ما من شخص عرف الجاحظ إلاّ وكان قد عرف بالضرورة نصّه الشهير المتعلّق بمعاذة العنبرية، تلك التي أعيت البخلاء من قبلها ومن بعدها على مرّ العصور.
وذكر لنا الجاحظ في كتابه "البخلاء" أنّ هذه العجوز لم تكن تضيّع شيئًا من أضحيتها، بدءًا بالقرون التي تستعملها كمعلاق، والعظام التي تستعملها كزيت للقنديل بعد غليها، والجلد الذي تستعمله كقربة لحفظ الماء، وصولًا إلى الدماء حتّى، وكانت تستخدمها في تلطيخ القدور لتزيد من سماكتها!
لن يعترضك في مسيرك بين مختلف الأزقّة والأحياء يوم عيد الأضحى سوى مجموعة من الشباب المتحلّق حول كومة من الحطب، يستلمون رؤوس الأضاحي وأرجلها من الأهالي ويشرعون في شيّها أو تشويطها
وإنّ المتأمل في عادات التونسيين اليوم في عيد الأضحى، ما ينفكّ يتذكّر معاذة.. يتذكّر حرصها ذاك على الانتفاع بكلّ جزء من شاتها. يتذكّر، وإن كانت نسبة تمسكّهم بهذه العادات ما تلبث أن تنحسر يومًا بعد يوم.. على أنّنا نعرف كلّ عيد أضحى عادة لا تنقطع، لم تفعل حتى مع حلول جائحة كورونا، ولا نظنّها تنقطع إذ لا مؤشرات تدلّ على ذلك إلى حدّ الساعة. نتحدّث عن عادة حرق رؤوس الأضاحي وأرجلها بعد عملية الذبح!
لن يعترضك في مسيرك بين مختلف الأزقّة والأحياء يوم عيد الأضحى سوى مجموعة من الشباب المتحلّق حول كومة من الحطب، يستلمون رؤوس الأضاحي وأرجلها من الأهالي ويشرعون في شيّها أو تشويطها.. ولعلّه من هنا استمدّ التونسيّ لفظة "تشوشيط"، من كلمة "شوّط اللحم" أي أنضجه.
اقرأ/ي أيضًا: دباغة جلود الأضاحي.. عن عادة هجرتها العائلات في تونس
"الترا تونس" عاين عمل بعض هؤلاء الشباب عن قرب، فتوجّه إلى حيّ السعيدية القريب من باردو، ليستجلي الأمر.
إنّ الناظر من بعيد، لربما يتساءل عن سرّ هؤلاء الشباب الذين خيّروا عدم الاجتماع مع عائلاتهم في هذا اليوم المشهود له بالنجاح في لمّ شمل أعتى الأسر تفكّكًا. ولعلّ البعض يتساءل عن الدافع من وراء هذا العمل الذي لا نعرفه سوى يوم وحيد في السنة.
الطالب الجامعي حمزة لـ"الترا تونس": مع اقتراب عيد الأضحى خطرت ببالي فكرة جني المال بشواء رؤوس الأضاحي بعد أن أخفقت في العثور على تدريب ميداني أو عمل موسمي
يجيب الطالب الجامعي حمزة عن سؤال "الترا تونس" بقوله: "بحثت عن تدريب مهنيّ في مجال اختصاصي الجامعي في أوّل الصيف فلم أجد. قمتُ بجولة بين محلات الملابس في العاصمة للبحث عن وظيفة موسمية لكنّهم كانوا يطلبون الفتيات لا الفتيان.. وباعتبار أنّ الحصول على مصروف في هذا العطلة الصيفية أمر حيويّ، كي لا أمدّ يدي لعائلتي، بدأتُ بالتفكير عمّا يمكن أن أقوم به برأس مال يقدّر بصفر من المليمات".
يتابع حمزة وهو يقلّب بقفّازه رأس كبش أقرن غلب سواده بياضه: "مع اقتراب عيد الأضحى خطرت ببالي فكرة طريفة لجني المال، فأنا أسكن بالسعيدية، وفي هذا الحيّ الراقي نسبيًا، قلّما يتمكّن الأهالي من حرق رؤوس أضاحيهم، فيضطرون للتنقّل بالسيارة إلى أحياء أخرى كي يقوموا بهذه المهمة.. ولهذا اقترحتُ على أصدقائي وهم يسكنون حيًا آخر، القدوم إلى السعيدية 'باش ندبّروا ريوسنا' (كي يتدبّروا أمرهم)" وفق قوله.
الرأس هذا العام بثمانية دنانير كاملة! تشهق إحدى النساء لدى سماعها هذه العبارة قبل أن تهتف: "لماذا 8 دينارات بحالها؟ السنة الفارطة قمتُ بالأمر بـ5 دنانير فقط"، يجيبها حمزة مبتسمًا: "حال البلاد يا حاجة، كل شيء عرفت أسعاره الغلاء، ولن يرضيك طبعًا أن تبخسينا حقّنا ونحن المعرّضون إلى الشمس وحرّ هذا الحطب المشتعل". تقبل المرأة بالعرض على غير اقتناع كبير وتوصي بأن يجهز رأس خروفها وأرجله قبل الساعة الثانية.
