03-يوليو-2019

حينما يلتبس المهني بالإنساني في مواكبة انفجار إرهابي (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

صوت عقارب الساعة توقف حينما دوى انفجار أحدث مداه رجة في أرضية منزلنا والجدران، وكأن جبلاً هوى، هكذا وصفت جدّتي الدوي. كان صوت الانفجار مربكًا جدًا، ومدرًا لسيل من الاحتمالات، هل هو انفجار قارورة غاز بالجوار أم انهيار بناية قديمة، أم انفجار قنبلة أو عبوة ناسفة؟

سيناريوهات كثيرة جالت بخواطرنا، وتبادلناها علنًا، قبل أن تنتشلنا مكالمة إحدى قريباتنا من حالة الحيرة، "إرهابي فجّر نفسه بالقرب من منزلنا" تجاوز صوتها المشوب بالنعاس والجزع هيكل الهاتف ليبلغنا جميعنا.

قريبتنا هذه، تقطن في حي الانطلاقة التابع لمحافظة أريانة على مقربة من محطة المترو الخفيف، ومكالمتها لم تكن إلا شعرة من طرف الخيط، ربما لم يكن من السهل علينا جميعًا تقبل حصول تفجير انتحاري بالقرب من حينا ولكن لم نشك كثيرًا في روايتها.

اتصال وتأكيد من وزارة الداخلية

ليست المرة الأولى التي يلتبس فيها لدي المهني بالإنساني، تنكمش عضلة قلبي وتتمطط وتتسارع دقات قلبي، إنه التفجير الإرهابي الثالث في أقل من أسبوع.

بضع دقائق مرت وكأنها سنون، وأنا أحاول أن أتجاوز حالة الذهول، ولأكسر حاجز الحيرة اتصلتُ بالناطق الرسمي لوزارة الداخلية سفيان الزعق علي أستقي خبرًا يقينًا.

ليست المرة الأولى التي يلتبس فيها لدي المهني بالإنساني، تتسارع دقات قلبي، إنه التفجير الإرهابي الثالث في أقل من أسبوع

اقرأ/ي أيضًا: في شارع بورقيبة.. تحدي الإرهاب بالرقص

كانت شارة المخاطب المشغول تستفزني في أكثر من مرة، قبل أن يبلغني صوت المصدر الرسمي ليؤكّد لي أنه تم القضاء على الإرهابي أيمن السميري المفتش عنه من قبل وزارة الداخلية على مستوى حي الانطلاقة.

وعن دوي الانفجار، أوضح الزعق أن الإرهابي فجر نفسه بحزام ناسف، بعد أن قنط من الهروب إثر محاصرته من قبل عناصر أمنية تابعة للوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب. وبعد المكالمة الهاتفية، صارت صورة التفجير واضحة بل كانت وردية اللون ذلك أنه لم تُسجل أية إصابات في صفوف الأمنيين ولا المواطنين.

الانتقال إلى موقع العملية

عقارب ساعتنا عادت إلى الدوران، والساعة تشير إلى الحادية عشر والربع بتوقيت الحماسة، ويبدو أن كلمات الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية لن تسكت النهم الصحفي داخلي. وفي ثوان معدودات، تهيأتُ للالتحاق بساحة التفجير، وزادي حذاء رياضي أبيض اللون ككفن سيلفظ أشلاء الإرهابي لو لامسته، وسترة النقابة الوطنية للصحفيين وبطاقة صحفي محترف وهاتفي.

لا أمل في سيارة "تاكسي" تقلني إلى مكان التفجير، ولا حل غير الاستئناس بطريق مختصر يمر عبر الأزقة والأنهج، ويستغرق السير فيه هرولة عشر دقائق لبلوغ المكان المنشود.

كانت الأنهج خالية إلا من بعض المتساكنين الجالسين أمام منازلهم يناقشون بأصوات مرتفعة تفاصيل الحادثة، ويتجادلون بخصوص هوية المفجر، إذ تقول فئة إنه إرهابي وتقول فئة أخرى إنها إرهابية وتقول ثالثة إنه إرهابي متنكر في زي إمرأة.

