28-يونيو-2019

رفيقة بوجدي في أول حوار صحفي مطوّل للحديث عن تجربتها في كتابة الدراما

 

"سِرْ وسِرْ سابقًا من معك" نحسب أنّه الشعار الأمثل الذي يليق بتجربة رفيقة بوجدي المبدعة التونسيّة كاتبة السيناريو، لقد آثرت أن تكون متفرّدة في مسيرتها واختياراتها، فهي "لا تنزل نفس النّهر مرّتين"، فقد كانت الطالبة المتفوّقة، وهي الآن الأكاديميّة المتألقة والباحثة المتميزة، وحينما حازت مفاتيح الإبداع وتقنياته لم تقبل التدرّج في سلّم التأليف الدراميّ، لقد وُلدت كبيرة.

إذ خرجت إلى الأضواء بـ"الليالي البيض" (2007) المسلسل الذي نال الثناء والإعجاب، وبدأت مع "صيد الريم" في البروز وصيد الألقاب (2008)، وتتابعت أعمالها في انتظام فأنجزت "كاستيغ" سنة 2010 ثمّ كتبت "لأجل عيون كاترين" سنة 2012.

هذا التواتر في الحضور الدرامي جعل أرصدة بوجدي الفنيّة تعلو شيئًا فشيئًا، حتّى عَلق اسمها بالأذهان وسرت عناوين أعمالها على الألسن، فاستثمرت التلفزات التونسيّة هذا الإشعاع بإعادة تلك المسلسلات التي استمرّت تشدّ إليها المشاهدين شدًا.

ألفت السيناريست رفيقة بوجدي مسلسلات درامية نالت نجاحًا جماهيريًا ونقديًا أهمها "ليالي البيض" و"صيد الريم" و"لأجل عيون كاترين" ومؤخرًا المسلسل الجزائري "أولاد الحلال"

رفيقة بوجدي هي أوّل من حوّل "التحرّش" من مجرّد حدث أو لقطة أو موقف في عمل فنيّ إلى موضوع جوهريّ مكثف مطوّل مركب متداخل متنام تنبني على سَمْتِهِ كل الوقائع والحوارات والمشاهد خاصّة في مسلسل "صيد الريم".

مرّت تجربة بوجدي الدراميّة بسبعٍ عجاف (من 2012 إلى 2019)، فأثار هذا الغياب تساؤلات عديدة، وبسبب صمت هذه المبدعة وندرة حواراتها تحوّلت تلك التساؤلات إلى أوهام وتخمينات. بعدها، هاجرت رفيقة فنيًا إلى الجزائر فيما يشبه "اللجوء الإبداعيّ،" فعادت إلى بلدها فاتحة غازية دراميًا، فقد أقبل الجمهور التونسي على "أولاد الحلال" آخر أعمالها (رمضان 2019)، ولم تمنعه لهجة الأشقاء من متابعة إبداع سفيرة الدراما التونسيّة بكل شغف وانتشاء.

رغم صفاء هذه السيرة الإبداعيّة، ظلّت بعض الأركان في تجربة بوجدي غامضة نسبيًا، ودفْعا لكلّ التباس أو تأويل أو إسقاط أو تهافت، استأنس "ألترا تونس" بآراء هذه المبدعة وتفسيراتها رغم ميلها إلى التركيز على الإبداع وإعراضها عن الحوارات و سائر أشكال الإثارة، فكان لنا معها الحوار التّالي، ونحسبه أول حوار صحفي لها طيلة مسيرتها الاحترافية:


  • بم تفسّرين "هجرتك الإبداعيّة" إلى القطر الجزائريّ؟

هل تسمّي الذهاب إلى "بيت الجيران" هجرة؟ لا أعتقد ذلك. التّقسيم بالنّسبة إليّ لا يعدو أن يكون إداريّا، فواقع التونسيين والجزائريين متشابه لولا بعض التّفاصيل، ذلك أنّ هواجسنا وهمومنا وأحلامنا تكاد تكون واحدة. أمّا عمليّا، فقد أتاح لي المنتج المتميّز أيمن الجوّادي فرصة الانضمام إلى فريقه، وهو كما تعلم من التونسيين المتألقين بالجزائر، فله منّي جزيل الشّكر.

  • كيف تقيّمين هذه التجربة الفريدة؟

أعتبر هذه التجربة هامّة ومبشّرة، فقد أقامت الدليل على جدوى بناء "دراما مغاربيّة" تعبّر عن هذا الشعب وتكشف صورته وتتكلّم بلغته، هذا المشروع الفنّي يمكن أن يتيح لنا منافسة الدراما المصريّة والخليجيّة وحتّى التّركيّة، وقد راودني هذا الحلم منذ وطئ قلمي هذا الفنّ وحلّت كلماتي به.

