تعج واجهات المحلات بسوق الفضة في تونس الذي يقع بالمدينة العتيقة، بالحليّ والمجوهرات الفضية التي تلفت انتباه المارة وتنال إعجاب محبّي هذا المعدن، ويمتدّ سوق الفضة على مئات الأمتار بـ"المدينة العربي"، وتتخلّله أزقة ضيقة ملتوية تحتوي على العديد من الدكاكين التي يقف أمامها تجار الفضة في انتظار زبائن محتملين.
تبقى الفضة رغم ارتفاع سعرها في السنوات الأخيرة، الخيار الوحيد لكل من يبحث عن حليّ تناسب المقدرة الشرائية المهترئة للتونسي، خاصة مع الارتفاع الجنوني في أسعار الذهب
وبالنظر للارتفاع الجنوني في أسعار الذهب، فإن الفضة رغم ارتفاع سعرها في السنوات الأخيرة تبقى الخيار الوحيد لكل من يبحث عن حليّ تكون مناسبة للمقدرة الشرائية المهترئة للتونسي. وبالتالي، فمهما يسجل السوق من ركود، فإنّ زبائنه لا تنقطع نهائيًا. ويخيّر التونسيون اقتناء قطع فضية لا يتجاوز وزنها بعض الغرامات، لكنّ الأدوات الفضية الثقيلة والتي تُعرف بجهاز العروسة وهي "القبقاب والسطل والكنسترو والمشط" وغيرها.. فهي عادات هُجرت منذ سنوات بسبب غلاء سعر غرام الفضة الذي يتجاوز حاليًا.. دينارًا تونسيًا.
ولئن يبقى إشكال الزبون على الأغلب، غلاء الأسعار فقط، فإن الحرفيين يعانون من إشكاليات بالجملة في انتظار حلول تساعد على ديمومة هذا القطاع.. وقد ساهم التوجّه نحو إلغاء معرض الكرم هذه السنة، في تعقيد الأمور خاصة وأنه المناسبة المثالية التي تمكّن الحرفيين من عرض منتوجاتهم في قاعة فسيحة تمكّن أكثر من 600 عارض من المشاركة.
- أضرار كبير ستنجم عن إلغاء معرض الكرم
وقد أكد محمد بهاء الدين المؤذن، رئيس الغرفة الوطنية لحرفيي الفضة، أن القطاع يغرق في العديد من الإشكاليات منها قانون الفضة الذي يطالب الحرفيون بعقد جلسة مع رئيس لجنة المالية بالبرلمان التونسي للتحاور بشأنه، وكذلك فقدان المواد الأولية التي كانت تؤمنها شركة منتوجات الصناعات التقليدية والتي أغلقت منذ سنة 2007، مشددًا على أن الكميات التي توفرها تعاضدية تونس وصفاقس غير كافية لتلبية حاجيات الحرفيين، وفقه.
رئيس الغرفة الوطنية لحرفيي الفضة لـ"الترا تونس": القطاع يغرق في العديد من الإشكاليات منها قانون الفضة وكذلك فقدان المواد الأولية
كما لفت المتحدث إلى أن إلغاء معرض الكرم من شأنه أن يضر بمصالح الحرفيين الذين يستعدون طيلة سنة كاملة للمشاركة فيه وعرض منتوجاتهم، مبينًا أن الاستعداد لهذه المناسبة يضطر الحرفي للاقتراض ورصد مبالغ كبيرة تتراوح بين 10 و20 ألف دينار. وطالب المؤذن بتقديم معلومة واضحة للحرفيين في علاقة بمعرض الكرم الذي قيل إنه مغلق من أجل الصيانة والترميم.
وشدد رئيس الغرفة الوطنية لحرفيي الفضة على أن القطاع يشكو ركودًا كبيرًا وأن الحرفيين قلّ عددهم والعديد من القطع التقليدية غير مطلوبة ولم تعد تصنع، كما أكد على ضرورة إحداث دفتر يتم فيه تدوين كل العمليات التي يقوم بها حرفيو الفضة.
- في ظل غلاء أسعار الذهب، التونسي يتجه نحو الفضة
آمال المساكني هي حرفية التقيناها بدكانها الصغير الواقع في ركن قصيّ وسط أزقة السوق بالكاد يمكن للمارة التفطن لوجوده.. كل ما في الدكان يروي عراقته: الباب خشبيّ مقوّس أخضر اللون، ومرصّع بمسامير سوداء داكنة تتوسطه فتحة قفل ضاربة في القدم.. الجدران سميكة أزيل عن أغلبها الطلاء بسبب الرطوبة العالية في المكان، أما معدات العمل التي تستعملها فهي تلخص خبرتها الطويلة في قطاع الفضة التي انطلقت منذ 28 سنة ومازال الشغف يدفعها للمواصلة رغم الصعوبات.
تقول المساكني في حديثها لـ"الترا تونس"، إنها متخصصة في صناعة وابتكار المجوهرات الفضية على الرغم من أن تكوينها الأكاديمي في تصميم الأزياء، لكنّها خيّرت اقتحام مجال المجوهرات لولعها بكل ما هو عتيق وتقليدي، مشيرة إلى أن العديد من القطع العتيقة سواء مجوهرات أو غيرها مهملة رغم قيمتها الفنية والتاريخية.
