18-فبراير-2019

مسرحية تعرّي بؤس الأنظمة الدكتاتورية وهشاشة العلاقات الإنسانية فيها

 

لحظات من الصمت عمّت ركح مسرح فضاء الأرتيستو، قبل أن يتسلل صوت البرق وقطرات المطر ليملأ الفراغات ويمهد لتصادم جسدي امرأة ورجل، يتلاحمان ويتدافعان لتصرخ الأرضية إذ ارتطم بها جسد المرأة..

تلاحم، تدافع، شد وجذب فسقوط، والسقوط قد يكون ماديًا أو معنويًا وقد يخلّف في الجسد جراحًا وفي النفس والروح أيضًا، جراح قد تُنسى ولكن أثرها لا يمحى، "سيكاتريس" تلازمك ما حييت، قد لا تراها بالعين المجرّدة ولكنك تشعر بوقعها في داخلك وقد تساهم ظروف معينة في تعميقها. و"سيكاتريس" مسرحية دراماتورجيا وإخراج غازي الزغباني ونص حاتم جوهر وتمثيل محمد حسين قريع ونادية بوستة ومريم الدريدي ومحمد علي القلعي وطلال أيوب.

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "ذاكرة قصيرة".. حينما يكون الإنساني رهين السياسي

دلالة العنوان..

عنوان المسرحية "سيكاتريس" هو المرادف الفرنسي للأثر الذي يتركه الجرح على الجسد، وتلك العلامة التي تخلّفها الندبات والحروق على الجلد.

والعنوان يحمل في طياته سبب اختياره، ففي اليومي يستعمل الأفراد بمختلف انتماءاتهم مفردة "سيكاتريس" للتعبير عن أثر الجرح، وبالتالي سيكون وقعها أعمق في ذهن الجمهور، وزد على ذلك فإن تعريب الكلمة أي "أثر الجرح" مكونة من مفردتين تبدوان هجينتان على الأذن وعلى مركز الإدراك. وباللجوء إلى "سيكاتريس"، عوض "أثر الجرح" أو أي مفردة أو مفردات أخرى، يكون المخرج قد لخّص النص إلى أقصى حد وجعل من "السيكاتريس" معرّفًا له.

نص مسرحية "سيكاتريس" يروي قصة صحفي ذاق ويلات القمع والظلم في عهد النظام النوفمبري

وعنوان المسرحية يستبق النص وبقية مقومات العرض ليكون همزة وصل بينها ويمكنه من إنشاء قراءة أو تمثل مسبق للعرض، فهو حينما يطالع مفردة "سيكاتريس" في العنوان سيتبادر إلى ذهنه أن الأمر يتعلق بحادثة ما خلفت أثرًا على شخص ما. وتتوضح دلالات العنوان مع بداية السرد في المسرحية، وتظهر جلية في انكسار نظرات أعين الشخصيات وشحوب وجوههم، وفي ذلك الدوي الذي يحدثه ارتطام أجسادهم بالحيطان والأرضية، ومع تكثيف السرد يتجلّى العنوان بمظهر مختلف، الأمر لا يتعلق بندوب على الجسد بل ندوب في الروح، ندوب نحسها ولن نتحسسها لأنها شفافة ولا تجدي معها المراهم نفعًا.

تفرعات النص

وعنوان المسرحية وإن كان ملخصًا للنص وهمسًا بأحداث منتظرة فإنه لا يكتمل إلا بتكثيف السرد، لتكتمل دلالة العنوان بانسياب النص المسرحي، فيصبح العنوان جزءًا من أصوات النص التي تبعثها الشخصيات ووقع أجسادهم على الركح.

ونص المسرحية يروي قصة صحفي ذاق ويلات القمع والظلم في عهد النظام النوفمبري، لم يقو على مقاومة الصنصرة ولم يتمكن من الخضوع كليًا لسطوة المال والسياسة فأدمن الكحول وانتهى به المطاف إلى مستشفى الأمراض النفسية "الرازي".

في مسرحية "سيكاتريس" طغى حضور الميكرفون والكراسي والطاولات على عنصر الديكور

وفي "الرازي"، يهذي الصحفي ويبعثر شظايا حياته ويتأرجح بين الأمل واليأس، يروي حكايته مع الحب والخيانة، هو ذلك الصحفي الذي كان رئيس قسم الشؤون السياسية، صاحب قلم جريء عشق راقصة بـ"كباريه" وأحبّته، ولكن الظروف لم تنصف كليهما، وتداخل السياسة والإعلام وآلت الجريدة إلى "الباش حسين"، متملق متسلق لا يفقه من الصحافة شيئًا ولا يؤمن بالقلم.

"الباش حسين" لا يرجو من الصحفي الذي أرهقته الصنصرة سوى التودد إلى النظام، يريد أن يسكب حبر القلم على الجراح فتندمل وتسكت الأفواه ولو لحين. ونص المسرحية يتفرع ليروي علاقة الصحفي بالنظام وعلاقته بمدير المؤسسة الذي لا يعدو أن يكون بيدقًا بيد النظام، وعلاقته بزوجته وبنادل الخمارة وصاحب الخمارة، علاقات متشابكة متداخلة، نواتها صحفي انتهى به المطاف في مستشفى المجانين.

