04-فبراير-2016

العمق الاجتماعي المطلبي للثورة التونسيّة كان المحرّك الرئيسي لفئة واسعة من المنتفضين ولا يزال (ياسين القايدي/الأناضول)

طيلة السنوات الأخيرة من حكم بن علي كانت هناك، بين الحين والآخر، تحرّكات معزولة بمطالب وشعارات اجتماعيّة لم تجلب الانتباه كثيرًا بحكم غرق معارضي النظام حينها في المسألة الحقوقيّة والمسائل السياسيّة حتّى كشفت ثورة الحريّة والكرامة عن صورة أخرى لتونس، بعيدًا عن مضمون البطاقات البريديّة التي تباع وتشترى في المناطق السياحيّة للتشجيع على السياحة فقط لا غير. وثبت العالم تدريجيًا بما لا يدع مجالًا للشك، وحتّى لبعض الفئات التونسيّة، حقيقة وجود تونسيين خارج حسابات الدولة ودون اهتماماتها مطلقًا.

العمق الاجتماعي المطلبي للثورة التونسية كان محرك فئة من المنتفضين بين 17 ديسمبر 2010 و14 يناير 2011 ولا يزال يحرك الشارع إلى اليوم

العمق الاجتماعي المطلبي للثورة التونسيّة كان المحرّك الرئيسي لفئة واسعة من المنتفضين بين 17كانون الأول/ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/يناير 2011 عندما غابت القيادة السياسيّة للتحرّكات واستدعت مهمّة التحشيد والتعبئة مخاطبة الناس بصفتهم ضحايا الإقصاء الاجتماعي المرتبط بالفساد والاستبداد السياسي وجوبًا. ولم تعرف تونس في الخمس سنوات التي تلت هروب المخلوع توقفًا للحركة الاحتجاجيّة الاجتماعيّة مطلقًا فيما يشبه "الانتفاضات الصغرى" القطاعيّة والطبقيّة والجهويّة، التي لم تجد حظّها للوصول إلى الإعلام إلاّ نادرًا عندما تتقاطع مع غايات وخلفيات سياسيّة واضحة ولم تلق كذلك حلولًا ولا إجراءات من الحكومات المتعاقبة لأسباب عدّة تتراوح بين السياسي والتشريعي والاقتصادي والأمني وغيرها.

طيلة خمس سنوات ظلّ الصراع بين النخب السياسيّة في تونس يتمحور أساسًا حول السلطة نظرًا لطبيعة تصوّر النخب السياسيّة القديمة والجديدة لوجودها السياسي، حيث ينطلقون جميعًا من قاعدة التواجد في الدولة أو الاستحواذ عليها كوسيلة وأداة للبقاء والانتصاب السياسي، في مشهد يعلم كلّ المتابعين له أنّه سيظلّ مفتوحًا على متغيّرات عديدة. فخمس سنوات في تاريخ الثورات لا شيء مطلقًا، وهذا الصراع حول السلطة همّش بعلم أو بغير علم المنخرطين فيه قضايا جوهريّة وهامشيّة من بينها أساسًا المشاكل الاجتماعيّة والاقتصادية للتونسيين نتيجة سنوات من الحيف الاجتماعي والفساد السياسي، ناهيك عن غياب تعبيرة سياسيّة اجتماعيّة.

في بلد لا يتجاوز عدد سكّانه حاجز الاثني عشر مليون نسمة، يستحوذ 20% فقط منهم على 80% من الثروات بمختلف أنواعها، لا يمكن أن تكون محاربة الفساد إلاّ أداة للتخفيف من حدّة التوتّر الاجتماعي، وهذا موضوع بقي على مستوى الشعارات فقط ولم يفعّل على الأرض فتحالف البوليس واللصوص زمن المخلوع أنتج نظامًا كليبتوقراطيًا استحوذ على الدولة والمال وأرسى منوالًا تنمويّا خاطئًا لا يساهم سوى في الإقصاء الاجتماعي، الذي يخلّف غياب الثقة في الدولة من جهة ويساهم بحكم التهميش وغياب الدولة على الأرض وفي أذهان الناس في أكثر من جهة من جهات البلاد في نشأة حركة تمرّد لا تستهدف الواجهة السياسيّة فحسب بل الدولة برمّتها.

"الكليبتوقراط" في تونس عبارة عن "مربّعات النفوذ" التي كانت أساسًا ماليّة، أمنيّة، جهويّة وسياسيّة بحكم انخراطها بأشكال مختلفة في صناعة الرأي العام وتوجيهه نحو خيارات معيّنة أو حتّى تهميش قضايا مهمّة ومركزيّة فقط للحفاظ على مصالح معيّنة فئويّة تصبّ في مصلحة نفس العصابات والمافيات الفاسدة التي تمعّشت من النظام السابق وتواصل بحكم استحواذها على ذات مربعات النفوذ تمعّشها من البلاد برمّتها.