 رفيقة بوجدي: واقع التونسيين والجزائريين متشابه لولا بعض التّفاصيل ذلك أنّ هواجسنا وهمومنا وأحلامنا تكاد تكون واحدة

اقرأ/ي أيضًا: حاتم بالحاج لـ"الترا تونس": نقاد السينما والدراما في تونس عاطفيون (حوار)

  • كيف تمكّنت من تخطّي عائق اللهجة؟

مثّلت اللهجة بالنسبة إليّ العائق الوحيد، تمنّيت لو كتبت الحوار مباشرة باللّهجة الجزائريّة، لكنّ جهلي بها حال دون ذلك، لذلك اضطرّ فريق الإنتاج إلى الاستعانة بفريقٍ نقلَ الحوارَ إلى اللهجة "الوهرانيّة". وقد أشرف على عمليّة نقل الحوار بطل المسلسل والمسرحيّ المتميّز عبد القادر جريو، وتمّ ذلك على أحسن ما يرام.

  • ما الذي شدّك في أداء هذا الممثّل الجزائريّ وزملائه؟

حقّقت لي هذه  التجربة مكاسب عديدة منها اطّلاعي على ما يتّصف به الممثل الجزائري من كفاءة عالية، فقد أبهرني أداؤهم في "أولاد الحلال"، بل فيهم عدد من الممثّلين يحملونك على كتابة نصوص خاصّة بهم عميقة تليق بما يمتلكون به من قدرة على الأداء والتّقمّص.

 من جهة أخرى، لا أخفي إعجابي بنصر الدين السهيلي لمخرج التونسيّ المتميّز الذي بدا حكيمًا في تطويع تلك الطاقات وحسن توظيفها.

  • تصدّر اسمك الفنّي الصحف والمجلّات الجزائريّة، ما سرّ ذلك؟

فضلا عن النجاح الجماهيريّ، حظي مسلسل "أولاد الحلال" بقراءات نقديّة دقيقة ومعمّقة من قبل العديد من الكتّاب الأكاديميين والمتخصّصين في الشأن الدرامي، وهو ما أكسب العمل مزيدًا من الإشعاع جماهيريًا ونخبويًا. فقد اتّجه هؤلاء النّقّاد إلى تفكيك المسلسل تفكيكًا يراعي مختلف مستويات تشكّله من سيناريو وإخراج وديكور وإضاءة وتمثيل ومضمون ورسالة، وقد تابعت هذه القراءات بتقدير وتركيز، وسيكون لها أثر في اختياراتي الدراميّة اللاحقة.

  • هل يعني ذلك أنّ تجربتك في تونس قد أكرمها الجمهور وخذلها النّقّاد؟

لا أنكر أنّ أعمالي السابقة لم تنل حظّها من قبل النّقّاد المختصّين في تفكيك العديد من زواياها، ولكن ذلك لا يعود إلى تقصير أو استخفاف، إنّما يرجع إلى التّفاوت والاختلاف في المجالات النقديّة بين القطرين، وهو أمر يجوز تفهمه، بل يمكن اعتباره من علامات التّنوّع المفضي إلى التكامل.

رفيقة بوجدي: حظي مسلسل "أولاد الحلال" بقراءات نقديّة دقيقة ومعمّقة من قبل العديد من الكتّاب الأكاديميين والمتخصّصين في الشأن الدرامي وهو ما أكسب العمل مزيدًا من الإشعاع جماهيريًا ونخبويًا

 ففي تونس تحظى السينما بما يليق بها من نقد معمّق، وفي الجزائر تخضع الأعمال الدراميّة إلى أفضل المراجعات وأدقّها وبفضل التواصل والتلاقح الثقافيّ والفنّي يمكن أن تحصل الإضافة هنا وهناك في النقد والإبداع سواء في الدراما أو السينما.

  • أثمر "أولاد الحلال" إعجابًا، لكنّه خلّف سُخطًا بسبب ما عُدّ إساءة لسكّان "وهران"، ما رأيك في السّجال الذي دار حول هذه المسألة الحرجة؟

مع بداية العمل أثيرت هذه المسألة في وهران، لكنّها سرعان ما خفتت مع تقدّم الحلقات، قد يرجع الأمر إلى إعجاب المشاهد بشخصيّات المسلسل وأحداثه المشوّقة، وقد يعود إلى اكتشاف الجمهور ما ينطوي عليه العمل من حبّ كبير لمدينة وهران ولسكّان "حي الدّرب العتيق"، بلغ هذا الشعور النبيل قلوب المواطنين، فهدأت الموجة.

