون أوفياء للمرحلة الزمنية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية وهو تقريبًا ما لم يحدث في المسلسل فأغلب الأدوار الرئيسية غير وفية للأصل وخاصة شخصية شورّب نفسه. فالممثل لطفي العبدلي الذي قام بالدور الرئيسي لا ترقى بنيته الجسدية لمستوى بنية علي شورّب وقد حاولت إدارة الإخراج اللعب على حركة الكاميرا حتى توهمنا بأن جسد العبدلي فارع وقويّ.

المسلسل باعتباره عملًا دراميًا، قام فنيًّا ببعض التحويرات في مسيرة شورّب وطوّع بعض الأحداث تطويعًا دراميًا كما لم يقحم شخصيات كانت موجودة في تلك الفترة وقريبة من شورّب. لكنه وحسب العارفين بتلك الفترة وخاصة عائلة علي شورّب التي لا يزال بعضها أحياء أكدوا أنه ثمة إفراط في "التّزيين" والتطويع  إلى درجة شوّهت الشخصيات وتسلسل الأحداث وأبعدتها عن الواقع.

إن الاشتغال دراميًا أو سينمائيًا على شخصية الباندي ليس بجديد على الكاميرا التونسية لكن هذه هي أول مرة يخصص لها عمل بأكمله تكون هي قطب رحاه، فشخصية شورّب قد تكون نقطة بداية للاشتغال على عالم الباندية و "الفصايل" سواء من منظور سوسيولوجي أو سياسي أو توثيقي كما شاهدنا في برنامج "لارية" الذي بثته نفس القناة التلفزية التي تبثّ شورّب، في فترة سابقة.

فكأننا إزاء نوع من الاستعداد لاقتحام عالم الواقعيّة الاجتماعية والتأسيس لصورة جديدة في السينما والتلفزيون لم يعهدها المتلقّي لكنه سبق أن شاهدها لعقود في الأعمال الفنية المصرية، فالدّراما والسّينما في مصر لها أسبقية تاريخية في الاشتغال على هذه المحاور، فعالم "الفتوّات" حوّله الروائي الكبير نجيب محفوظ إلى كتابات خالدة في الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية ) وفي "الحرافيش" وفي "أولاد حارتنا".

وقد حوّلتها الدراما التلفزية  والسينما إلى أعمال هامّة مثّل فيها كبار الممثلين على غرار محمود المليجي ومحمود ياسين وفريد شوقي وأحمد زكي. وهذه الأعمال صنّفت في خانة السينما الواقعية المصرية وأصبحت مرجعًا ومصدرًا للباحثين والمختصين.  

هذا العمل الفني خلق جدلًا في أكثر من مستوى فهو من جهة أعاد شخصية "ّشورب"  ــ بإعتبارها طبعت مرحلة من الحياة الاجتماعية للعاصمة ــ للحضور بعد نسيان لكن هذه الاستعادة استهجنها البعض على أساس أن شورب لا يعدو أن يكون سوى "باندي" يروج للعنف وهو لا يرقى إلى أن يكون شخصية اعتبارية ملهمة وبالتالي ليس هناك أي عبرة تجنيها الأجيال الصغيرة من هذا المسلسل. هناك أيضًا من اعتبر العودة لعلي شورب بمثابة التقليب في فترة تاريخية بأكملها كان شورّب جزءًا منها وهنا طُرح أكثر من سؤال يتعلق بغياب الهامش السياسي والثقافي لتلك الفترة.

هناك من اعتبر العودة لشورّب بمثابة التقليب في فترة تاريخية كان شورّب جزءًا منها وهنا طُرح أكثر من سؤال يتعلق بغياب الهامش السياسي والثقافي لتلك الفترة

كذلك ذهب دخول عائلة شورّب على الخطّ وتصريحاتهم النارية في أكثر من منبر إعلامي بالنقاش إلى مناطق أخرى قانونية وأخلاقية. وحوّل وجهة الأسئلة التي كان يجب أن تطرح بخصوص العمل التلفزي الدرامي وعادة ما تكون أسئلة فنية وثقافية إلى أسئلة قد تكون غير متوقعة  من قبيل إلى أي حد يستطيع الفن الاشتغال دراميًا على الواقع؟ ما هو الممنوع الاجتماعي على الفنّ ؟ وهل المجتمع التونسي الآن في حاجة أكيدة إلى استعادة شخصيات مثل شخصية علي شورّب والحال أن المنسيين كثر في السياسة والثقافة والفنّ والمقاومة والعمل النقابي؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

أَوَخِّي، لَمَكِنْتِي ووْاشِي.. حين تصبح لهجة الأرياف مادة للإضحاك

أهم الأعمال التلفزية التونسية في رمضان 2018