همش الصراع حول السلطة في تونس قضايا جوهريّة وهامشيّة من بينها أساسًا المشاكل الاجتماعيّة والاقتصادية

في كلّ الديمقراطيات تكون إدارة الاختلاف بالحوار، على اعتبار أنه الوسيلة الأكثر تحضرًا، شرطًا أساسيّا للديمقراطيّة والحفاظ على الحريات وهذا ما حدث في تونس بعد نجاح الحوار الوطني في تقريب وجهات النظر وفرض التشارك في الحكم والتسيير برغم حدّة التوتّر الإيديولوجي وهو السبب الرئيسي في نيل رباعي الحوار الوطني لجائزة نوبل للسلام لسنة 2015، بعد أن كان مصير المرحلة التأسيسيّة في تونس مغايرًا تمامًا لمصير تجارب مماثلة على غرار مصر واليمن وسوريا وليبيا.

لكن النظر من الخارج إلى التوافق وإدارة الاختلاف بالحوار في تونس لا يعكس حقيقة الوضع المتوتّر في الداخل، فالتوافق الذي أنتج نوعًا من التعاقدات السياسيّة بين فرقاء من مختلف المشارب لا يساوي شيئًا في ظلّ غياب تعاقدات أخرى على غاية من الأهميّة أوّلها إدارة الملف الاجتماعي والاقتصادي المتفجّر فالناس قد تدرّبوا على الاشتباك المواطني الأفقي لنيل حقوقهم وميّالون لذواتهم بحثًا عن شروط الوجود الاجتماعيّة والاقتصادية والأمنيّة أكثر من السياسيّة خاصّة وأنّ جغرافيات الخوف قد انتقلت بفعل هامش الحريات الكبير من نفوس المحكومين إلى نفوس الحكّام.

ضمن هذا السياق، فإنّ التوافق الهش بين النخب السياسيّة في ظلّ تهميش القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة يصبح هو نفسه مستهدفًا باعتباره جزءًا من عوالم المثل الديمقراطيّة في حين يطلب الناس منجزات ضرورية اجتماعيّة واقتصاديّة تجعلهم جزءًا من المجتمع لا مجرّد أرقام على الهامش. يفترض بالنظام السياسي، الذي لم يعد هو الدولة والزعيم منذ هروب المخلوع، أن ينطلق في تثوير السياسات وأنسنتها، أيّ جعل الإنسان/المواطن جوهرًا للبرامج والسياسات التي تكون بالضرورة عاكسة لتطلّعاته وموفّرة لرغباته غير أنّ الوضع بقي على ما هو عليه بل لعلّه زاد سوءًا بحكم حجم التركة وعدم الانخراط في هموم التونسيين الحقيقيّة بالقدر الكافي.

يفترض بالنظام السياسي في تونس أن ينطلق في تثوير السياسات وأنسنتها، أي جعل الإنسان جوهرًا للبرامج والسياسات التي تكون بالضرورة عاكسة لتطلعاته

القصرين، سيدي بوزيد ومدنين وغيرها من المناطق الداخليّة المهمّشة لا تزال، رغم التنصيص في الدستور التونسي الجديد على التمييز الإيجابي لصالح الجهات والفئات المهمّشة، تنتظر نصيبها من التنمية والاستثمارات والتشغيل في ظلّ توجّه كلّي لتوفير التعويض والإعانات للمستثمرين في مناطق أخرى مرفهة من البلاد وفي ظلّ الزيادات المتتالية للموظفين إلى جانب الحديث عن مصالحة ماليّة يتمّ بموجبها العفو عن رجال أعمال سرقوا أموال الشعب.

استمرار الإقصاء الاجتماعي لمناطق وفئات واسعة من البلاد ساهم في انفجار حركة احتجاجيّة اجتماعيّة في الأسابيع الأخيرة بعد أن تتالت الكوارث التي يخلّفها هذا الإقصاء من موت نساء على سرير الولادة بسبب غياب طبيب في محافظة تطاوين إلى انتحار الشاب رضا اليحياوي بسبب المحسوبيّة في القصرين وكادت الحركة أن تكون انفجارًا اجتماعيًا لولا أنّ السلطة والمعارضة معًا قد نجحا في احتوائها معترفين بمشروعيّة المطالب ولكنّ الأهمّ أن الموضوع الاجتماعي قد عاد إلى قلب العملية السياسيّة في المشهد عمومًا في انتظار حلول عاجلة.

نجحت مكوّنات السلطة والمعارضة معًا في احتواء الحركة الاحتجاجية الاجتماعية في تونس رغم سعي البعض إلى توظيفها لغايات سياسيّة لكنّ الحلول الترقيعيّة المقترحة لتجاوز أزمة البطالة وغياب التنمية والعدالة الاجتماعيّة قد تكون محرّكات انفجار اجتماعي قادم لا محالة وسيكون هذه المرّة جارفًا.