  • لكنّ رغم ذلك لم يكفّ الكثيرون عن الحديث عمّا اعتبروه تشويها؟

هذه الانطباعات لا يمكن إلغاؤها، فقد قيل سابقًا إنّ مسلسل " الليالي البيض" قد شوّه صورة أبناء الطّبقات الميسورة والفتيات النازحات إلى العاصمة بحثًا عن مورد رزق، وقيل كذلك إنّ "صيد الرّيم" قد شنّع ببنات المعامل ومديري هذه المؤسّسات، ولم يسلم مسلسل "لأجل عيون كاترين" من هذه التهمة، فقد عُدّ متجنّيًا على سكّان الشّريط السّاحليّ. فلا عجب أن نواجه تلك المواقف في كلّ عمل، لكن لا بدّ من التذكير بأنّ العمل الدراميّ ينبني بالضرورة على نقد ظاهرة سلبيّة موجودة في المجتمع وإلّا لماذا نكتب؟

رفيقة بوجدي: ينبني العمل الدراميّ بالضرورة على نقد ظاهرة سلبيّة موجودة في المجتمع وإلّا لماذا نكتب؟

  • ألتقط منك هذا الاستفهام الإنكاريّ، وأسألك  لماذا تكتب رفيقة بوجدي؟

أنا أعتبر أنّ الدراما في مجتمعنا الرّاهن تلعب الدور الذي كانت تلعبه "الحكاية المثليّة" قديمًا، هناك حكاية مشوقّة (خرافة) بكلّ عناصرها البنيويّة المعروفة، لكن ينبغي أن تكون مُتوّجة بحكمة، وهو البعد النّقديّ الواعي للكاتب الذي يروم لفت انتباه النّاس وتحذيرهم.

 الأمر إذًا عميق معقّد يرتبط بماهية الفنّ ووظيفته التي ينبغي أن تجمع بين المقصد الإمتاعي والرّسالة الأخلاقيّة دون الحاجة إلى الأسلوب الوعظيّ المباشر، وهنا يختلف كاتب عن آخر.

  • نجح "صيد الريم" في التلفزة الوطنيّة ما الذي عطّل التّعامل مع هذا المرفق العموميّ منذ 2008؟

لا أعرف ، لعلّه لم يعجبهم أو لأسباب ماديّة، صدّقني لا أملك الإجابة الحقيقيّة، على كلّ أنا لم أكُفّ ولن أكفّ عن كتابة السيناريو على النّحو الذي أراه  حتّى إن تعطّل الإنتاج لهذا السّبب أو لذاك.

رفيقة بوجدي: لا أعرف لما تعطّل التعامل مع مؤسسة التلفزة الوطنية وحقيقة لا أملك الإجابة

  • لكنّ الإنتاج وتحويل النصوص إلى أعمال تلفزيّة محفّز مادّي وأدبيّ لا غنى عنه بالنّسبة إلى كاتب السيناريو، أليس كذلك؟

الكتابة عندي شأن وجوديّ، أنا أترجم الوقت إلى نصوص، وهو الفعل الوحيد الذي يجعلني أستمرّ، وقد لازمني هذا الأمر منذ الطفولة، كان من الممكن أن لا يرى أيّ من نصوصي النّور، ولكنّ هذا لم يكن ليغيّر من الأمر شيئًا، سأظلّ أكتب مثلما أفعل الآن.

اقرأي أيضًا: بن عمّو مؤلف "عام الفزوع": شوقي الماجري أراد تزييف تاريخ "بن غذاهم" (حوار)

  • هذه إجابة عميقة تتّصل بالمحرّك الجوهريّ للإبداع لديك، لكن في هذا المقام أنا حريص على علاقة رفيقة بوجدي بالإنتاج والنجاح الجماهيريّ.

مرّة أخرى لا إجابة، أنا لست منتجة، وعمليّة الإنتاج معقّدة جدًا ومكلّفة ذلك أنّ مسألة التّكلفة والرغبة في الرّبح أصبحت المحرّك الذي يدفع قاطرة الإنتاج الدرامي في بلادنا خاصّة في القنوات الخاصّة، وهذا الأمر يمكن تفهّمه، فقد تكون النّصوص التي أكتب لا تتناسب مع هذه المتطلّبات.

  • لم لا تراعين أفق انتظار الجمهور وتطلّعات المنتجين؟

لا أكتب تحت ضغط ما يريده المشاهدون، وكلّ من قرأ نصوصًا من الأدب الإنسانيّ حتّى إن كانت محدودة لا يمكن أن تزلّ به القدم إلى هذه الهاوية، لهذا السّبب تلقى نصوصي تقبّلًا حسنًا من النّقّاد. فقد نالت كلّ أعمالي جوائز هامّة، في المقابل لم تنجح نجاحًا جماهيريًا كبيرًا باستثناء "أولاد الحلال" هذا الموسم في الجزائر.

