13-أكتوبر-2022
جرجيس

مجيد عمر، عن جمعية البحار للتنمية بجرجيس لـ"الترا تونس": نرفض أن يتم إدانة الشباب وتحميلهم مسؤولية مخاطرتهم بركوب قوارب الموت (صورة توضيحية/Getty)

 

"لم أنجح في فهمه، لم أقدر،  لا أدري إن كانت مشكلة هذا الجيل أم هي مشكلتي أنني من جيل آخر لا يفهم طرق التواصل.."، بصوت غارق في الأسى والحزن، يتحدث سليم زريدات، والد الطفل "وليد" البالغ من العمر 15سنة، وهو أحد ضحايا مركب الهجرة غير النظامية الذي خرج من جرجيس وغرق ركابه وعددهم 18.

سليم زريدات، والد أحد ضحايا مركب الهجرة غير النظامية من جرجيس: "كنت أعلم أنه يريد الهجرة لكني لم أشجعه، قبل يوم من مغادرته جاءني يطلب أن أسامحه وأن لا أقف ضد إرادته"

"سأقول الحقيقة.. كنت أعلم أنه يريد الهجرة لكني لم أشجعه وقبل يوم من مغادرته جاءني يطلب أن أسامحه وأن لا أقف ضد إرادته"، يضيف الأب المكلوم. ووليد، تلميذ بالسنة التاسعة من التعليم الأساسي، متميز في دراسته بشهادة أساتذته بل إن إحداهن رثته بألم وحرقة على مواقع التواصل الاجتماعي. باع دراجته النارية وخطط للهجرة رفقة أربعة تلاميذ من أبناء مدرسته الإعدادية الذين هلكوا على متن ذات القارب.

"إن كانت الدولة التونسية تتحمل 50 في المائة من هذه المصيبة التي حلت بجرجيس فإن 50 في المائة الأخرى يتحملها الأهل"، يقول سليم زريدات لـ"الترا تونس"، "وتتحملها المؤسسات التربوية بغياب برامج الإحاطة بالتلميذ وتكوينه السليم ويتحملها الإعلام الذي روّج لليأس والإحباط وعمل على جعل الفاشلين نجومًا ويتحملها العاملون بالخارج الذين يعودون إلى أرض الوطن بسيارات فارهة ويشيدون البيوت..الخ ويتشدقون بأنهم لم يدرسوا ولم يحصلوا على شهائد لكن الهجرة حققت أحلامهم"، يتابع محدثنا.

والد أحد ضحايا مركب الهجرة غير النظامية من جرجيس:  هل تعلمون أن مراكب الحرقة لا  تزال تخرج من جرجيس كل ليلة ولا يزالون يصرون على ركوب الخطر فلم تمنعهم دموعنا ومواكب العزاء في أغلب البيوت

ويواصل حديثه لـ"الترا تونس":  "هذا الجيل لا نفهمه، إنهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 13 و15سنة يجتمعون، يخططون ويقررون، لا يخافون ولا يسمعون أحدًا غير عقولهم التي لم أنجح في فهمها، هل تعلمون أن مراكب الحرقة لا  تزال تخرج من جرجيس في اتجاه أوروبا كل ليلة حتى أثناء وبعد الفاجعة ولا يزالون يصرون على ركوب الخطر فلم تمنعهم دموعنا ومواكب العزاء في أغلب البيوت".

"لم تمنعهم المقابر التي نطلب حفرها والجثث التي دفنتها السلطات في مقبرة الغرباء من دون أن تعود إلينا ونحن ملتاعون بحثًا عن بقايا فلذات أكبادنا، لم يمنعهم تجوالنا بين غرف الموتى في قابس وجربة نقلب الجثث بحثًا عن أي دليل نعثر به على أولادنا"، ينهار الأب باكيًا وهو الذي فارق النوم جفونه وبات يرى الكوابيس وهو يقظ ويشعر أنه على حافة الانهيار من فرط ما شاهده وتحسسه من جثث.