أشرطة صفراء وسوداء تحاوط مكان التفجير من الاتجاهات الأربعة (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

وعلى امتداد الطريق المؤدّية الى حي الانطلاقة، كان الحديث نفسه مع اختلاف الشخوص، وما إن تطالعك بلدية حي الرفاهية غير البعيدة عن وجهتي، حتى يلتبس عليك الأمر، هنا المقاهي والمطاعم مفتوحة ومحلات بيع "الفريب" أيضًا، نساء ورجال، شيب وكهول وشباب وأطفال، سمفونية من الأعمار والهيئات تزين الشارع بحركية تتحدى الفعل الإرهابي الجبان.

أسير صوب ساحة الحادثة، محاطة بأفواج يؤمون نفس المكان غير عابئين بصوت سيارات الشرطة والإسعاف والحماية المدنية. الجميع يمشي، بسلام، لا مكان للخوف والرهبة هنا، وكأن لسان حال الجميع يقول "إرهابكم لا يرهبنا.. صامدون لا نهاب الموت لا نخشى المحن".

وحال وصولنا كانت أشرطة صفراء وسوداء وأخرى حمراء وبيضاء تحاوط مكان التفجير من الاتجاهات الأربعة، وقد تزامن وصولنا مع وصول سيارة الإسعاف وسيارة الحماية المدنية، وصفارة إنذار السيارتين لم تحجبا صوت المواطنين الذين حاصروا ساحة الجريمة من كل صوب وتواترت تعليقاتهم متزامنة حتى لا يمكنك التمييز بينها.

جمهور في كل مكان

هنا في حي الانطلاقة من مفترق الطريق المؤدي الى حي التضامن وحتى محطة الميترو الخفيف الانطلاقة، يبدو الوضع سورياليًا جدًا، وإن لم تكن على علم بمجريات الأحداث ستعتقد أن هذه الجماهير الغفيرة تشاهد مبارة كرة قدم أو عرضًا مسرحيًا أو موسيقيًا أو فيلمًا سينمائيًا أو سباق دراجات نارية.

إن لم تكن على علم بمجريات الأحداث ستعتقد أن هذه الجماهير الغفيرة تشاهد مباراة كرة قدم أو عرضًا مسرحيًا أو موسيقيًا أو فيلمًا سينمائيًا أو سباق دراجات نارية

"بربي خليني نشوف كيفاش تفتفت"، "بربك هلا سمحت لي بمشاهدة أشلائه" هكذا ترجت متفرجة عون الأمن ليسمح لها بالاقتراب من ساحة الجريمة.

وأنت تحاول أن تمر بسلام بين الحواجز التي وضعتها الوحدات الأمنية لتسهيل عمل الشرطة الفنية خاصة وأن أشلاء الإرهابي تناثرت على مساحات بعيدة، تقع أذنيك على سيل من التعليقات من قبيل "كنت في الضفة الأخرى قرب سكة المترو ورأيت ساق الإرهابي والتقت لها صورة" ولا يتوانى عن عرض الصورة عليك.

جماهير غفيرة تابعت الانفجار الإرهابي (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

وقد يصرخ أحدهم في أذنيك حتى يكاد يثقبها، هل رأيت أمعاء الإرهابي هل أريك صورة، ويقسم آخر أنه رأى قلبه وكبده ويبدي آخرون شماتة بموته، ويتشاجر آخرون مع أعوان الأمن لأنهم منعوهم من الاقتراب أكثر من مسرح الحادثة.

وفيما فريق الشرطة الفنية يجول بين حدي مسرح الجريمة طولًا وعرضًا، يجمعون الأشلاء المتناثرة وكأنها حبات أرز، يحاول مجموعة من الشباب تجاوز الحواجز الحديدية، ويبدو التوتر على أعوان الأمن، الذين كانوا يضبطون أنفسهم حينًا ويطلقون لها العنان أحيانًا أخرى أمام دوس المتفرجين على ساحة الجريمة دون وعي بأن ذلك من شأنه أن يعيق عمل الشرطة الفنية.