رمزية السينوغرافيا

وفي "سيكاتريس" يجول بك الممثلون بين الأزمنة والأمكنة وبين الشخصيات، قد يختلط عليك الأمر لوهلة وتتشوش أفكارك ولكن ما يلبث أن ينقذك ممثلان اثنان ارتأى المخرج أن يلعبا أكثر من دور في المسرحية وأنبطت لهما مهمة السرد غداة كل انتقال من مشهد إلى آخر، بطريقة جعلت تجسيد النص محبوكًا وسدّت كل الفراغات.

وفي المسرحية طغى حضور الميكرفون والكراسي والطاولات على عنصر الديكور، وهو ليس بالأمر الاعتباطي إذ يتعلق الأمر بالعلاقة بين النظام والصحافة وتحيل الكراسي إلى عالم السياسة، والطاولات والكراسي مجتمعة تحيل إلى عالم "الكباريهات" والأسرار التي تختزنها ثناياها وأفواه الراقصات.

صورة بن علي معلّقة في مكتب في الجريدة

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "سامحني" للراحلة نجوى سلامة: انتصار لقيم العفو ودفاع عن رومانسية الموت

صورة بن علي معلّقة في مكتب في الجريدة، وربطة الباش حسين البنفسجية، وورقة وقلم يستريحان على الطاولة، وجدال بين الصحفي الذي أبى أن يخون قلمه ومديره الذي لا همّ له سوى تلميع صورة النظام، جدال ينتهي بأن يرمي الصحفي حقيقة مديره في وجهه ويبصق على صورة بن علي، وكانت بداية النهاية.

وركح فضاء الأرتيستو كان حمالًا لعدة نظم دلالية، تظافرت فيها الموسيقى والضوء والحركات والإيماءات لتجعل المتفرج في حالة ذهنية تربكه وتهزه وتراود ذاكرته عن أحداث ماضية وما بالك لو كان المتفرج صحفيًا؟

وبدلة الرقص التي ارتدتها الراقصة حينما عانق قلبها قلب الصحفي كانت حمراء، واللون الأحمر يحيل إلى المنحى الدرامي في المسرحية، وتلك المكنسة التي تحارب بها الراقصة التي ذوى مجدها كائنات من وحي خيالها ليست إلا دلالة على هشاشة المواطن في الأنظمة الدكتاتورية، أنظمة تجعلك تخلق أعداء آخرين لك والحال أنها عدوك الأوحد.

عن شخصيات المسرحية

في "سيكاتريس"، تبدو الشخصيات واقعية جدًا، هي شخصيات بعضها معلوم الاسم وبعضها الآخر مجهوله، وهو خيار ينطوي على عدد من الرسائل من بينها أن الأسماء تفقد قيمتها حينما يتعلق الأمر بكرامة الإنسان، وأنه لا معنى لها إذا ما كان المواطن مجرّد رقم في سجلات الدولة، ولا معنى لاسم الصحفي إذا ما سلّط سيف الرقابة والصنصرة على كتاباته واختنق قلمه حتى غصّ بحبره ولا معنى لاسم زوجته التي أحبته وخانته وانتهت في العراء.

في المقابل، برز اسم صاحب الجريدة "الباش حسين" واسم صاحب الخمارة  " التابعي" واسم النادل "التوهامي" واسم حارس الجريدة "الطاهر"، ففي الأنظمة الدكتاتورية تحيط هالة من الضوء بأسماء التابعين والموالين ويدور هؤلاء في حلقة مفرغة تذبح على أعتابها كل القيم، في الأنظمة الدكتاتورية تزدهر سلعنة المبادئ والأخلاق وتنتفي كل الخطوط الحمراء ويصبح كل شيء مباحًا، ولا عجب في أن يصبح النادل من الأثرياء وصاحب البار يستأثر بالجريدة ويموت "الطاهر" كمدًا.

"سيكاتريس" مسرحية تعرّي بؤس الأنظمة الدكتاتورية وهشاشة العلاقات الإنسانية فيها

و"سيكاتريس"، مسرحية تعرّي بؤس الأنظمة الدكتاتورية وهشاشة العلاقات الإنسانية فيها، تلقي الضوء على مرارة القمع التي تسلطها يد النظام على الصحفي، وتثير سؤالًا وجوديًا قد يظل معلّقًا إلى الأبد "هل نحن فعلًا أحرار؟"، سؤال سطرته كلمات المخرج غازي الزغباني، حينما خاطب الصحفي وهو يتحدث عن كونه حرًا قائلًا " ما أدراك أنك حر".

لا أحد من الجمهور كان يظن أن الزغباني الذي يجلس بينهم سيكون جزءًا من العرض المسرحي وسيثير فيهم تساؤلًا وجوديًا عن الحرية والتحرير، ومن خارج الركح أربك الزغباني الشخصيات فصرخ الكل أنه حرّ، وكأن بنهاية المسرحية تنبهنا إلى أن هناك دائمًا من يتحكم في المشهد من خارجه، وأن الصور التي نشاهدها ليست دائمًا مكتملة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرعب في "دشرة".. عن السحر والشعوذة والهلاك المؤجّل

قراءة في الشريط الوثائقي الروائي "غزالة ".. هشاشة ناصعة