رفيقة بوجدي: الكتابة شأن وجودي وأنا أترجم الوقت إلى نصوص

أنا أكتب لدوافع مغايرة تمامًا فيها الذّاتيّ وفيها الموضوعيّ، ولكنّها لا تنزل بالمرّة لما يريده الجمهور، النصّ، أيّ نصّ كان، ليس سلعة نشكّله ونحوّره بحسب رغبات الحريف، النّصّ بعضٌ منّا، هو وسيلتنا لفهم العالم من حولنا ولفهم أنفسنا، لذلك يجب أن يكون النصّ صادقًا بلا حسابات حتّى لا نخطئ الطّريق نحو ذواتنا.

  • لو عدنا إلى المضامين والرسائل في كتاباتك، ما رأيك في من يعدّ أعمالك منحازة إلى المرأة؟

هذا فخر لا أدّعيه، أعتقد أنّ النّساء والسّود هم من أكبر ضحايا الظّلم الذي مارسه الإنسان عبر التّاريخ، وأعتقد أيضًا أن الطّريق ما يزال طويلًا أمام العدالة والكرامة والمساواة الحقيقيّة. لا تغرّنّك الشّعارات المرفوعة التي تتغنّى بمكانة المرأة في مجتمعنا اليوم، انظر إلى حياة المرأة في البيت بنتا وأختا وزوجة و"عانسًا"، انظر موقف المجتمع بشكل عامّ وحتّى بعض النخب من مسألة المساواة في الإرث، بل انظر العنف المسلّط على المرأة في الشّارع وفي بيتها وفي العمل.

الطّريق أمامنا ما يزال طويلًا، ويكفيني فخرًا أن أنحاز لها، أعتقد أنّ من أوكد رسائل الفنّ الانتصار للقضايا العادلة التي من بينها قضيّة المرأة.

  • هل يدفعك حرصك على تبليغ رسائلك إلى التّدخّل في الإخراج والتّمثيل؟

ليست لديّ أيّة علاقة ببقيّة الأطراف المكوّنة لحلقة الإنتاج الدرامي، عملي يبدأ بالنّصّ وينتهي معه، أنا لا أكتب نصًا أدبيًا للنّشر، أنا أكتب سيناريو ومن حقّ المخرج أن يعيد كتابته للتلفزيون بالطريقة التي يراها مناسبة مستعملًا تقنيات مختلفة عن تقنيات الكتابة، لأنّ العمل في نهاية المطاف سيحمل إمضاءه، لا أذكر أنّني تدخّلت في عمل المخرج أو في اختيارات الممثّلين أو غير ذلك من مقتضيات العمل، ولن أفعل.

رفيقة بوجدي: انحياز أعمالي إلى المرأة فخر لا أدّعيه ولم أشاهد اثنين من المسلسلات الخمس التي وضعت لها سيناريو

 وفي اللحظة التي أرسل فيها آخر حلقات المسلسل إلى المخرج أو إلى المنتج تنقطع صلتي به، تبقى صلتي حميميّة بالنّصّ المسجّل في جهاز الكمبيوتر الخاصّ، فقط لا غير. ولعلّك تستغرب إن قلت لك إنّني إلى هذه اللحظة لم أشاهد على الأقلّ اثنين من المسلسلات الخمس التي وضعت لها سيناريو.

  • أخيرًا، هل ساهمت الثّورة في تحرير نصوصك الإبداعيّة من حيث المواضيع والشّخصيّات؟

كنت ولا أزال أكتب دون أيّ حسابات من أيّ نوع، ولك أن تنظر منسوب الجرأة والحريّة في "الليالي البيض" (2007) وفي صيد الريم (2008). للأمانة تردّدت طويلًا عند كتابة بعض المشاهد، ثمّ قلت في نفسي: سأكتبها مثلما أراها وللمخرج بعد ذلك أن يهذّب نتوءاتها، هكذا بكلّ بساطة، ولا أنكر أنني تفاجأت بعد ذلك بهذه المشاهد في المسلسل دون أدنى "تهذيب".

 للأمانة أيضًا، بعد الثورة قمت بإضافة محور للنّصّ الأصلي في "لأجل عيون كاترين" ذلك الذي يتحدّث عن المعارضة، ولا أعتقد أنّ هذه الإضافة قد غيّرت كثيًرا من أصل النّصّ ولا حادت به عن القضيّة الأم التي يطرحها وهي ظاهرة الهجرة غير النظامية لشبابنا نحو الضفة الشماليّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"أولاد مفيدة" وإشكاليّة "البطل الآثم" في الدراما التونسية

هل تحوّلت الدراما التونسية إلى خطر يهدّد المراهقين؟