"متى بلغكم خبر التفجير، كيف حضرتم على عين المكان، هل لديكم إذنًا بمأمورية، ماذا ستفعلون"، يأتي عون آخر ليلقي علي سيلًا من الأسئلة وأكتفي بالإجابة "تقومون بواجبكم ونقوم بواجبنا"

اقرأ/ي أيضًا: مانيفاستو حساء الخضار: الإرهاب لا يضحك!

وفي الأثناء تطرب أذنك ببعض الكلمات البذيئة، وتعقبها دعوتك لمغادرة المكان، لأن "ساحة الجريمة" ملك خاص الأمنيين في هذه المرحلة من الإجراءات الأمنية ثم يأتي دور الصحفي، هكذا لقنني أحد الأعوان المرابطين قبل أن يتدخل زميله ويطلب منه السماح لي بالبقاء حيث أنا غير بعيدة عن تحركات الشرطة الفنية أرقبهم دون أن أعيق عملهم.

"متى بلغكم خبر التفجير، كيف حضرتم على عين المكان، هل لديكم إذن بمأمورية، ماذا ستفعلون"، يأتي عون آخر ليلقي علي سيلًا من الأسئلة وأكتفي بالإجابة "تقومون بواجبكم ونقوم بواجبنا".

مكان نابض بالحياة رغم رائحة الموت 

ووسط الضجيج والضوضاء، لا أعلم من اين أتيتُ بالرصانة كلها ولا أعلم كيف تجاوزت بعض التلميحات المستفزة، كان كل همي في تلك اللحظات أن لا تقع قدمي على قطعة من جسد الإرهابي الذي يؤكد أعوان الأمن المتمترسين في كل منافذ حي الانطلاقة أنه لم يكن يرتدي ملابس نسائية.

 تعزيزات أمنية مكثفة وهبة شعبية من مواطنين (أ.ف.ب)

قبل أن تخطو كنت أتفحص بعيني مكان الخطوات التالية ولم أكن أعلم أنني سأكون وجهًا لوجه مع قطعة من جذعه كما وصفها أحد الأمنيين. لم أكن يومًا لأتخيل أن عيني ستقعان على قطعة من اللحم مخضبة بالدم ملقاة على الإسفلت، وأشخاص يمدون هواتفهم ليلتقطوا صورها، هذا المنظر وحده كفيل بأن يجعلك تتساءل "دين أبوهم اسمه ايه".

التصق بالحائط وأفرك حذائي على الرصيف لئلا تعلق بضع البقايا بحذائي، وأرقب حركة فريق الشرطة الفنية بملابسه البيضاء المشعة، وهو ينقب الاسفلت تنقيبًا بحثًا عن الأشلاء أو أي دليل يصلح في الأبحاث والتحقيقات.

 غادرنا المكان النابض بالحياة رغم رائحة الموت التي كنستها أنفاس المواطنين الذين قدموا من كل الأحياء القريبة من حي الانطلاقة

حواجز حديدية وأشرطة محيطة بمكان الحادثة لم تكن عائقًا أمام مواطنين هبوا ساعة سماع الدوي وتصاعد السنة دخان في المكان، وفق روايات متطابقة لشهود عيان.

هنا في حي الانطلاقة، تعزيزات أمنية مكثفة وهبة شعبية من مواطنين مرابطين بالحواجز الحديدية غير عابئين بالسيناريوهات المحتملة، وفي الأمر رسائل إيجابية وان كان من الممكن أن تكون له تبعات سلبية، هنا خطت الوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب نجاحًا ستحفظه كل زاوية من حي الانطلاقة، هنا انتصرت إرادة الحياة على شبح الموت.

وعلى وقع قهقهات المواطنين المتندرين بانفجار الارهابي، الذي أيقن أنه لا مجال الهروب من القوات الأمنية، غادرنا المكان النابض بالحياة رغم رائحة الموت التي كنستها أنفاس المواطنين الذين قدموا من كل الأحياء القريبة من حي الانطلاقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"العصا في المؤخّرة".. لا بأس بالتعذيب مادامت التهمة الإرهاب!

كيف بات يفهم التونسيون كلمة "جبل" في السنوات الأخيرة؟