الأب الذي بات هدفه العثور على جثة ابنه ودفنها بين أهله وهذا ما سيطفئ نار الأم الثكلى، وفقه، هو الأب الذي ختم حديثه مع "الترا تونس" قائلاً "حينما دخلت مقبرة الغرباء بجرجيس أبحث بين الجثث رفعت رأسي فرأيت ملعب جرجيس المجاور تساءلت أ لم يكن من الأجدر أن أكون أنا ووليد في ذلك الملعب نشجع فريقنا المفضل ونضحك؟ حتى هذا الحلم البسيط جدًا لا نستطيع تحقيقه في جرجيس".

 

 

حرقة وألم في قلوب وعلى وجوه وفي كلمات كل أهالي جرجيس وكلهم هرعوا يبحثون عن "مركب 18" ومنهم الناشط في المجتمع المدني والبحّار والباحث في العلوم السياسية والاجتماعية علي كنيس.

علي كنيس ناشط في المجتمع المدني لـ"الترا تونس": "الدولة ارتكبت جريمة سياسية تجاه جرجيس وكذلك المسؤولين المحليين والمستشفى ووكيل الجمهورية"

"بعد فاجعة غرق المركب، أصبحنا نعاني مصيبة أخرى فقد تم العثور ما بين  26سبتمبر/أيلول الماضي و2 أكتوبر/ تشريين الأول الجاري، على جثث لكن السلطات المعنية قامت بدفنها في مقبرة الغرباء في وقت تعلم فيه أن هناك قاربًا مفقودًا في جرجيس وكل الجهة تبحث عنه، وكان من المفروض أن تتصل بالعائلات وتطلب منهم التعرف عليها لكنها بشكل غير قانوني قامت بالمصادرة ودفنها في مقبرة الغرباء واضطررنا لفتح القبور وتعرف الأهالي  على 3جثث لأبنائهم عن طريق ملابسهم وملامحهم في انتظار استكمال التحليل الجيني"، يقول علي كنيس لـ"الترا تونس".

ويضيف "كما تم العثور على جثث قبل 5 أكتوبر، تاريخ العثور على ملاك الوريمي في جربة وتم نقلها إلى مستشفى قابس ومنها جثة أم رضيعة مفقودة ولم يتم إعلام الأهالي وهو ما نعتبره جريمة تم ارتكابها في حق الأهالي المكلومين  فلولا ذلك السوار الفضي الذي تلبسه ملاك الوريمي ومكتوب عليه اسمها لتم دفنها في صمت ودون تثبت ونبقى عشرات السنين نبحث عن أبنائنا وهم تحت التراب".

ويؤكد محدثنا "أن 30 مركبًا يضم بحّارة جرجيس وبتنسيق ومجهود من جمعية البحار التنموية مشطوا الشريط الساحلي كله وبحثوه برًا وبحرًا"، مبينًا أن الوحدات الأمنية قدمت الثلاثاء 11 أكتوبر/تشريين الأول 2022 لنقل الجثث دون معدات وهو ما اضطر البحارة لنقل الجثث بأيدهم وعبر شباكهم، وفقه.

علي كنيس ناشط في المجتمع المدني لـ"الترا تونس": "كيف لجهة قدرها لفظ الجثث منذ 2008 ولا يوجد بمدنين مخبر للتحاليل الجينية بل إن العينات تؤخذ إلى قابس ومنها إلى تونس العاصمة؟"

ويعتبر الناشط في المجتمع المدني أن "الدولة ارتكبت جريمة سياسية تجاه جرجيس وكذلك المسؤولين المحليين والمستشفى ووكيل الجمهورية"، متسائلًا "كيف لجهة قدرها التاريخي لفظ الجثث منذ 2008 ولا يوجد بمدنين مخبر للتحاليل الجينية بل إن العينات تؤخذ إلى قابس ومنها إلى تونس العاصمة؟".