يلقي حمزة رأس خروف أنهى عملية حرقه على برميل كبير امتلأ حطبًا. يلقيه فيتلقّفه -بحرص وحذر- شريكه في الفكرة أيوب، وهو يرتدي بدوره قفّازًا. يضع الرأس والقوائم الأربع للخروف على الأرض قبل أن يبدأ في عملية حرق الجلد بأداة تُربط بقارورة الغاز وتعرف باسم "الشاليمو"، وسرعان ما ينهي هذه العملية ليستلّ سكينًا ويشرع في كشط السواد المحيط ببعض المناطق، يقول أيوب لـ"الترا تونس" إنّ التحضيرات لم تبدأ يوم عيد الأضحى كما يمكن للمرء أن يتصوّر، بل إنّها تبدأ قبل ذلك بعدّة أيام.
اقرأ/ي أيضًا: من بينها تعجيل الزواج وشفاء الصدفية وتسهيل النطق.. طقوس عيد الأضحى في تونس
يتابع أيوب البالغ من العمر 15 عامًا: "قضّينا أكثر من 3 أيام نجمع كل ما تقع عليه أيدينا من الحطب. فهو أساس هذه العملية التي نقوم بها. شبابيك، أبواب، مكاتب قديمة، أغصان أشجار.. أي شيء مصنوع من الخشب ويكون ملقى في الشوارع والبطاحي نجمعه ونخزّنه في منزل واحد منّا، نحن محظوظون لأنّه لا منافسة كبيرة في هذا الحيّ على الحطب، أحياء أخرى قد تعرف عراكًا وشجارًا على بعض القطع من الأخشاب لكثرة من يقومون بهذه العملية في الحيّ الواحد".
ويضيف أيوب لـ"الترا تونس": "نحن 5 أصحاب، سنقسّم المرابيح بيننا فيما بعد بالتساوي بعد طرح المصاريف. تقريبًا لا مصاريف تذكر غير قارورتي الغاز وكراء عربة "برويطة" لنقل الحطب، أي 30 دينارًا هو رأس مالنا كحدّ أقصى". ويوضّح أنّ إقرار سعر 8 دينارات للرأس مع الأرجل الأربع للخروف تمّ عن طريق جسّ النبض، يقول: "أوّل ما تمركزنا في هذه النقطة من الحيّ جاءنا الزبون الأوّل وسألنا عن السعر، كنت سأقول له 7 دنانير مثل السنة الماضية، لكن خرجت من فمي عبارة 8 دنانير فوافق.. ومن حينها طبّقنا هذه التعريفة" على حد تعبيره.
تتوافد الرؤوس بكثرة على هذه الثلّة من الشباب، فيبدؤون في التوجّس! الحطب لن يكفي لكلّ هذه الرؤوس والأرجل، لا بدّ من الحصول على المزيد. يركب أحدهم درّاجة هوائية ويطير بحثًا عن مكان قريب لجلب الحطب، في الوقت الذي وقفت فيه سيارة فارهة لينزل منها شيخ وقور يعتمر عمامة ويرتدي جبّة رمادية.. يسأل عن السعر قبل أن يفتح الصندوق الخلفي للسيارة ويخرج منها كيسًا حوى 5 رؤوس وما رافقهم من الأرجل. يلاحظ نقص كميّة الحطب فيسألهم عمّا ينوون فعله. ثمّ إنّه يطلب من اثنين أن يرافقاه مع ابنه الذي لم ينزل من السيارة.. كان يملك بعض الحطب في مرأب منزله القريب، وقرّر التبرّع به لهؤلاء الفتية.
يطلّ كهل آخر بعد وقت قصير ليقول بتردّد: "هل متأكدون يا شباب من تنظيفكم لهذا المكان بعد انتهاء عملكم؟" كان يسكن المنزل المجاور تمامًا. يطمئنه الخماسيّ بأنّهم سيزيلون كلّ الآثار ولن يتركوا شيئًا. وهنا، يهتف رجل من أعلى السطح المقابل: "لا بأس، أنا وافقت لهم على التمركز في المكان، وسأوفّر لهم الماء ومواد التنظيف مساءً حتى يتمكنوا من تنظيف المكان جيّدًا".
نغادر هؤلاء الفتية بعد أن أنهوا نصيبًا محترمًا من شواء الرؤوس وحرقها، وكنّا نسمع سؤالهم للزبائن بعد تسليمهم "الأمانة": "فرحان بخدمتنا بابا؟ إن شاء الله نلتقي العام القادم في نفس المكان.. عيدك مبارك". كانت هذه بعض حيثيات هذا العمل الموسمي الفريد من نوعه في تونس، وبعض البلدان القليلة المجاورة.. عمل ليوم واحد في السنة، يسعى فيه شباب الأحياء لـ"تدبير رؤوسهم" عبر رؤوس أكباش الحيّ!
اقرأ/ي أيضًا:
جائحة كورونا تعمّق محنة أصحاب المهن الموسمية في عيد الأضحى بتونس
حملة تضامنية فرضتها كورونا.. تونسيون يتبرعون بثمن أضحية العيد نبلًا وتصدّقًا