08-يوليو-2023
صفاقس مهاجرون ترحيل قسري

تبقى عربة القطار شاهدًا على قصّة محزنة أخرى من قصص السفر والهروب دون أمل (صور من محطة صفاقس/ حسام الزواري/أ.ف.ب)

 

 

الساعة السادسة والنصف مساء، اليوم  الخامس من شهر جويلية/يوليو 2023،  يتوقف القطار القادم من صفاقس (جنوب تونس) في محطة سوسة (شرق) لفترة زمنية تقدر بحوالي نصف ساعة، حركة غير عاديّة في محيط المحطة، سيارات أمنية تطوّق المكان ومسافرون ينتظرون في القاعة الكبرى وضجيج لجموع من الفضوليين يقفون على أسوار المحطة يتطلعون لما يجري في المكان.

وفي دقائق قليلة، كان الرصيف مكتظًا وكانت الصيحات تتعالى وتشير إلى أن "أفارقة من جنوب الصحراء تم تجميعهم في العربتين الأخيرتين وتم فصلهم عن المسافرين التونسيين في بقية العربات".

أكثر من 50 شخصًا من إفريقيا جنوب الصحراء يتجهون نحو تونس العاصمة (بالتحديد نحو مقر بعثاتهم الديبلوماسية)، تتعالى أصواتهم من فتحات علوية للشبابيك المحكمة الغلق وسط طوق أمني من مختلف الجهات حماية لهم وتأمينًا للمكان وخشية من هروب جماعي، كما قيل لنا.

كان الوضع متوترًا إلى حدّ ما والجميع يحاولون الإبقاء على هدوء نسبيّ أمام مشهد استثنائي لم تشهد له مثيلاً هذه المحطة التي أنشأها الفرنسيون في السنوات الأولى من احتلالهم لتونس، كانت هذه المحطة تحتضن قصّة شعب كامل فهي التي تصل شمال تونس بجنوبها وتنقل خيراتها و تعزز أوصالها، كما كان أعوان هذه السكة الحديدية مساهمين في الحركة الوطنية وطرد المستعمر الفرنسي الذي اغتصب خيرات البلاد.

شهدت محطة سوسة رسوّ عربات القطار وقد اكتظت بشباب ونساء وأطفال من ذوي البشرة السوداء هروبًا من مدينة صفاقس بعد الأحداث الدامية والصدامات بينهم وبين عدد من السكان المحليين 

لكن محطة سوسة اليوم تشهد رسوّ عربات القطار وقد اكتظت بشباب ونساء وأطفال من ذوي البشرة السوداء هروبًا من مدينة صفاقس بعد الأحداث الدامية والصدامات بينهم وبين عدد من السكان المحليين، وبعد ساعات من الرعب، كان ملاذهم الهروب عبر القطار المنطلق من صفاقس على الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال.

 

محطة القطارات في سوسة

محطة القطارات في سوسة ذات 5 جويلية 2023 (تصوير ماهر جعيدان)

 

التزام الصحفيين الوحيد الذين حضروا في محطة سوسة لمواكبة هذا الحدث في تلك اللحظات كان احترام الكرامة الإنسانية، كانت الأصوات الصاخبة المتعالية تستغيث وتطالب الصحفيين بسماعهم ولكن ضجيجًا ضخمًا صادرًا عن القاطرة واللكنة الفرنسية غير الواضحة تمنعان من الفهم الجيد لحديثهم.

كانت الأصوات الصاخبة المتعالية تستغيث وتطالب الصحفيين بسماعهم ولكن ضجيجًا ضخمًا صادرًا عن القاطرة واللكنة الفرنسية غير الواضحة تمنعان من الفهم الجيد

صورة ستبقى عالقة في ذهني ما حييت...لن تكون صورة جيّدة لأنقلها لأبنائي وأحفادي.

 

 

كانت عربات القطار خالية من كل تكييف ودرجات الحرارة عالية والجو في الداخل خانق وكلما توقف القطار ارتبكوا خاصّة بعد أن تم التدقيق في وثائقهم الشخصية على مستوى محطة كركر من ولاية المهدية وتم إنزال البعض لانعدام ثبوتية هوياتهم.

بؤرة الضوء كانت تحرك عدد من الأمنيين والصحفيين وأعوان السكة الحديدية الذين حاولوا قدر الإمكان مد المسافرين بقوارير المياه. كانت الأيادي تمتد من فتحات صغيرة والأصوات عالية والألم أكبر. إحدى النساء كانت تستعطف جرعة ماء ولما تسلمت قارورة بدت نظرات الامتنان في العتمة مثيرة للشفقة وسط ضجيج بلغ صداه داخلي كما لم أشعر سابقًا. المشهد كان تراجيديًا، البعض من الحاضرين كان يتوثب لمنعهم حتى من الحصول على جرعة ماء لكنهم لم يمثلوا الأغلبية.