 

 

من جانبه، أكد مجيد عمر، عن جمعية البحار للتنمية بجرجيس لـ"الترا تونس" أن "ما قامت به الجمعية من بحث عن المفقودين هو واجبها"، ويرفض أن يتم إدانة الشباب وتحميلهم مسؤولية مخاطرتهم بركوب قوارب الموت، مشيرًا إلى أن هؤلاء ما كانوا ليقدموا على الخطوة لولا غياب الأمل وأن ما فعلوه هو هروب من جرجيس السجن، وفق تعببيره، "وعلى المسؤولين والمحللين والمعلقين والمختصين أن يدققوا النظر في جهة تنتظر منذ سنوات إنجاز مشاريع  لم تتحقق وبقيت حبرًا على ورق".

مجيد عمر، عن جمعية البحار للتنمية بجرجيس لـ"الترا تونس": ليعلم الجميع أن أهالي جرجيس لم يركبوا قوارب الموت إلا بعد أن تقدموا مرارًا وتكرارًا بمطالب للحصول على تأشيرات لكنهم يقابلون بالرفض

ويقول "جرجيس تحتل المرتبة 2 في عدد المقيمين بالخارج ورغم ذلك لا يوفرون خطًا بحريًا قارًا رغم المطالب والمناشدات،، جرجيس بلا أنشطة ثقافية ورياضية وأماكن ترفيهية.. وليعلم الجميع أن أهالي جرجيس لم يركبوا قوارب الموت إلا بعد أن تقدموا مرارًا وتكرارًا بمطالب للحصول على تأشيرات لكن يقابلون بالمعاملة السيئة ويأخذون رسومًا ويقدمون لهم الرفض".

ويضيف "في ذات الوقت تفتح تونس أبوابها للسياح ليقتنوا المواد المدعمة ولينعموا بالماء والمسابح ويقطع الماء على المتساكنين.. ويأكلون الخبز والأسماك والغلال في حين يعجز التونسي عن العثور أحياناً على الخبز وتفقد الأسماك وتلتهب أسعارها ويأكلها السائح في النزل بأبخس الأسعار".

 

 

في المقابل، يؤكد المدير الجهوي للحماية المدنية العميد عاطف حويج، الناطق الرسمي باسم خلية الأزمة التي تشكلت صلب اللجنة الجهوية لمجابهة الكوارث وتنظيم النجدة على إثر فاجعة غرق مركب الهجرة غير النظامية بجرجيس أن "الغرقى هم أهالي الجميع وأن السلطات المحلية تابعت الموضوع منذ بدايته"، وفق روايته.

المدير الجهوي للحماية المدنية العميد عاطف حويج لـ"الترا تونس":  تم أخذ عينات 11 جثة من بينها 7 جثث بقابس و4 جثث تم استخراجها من مقبرة الغرباء وننتظر نتائج التحليل الجيني

مبينًا  لـ"الترا تونس" أن "شائعات كثيرة تعلقت بهذه الحادثة فقد كان عدد من الأهالي يؤكدون أن القارب لم يغادر جرجيس ثم بعد ذلك قالوا إن المركب في ليبيا"، مؤكدًا أن السلطات تعاملت مع كل هذه المعطيات بحذر وجدية للوصول إلى الحقيقة ولم تستثن أي احتمال بل وضعت كل الاحتمالات في الحسبان، وفقه، "وبعد العثور على جثة ملاك لوريمي تم البحث وتمشيط البحر"، مثنيًا على مجهودات الأهالي والبحارة الذين قاموا بمجهودات جبارة للعثور على الجثث.

وأوضح العميد أنه تم "أخذ عينات مجموع 11 جثة وتوجيهها من بينها 7 جثث بقابس و4 جثث تم استخراجها من المقبرة بجرجيس، مؤكدًا أن كل جثة تتطابق في تحليلها مع الحامض النووي للعائلة ستتسلمها، لافتًا إلى أن من بين الجثث هيكلين عظميين أحدهما كبير تم أخذ عينة منه للتحليل الجيني والهيكل الصغير ثبت حسب الطب الشرعي أنه لحيوان بحري.