29-ديسمبر-2017

من رصيف السحب

لطالما اعتُبر المسرح في الفضاء المغاربي ذا أصول وظلال أوروبية، بدءًا بالمسارح الرّومانية التي انتشرت في تونس والجزائر خاصّة، خلال التواجد الرّوماني في البلاد. ووصولًا إلى الزّمن الحديث، حيث يندر أن نجد مسارحَ من غير تلك التي خلّفتها الفترة الفرنسية، وقد بني معظمها في أماكنَ كانت تشكّل ساحاتٍ لممارسة السكّان المحلّيين لأشكال المسرح الخاصّة بهم، محاولة من المنظومة الفرنسية تعويضَها بنمطها المسرحي.

لطالما اعتُبر المسرح في الفضاء المغاربي ذا أصول وظلال أوروبية، بدءًا بالمسارح الرّومانية، وصولًا إلى الزّمن الحديث

رغم هذا التّقاطع المغاربي الأوروبّي مسرحيًا، إلا أنّ التّبادلات والتّوأمات والشّراكات المسرحية بين الضّفتين بقيت قليلة وغير عاكسة لحجم ذلك التّقاطع التّاريخي. من هنا، بادرت جمعية "نتنفّس فن" بمدينة تالة التّونسية، التي تأسّست في النّصف الثّاني من عام 2016، بإنتاج عرض مسرحي مقتبس عن نص قاسم مطرود "الجرّفات لا تعرف الحزن" وأشرف على التّعبير الجسماني فيه وليد قصوري.

اقرأ/ي أيضًا: "بس انت مش شامم؟".. مسارات التشدد في مصر

حمل العرض عنوان "رصيف السّحب"، وجمع بين فنّانين مغاربيين من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وأوربّيين من فرنسا وإيطاليا ومالطا، مع التّفكير في توسيع المجال للمشهد الفلسطيني، ليس من باب التّعاطف الشّكلي معه، بل للاستفادة من رمزية تمثيله للحوار الإنساني، الذي تحاول إسرائيل إجهاضه بسرقة ذاكرته، "لنقول إن السّحب، وهي تعبر من الضفّة الشّمالية إلى الضّفة الجنوبية أو العكس  لحوض المتوسّط لا تضع في حسبانها الشّكليات المتعلّقة بالعرق واللغة والدّين والسّياسة والاقتصاد، ذلك أنها منتمية إلى جغرافيا الكون لا جغرافيا السّياسة". يقول الكوريغرافي والمخرج وليدي قصوري.

يضيف محدّث "الترا صوت"، الذي التحق بالممارسة المسرحية عام 1998 وتحصّل على شهادات عالمية في التّمرين الجسماني، إنّ العلاقة بين الضّفتين كانت محكومةً بالاحتلال في الماضي، وباتت محكومة بالتخوّف في الحاضر، حيث بات الإرهاب وسيطًا سيّئًا ومشوّشًا على أبعادها الإنسانية. يسأل: هل الفنّانون مطالبون بالتعاطي نفسه الذي لدى السّياسيين؟ إنهم مطالبون بالاشتغال على الجذوع الحضارية والفنية والثقافية والإنسانية المشتركة، وهذا ما حاولنا تكريسه وإعلاء صوته في هذا العرض".

عبر ثنائي هلان الطّبيبة وريكاردو الرسّام، يتفتّق عرض "رصيف السّحب" عن لوحات ذات بعدين بصري وصوفيّ بمفهومه الكوني استثمرت في بلاغة الجملة وبلاغة الجسد، لخلق حالات من التّماهي المتجاوز للأسئلة المترهلة والمتقادمة للذّات والجماعة الإنسانية، بما يفتح المجال للإنسانية بصفتها الهوّية التي يؤمن بها الفنّ لأن تعبّر عن نفسها. يقول وليد قصوري: "علينا أن نضع حدًّا لطموحات الإنسان الرّامية إلى السّيطرة على العالم باسم انتمائه العرقي الضّيق، مثلما يحصل مع منطق دونالد ترامب وشركائه الإسرائيليين، لصالح الإنسان الطامح إلى أن تسود العالمَ قيمُ العدالة والتعايش والحوار".

يتفتّق عرض "رصيف السّحب" عن لوحات ذات بعدين بصري وصوفيّ بمفهومه الكوني استثمرت في بلاغة الجملة وبلاغة الجسد

اقرأ/ي أيضًا: هل ثمة "مسرح احتجاجي" عربي؟

رغم حداثة جمعية "نتنفّس فن" وعرض "رصيف السّحب"، إلا أنّهما استطاعا أن يفتكّا جملة من الجوائز في مهرجانات وازنة، نذكر منها "جائزة العمل المتكامل" في مدينة باجة، و"الجائزة المغاربية الكبرى" في مهرجان محمد عبد العزيز بولاية منّوبة، و"جائزة فلسطين للبحث المسرحي"، و"جائزة الرّكح الذّهبي" ضمن مهرجان إبداعات المسرح الاحترافي بالمغرب. وهو ما يُؤكد رؤية أعضاء الجمعية: "لم نأتِ لننافس غيرنا، بل لنمارس حقّنا في أن نتنفّس فنًّا في عالم بات يتنفّس حروبًا".

اقرأ/ي أيضًا:

"مسرح القوس" في الجزائر.. الأسرة البديلة

دحو فرّوج: لنحرّرْ مسرح الطفل من سذاجتنا