آمال المساكني (حرفية فضة) لـ"الترا تونس": نشكو اليوم صعوبة الحصول على المواد الأولية فضلًا عن غلاء سعر الفضة
وتشكو الحرفية نقص المواد الأولية وصعوبة الحصول عليها حتى إنها تضطر في بعض الأحيان للتحول لصفاقس لتأمين مواد أولية علاوة على غلاء سعر الفضة الذي يتجاوز سعر الكيلوغرام الخام منه 2000 دينار وهو ما يعطل الحرفي في عمله، مبينة أن الحرفي يحصل على المواد الأولية إما من البنك المركزي التونسي أو من التعاضدية.
وتبيّن آمال المساكني أن التونسي مازال يُقبل على اقتناء الفضة خاصة في ظل غلاء أسعار الذهب حتى إن الأزواج الذين لا يقدرون على اقتناء حليّ ذهبيّ في الأعراس يشترون مصوغًا من الفضة التي يتم "تغطيسها" في الذهب، كما لفتت إلى أن الزبائن لا يهتمون بقطع مجوهرات فريدة من نوعها تعبر عن شخصيتهم وتحمل بصمتهم بل يقتادون وراء الموضة ويقتنون قطعًا متشابهة خالية من الإبداع.
وتشدد المتحدثة على أن ما يلحق الضرر بقطاع الفضة هو "الغش" وغياب المصداقية التي تسببت في غياب الثقة بين الحرفي والمواطن.
- سوق الفضة في تونس يموت تدريجيًا
على الرغم من أن المهن والحرف اليدوية آخذة في الاندثار وأصبحت تُدرج في خانة الموروث الثقافي اللامادي، فإن العديد من الحرفيين مازالوا يواجهون كل الظروف من أجل الحفاظ على حرفهم المتوارثة أبًا عن جد ويتطلعون لتطويرها وعصرنتها لتتماشى مع متطلبات الزبائن التي اختلفت على مر الأجيال.
معز هو حرفي فضة منذ 24 سنة، مكّنته هذه الخبرة الطويلة من مواكبة التغيرات التي طرأت على السوق خلال العقود الأخيرة، فيؤكد أن غلاء المواد الأولية وفقدانها قد أضرّا كثيرًا بالقطاع وتأزم الوضع أكثر فأكثر بسبب عدم مطالبة الحرفيين بحقوقهم وتفصي آخرين من سداد أداءاتهم لدى الدولة.
معز (حرفي فضة) لـ"الترا تونس": هناك غياب لأمين سوق يشرف على عملية التأكد من سلامة المجوهرات الفضية المعروضة للبيع من الغش والتقليد
ويقدّر محدث "الترا تونس" تكلفة قطعة فضية لا يتجاوز وزنها 5 غرامات بـ100 دينار وذلك بحساب قيمة غرام الفضة الخام المقدر بـ 5 دينارات وكذلك باحتساب اليد العاملة وهو سعر باهظ مقارنة بأسعار الفضة في السابق، لافتًا إلى غياب أمين سوق يشرف على عملية التأكد من سلامة المجوهرات الفضية المعروضة للبيع من الغش والتقليد.
ويؤكد الحرفي أن سوق الفضة في تونس يموت تدريجيًا والحرفيون أصبحوا يعملون حسب الطلب لأسباب عديدة أهمها إقبال التونسي على "البلاكيور" رغم غلاء سعره مقارنة بالفضة واحتوائه على مواد يمكن أن تضرّ بالبشرة، كذلك بسبب تغييب الموت لكبار حرفيي الفضة الذين لا يعوضون، وأنه على الحرفي أن يكون خرّيج معهد عالٍ ليبتكر ويبدع ويقدم الأفضل ويفهم تركيبة المواد الأولية التي هي في الأصل مواد كيميائية.
معز (حرفي فضة) لـ"الترا تونس": سوق الفضة في تونس يموت تدريجيًا والحرفيون أصبحوا يعملون حسب الطلب لأسباب عديدة أهمها إقبال التونسي على "البلاكيور"
ويتابع المتحدث أن صنع قطعة فضية يتطلب خمسة حرفيين على الأقل بين الصقل على الآلة وتركيب الحجر والتنظيف والنقش والطبع في دار الطابع مشيرًا إلى أن التاجر يحقق أرباحًا أكثر من الحرفي.
وختم المتحدث بالتشديد على أن قطاع الفضة فن واقتناع بمبدأ الإتقان في العمل وعلى أن الحرفي يعجز في كثير من الأحيان على الإبداع بسبب الآلات التي لم يتم تجديدها منذ 25 سنة.
جدير بالذكر أن قطاع الفضة يقترن بالعديد من القطاعات الأخرى ويحييها على غرار الزمرد والمرجان والأحجار التي تستعمل لتزيين القطع الفضية كل حسب رغبته.