إحدى النساء كانت تستعطف جرعة ماء ولما تسلمت قارورة بدت نظرات الامتنان في العتمة مثيرة للشفقة وسط ضجيج بلغ صداه داخلي كما لم أشعر سابقًا

كنا نحاول كصحفيين  الاقتراب من العربات ولكن الضرورة الأمنية تتطلب أن نكون على مسافة أمتار قليلة كما طُلب منا، فرحلة هذه الجموع انطلاقًا من محطة صفاقس كانت بمثابة الهروب الجماعي بعد أن تركوا وراءهم ما بقي من ألبستهم ودثارهم أو ظلّ جدار كانوا يحتمون تحته في انتظار "حرقة" أو هجرة غير نظامية عبر البحر نحو الشواطئ الأوروبية.

نصف ساعة يتوقف خلالها القطار في محطة سوسة قادمًا من صفاقس، كانت كفيلة بأن تكشف عن مرارة هذا الواقع الذي ألقى بالآلاف من مواطني بلدان إفريقيا جنوب الصحراء في غياهب المجهول من أجل العبور نحو أوروبا، مسألة اتخذت أبعادًا دولية وإقليمية وعمقت الاختلاف محليًا تجاه الهجرة غير النظامية والمسؤولية السياسية والأخلاقية للدولة التونسية.

نصف ساعة يتوقف خلالها القطار في محطة سوسة قادمًا من صفاقس، كانت كفيلة بأن تكشف عن مرارة هذا الواقع الذي ألقى بالآلاف من مواطني بلدان إفريقيا جنوب الصحراء في غياهب المجهول من أجل العبور نحو أوروبا

رغم الإجماع على أن المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء هم ضحايا لكن تنامي ظاهرة "الشعبوية" في إدارة الشأن العام والتجييش الفوضوي ضدهم في أوساط اجتماعية مختلفة إضافة إلى الصعوبات الاقتصادية في تونس، ساهم كل ذلك في تصاعد المشاحنات وكل ما تلى ذلك من عنف وطرد وهروب.

بعد مغادرة المئات منهم مدينة صفاقس، طوعًا أو قسرًا، ظل جزء آخر هناك في أماكن عمومية بعد طردهم من المساكن التي استقروا بها، يطالبون بتوفير المأوى والأمن والحرية والسلام وأعرب ناشطون في المجتمع المدني التونسي عن قلقهم للغاية إزاء ما آلت إليه الأوضاع في صفاقس ومن ذلك ما قاله الناشط محمد علولو في تصريح صحفي: "نحن اليوم أمام واقع إنساني وذوات بشرية تتألم دون مأوى ولا أكل ولا ماء، ما عدا بعض الإمدادات الإنسانية من بعض مكونات المجتمع المدني، لذلك وانطلاقًا من الوازع الإنساني فإن الأمر يستوجب إغاثتهم بطريقة إنسانية فعالة، بقطع النظر عن سبب توافدهم على جهة صفاقس والغاية من توافدهم". 

 

المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء في صفاقس

 

المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء في صفاقس

 

المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء في صفاقس

المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء في صفاقس (حسام الزواري/أ.ف.ب)

 

في ذات السياق، أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش، في بيان، إلى "طرد المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء إلى منطقة خطرة على الحدود التونسية الليبية من قبل السلطات وسط أزمة هجرة غير مسبوقة تعانيها تونس"، ودعت "إلى وقف عملية الطرد الجماعي". وذكرت أن" الأشخاص المطرودين هم من دول أفريقية عديدة، هي ساحل العاج والكاميرون ومالي وغينيا وتشاد والسودان والسنغال، ومن بينهم 29 طفلًا وثلاث نساء حوامل".

 

 

وأفادت منظمات غير حكومية بأنه تم نقل مئات منهم في حافلات إلى مناطق صحراوية في جنوب تونس، بعضها بالقرب من الحدود مع ليبيا، والبعض الآخر قرب الحدود مع الجزائر. وقد حثّت منظمات محلية السلطات التونسية على "اتخاذ القرارات السياسية اللازمة على وجه السرعة لإنشاء آلية ومسار واضح لرعاية المهاجرين وضمان المعاملة الإنسانية اللازمة وفقاً لالتزامات تونس الدولية".

خلفت أحداث الأيام الأخيرة في صفاقس عنفًا وانتهاكات إنسانية ووُصف تفاعل السلطات التونسية "بغير القانوني" والمخالف للمعاهدات الدولية من خلال الطرد والتشتيت

بدورها، أدانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ما وصفته بـ"تصاعد الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان التي يتعرض لها المهاجرون القادمون من جنوب الصحراء"، رافضة ما يتعرضون له ما اعتبرته "ميز ًا عنصريًا" كما تعرضت لوقوع "اعتداءات وملاحقات وسوء معاملة وطرد وتشريد للأطفال وللعائلات".

خلفت أحداث الأيام الأخيرة في صفاقس عنفًا وانتهاكات إنسانية ووُصف تفاعل السلطات التونسية "بغير القانوني" والمخالف للمعاهدات الدولية من خلال الطرد والتشتيت. وتبقى عربة قطار سوسة وما عشناه وسمعناه شاهدًا على قصّة محزنة أخرى من قصص السفر والهروب دون أمل.