01-نوفمبر-2022
قطط

تربية القطط لم تعد مجرّد ظاهرة كميّة فقط بل باتت عالمًا فريدًا متميّزًا فيه ما فيه من عمق وخطورة وطرافة (Tuul & Bruno Morandi/Getty)

 

يتجاذب تربية الحيوانات عامّة مقصدٌ نفعي وظيفي وأفقٌ جمالي ذوقي، وتتفاوت درجات الميل إلى هذه الكفة أو تلك حسب معطيات متعددة ذاتية وموضوعية ومادية وصحية وحضارية وغيرها من الأوضاع والضوابط والمرجعيات التي تُحدد اختياراتنا وسلوكاتنا، فكلّما قويت القيمة الوظيفية للحيوانات تراجع الجدل حول جدوى تربيتها والعناية بها، ينطبق هذا على الحيوانات التي تضمن لأصحابها مكاسب مادية أو يقع استعمالها في أغراض أخرى ذات بُعد عمليّ نفعيّ، وهو أمر بيّن لا يحتاج إلى إيضاح وتفصيل.

لكن من الحيوانات التي تحظى في تونس بالعناية والاهتمام الفائق رغم ضعف دورها الوظيفيّ هي بلا شكّ القطط، فقد ثبت من خلال الكثير من الشهادات والمعاينات أنّ هذا الكائن ما انفكّ يقتلع مكانة في قلوب الصبيان والفتيان والفتيات، وانقاد الكهول والكبار إلى هذا التيّار الساحر، وكان السبب العاطفي الجمالي هو المتحكّم في هذه الرغبة، وما عادت الكفاءة في صيد الفئران هي المحدّد لشروط امتلاك القطط و"تبنيها". 

  • سماء فيسبوك تمطر قططًا وكلابًا

تكتسي السلوكات صفة الظاهرة استنادًا إلى معطيات كمية، ورغم افتقارنا إلى أرقام دقيقة حول عدد القطط والكلاب في تونس ورغم عدم معرفتنا بنظام توزعها بين المدن والأرياف وبين الشوارع والبيوت فإنّ لدينا مؤشرات تؤكّد وجاهة الاهتمام بهذا المشغل.

من الحيوانات التي تحظى في تونس بالعناية والاهتمام الفائق رغم ضعف دورها الوظيفيّ هي بلا شكّ القطط، وما عادت الكفاءة في صيد الفئران هي المحدّد لشروط امتلاك القطط و"تبنيها"

الأوّل يتمثّل في الانطباع الذي يحصل للمارّ بين الأزقة وفي الأسواق وحتّى داخل المؤسّسات فلا تكاد تخطو بضع خطوات حتّى تلتقط عينك مشهدًا لقطّ أو لسرب من القطط، وهو انطباع يعزّ إنكاره ويمكن التحقّق منه بالتجربة، إنّه مشهد لافت يعيد إلى الأذهان ذاك المثل الإنجليزي الدال على الكثرة ترجمته الحرفية "إنها تمطر قططًا وكلابًا" It's raining cats and dogs!".

المؤشّر الثاني رقميّ يتمثّل في الكمّ الهائل من رواد فيسبوك المتفاعلين مع صفحات متخصّصة في عرض الدردشات والاستشارات والأخبار المتصلة بالقطط، وقد بلغ عدد المحبين لصفحة "قطط فقط" 305 آلاف، في حين تخطّى عدد المتفاعلين مع صفحة sos animaux tunisie حوالي 440 ألفًا، أكثر من تسعين بالمائة منهم مولعون بالقطط، وهو ما يحاكي أو يكاد كميًّا ونوعيًا مجموعة Animaux 100 toi(t) التي يبلغ عدد المنخرطين فيها حوالي 340 ألفًا، هذا فضلًا عن عشرات الصفحات الأخرى.

صورةصورةصورة

 

كثرة الصفحات على منصات التواصل الاجتماعي وحجم الحوارات والدرجات وتواترها وتنوّع مضامينها كشف لنا أنّ تربية القطط لم تعد مجرّد ظاهرة كميّة فقط بل باتت عالمًا فريدًا متميّزًا فيه ما فيه من عمق وخطورة وطرافة يمكن استجلاؤها من خلال العرض التالي.

  • أين سيفك يا جلّاد؟

اقترنت هويّة القطّ بصيد الفئران، فقد ظلّت هذه الصورة النمطيّة عالقة في الأذهان بفضل التجارب الحياتية من جهة، وبسبب ما حفظته لنا بعض المدونات الفنية والأدبية من حكم وأمثال وأفلام وسلسلات كرتونية من جهة أخرى.

العينات التي يعرضها أصحابها على مواقع التواصل الاجتماعي تكشف أنّ القطط تتجه شيئًا فشيئًا نحو فقدان شراستها، فهي تحظى في البيوت بألوان من الرفاهية تجعلها في غير حاجة إلى الصيد والتوثب الدائم واليقظة والبحث والمطاردة، فالمأكل والمشرب يأتيانها بين يديها وتحت قدميها، تأكل هنيئًا وتشرب مريئًا بغير معاناة ولا تقطيع أو تمزيق أو نشب أظافر، ففي بعض المواقع المذكورة يتباهي أصحاب القطط باجتهادهم في تخيّر ما يرونه ألذّ طعمًا وأيسر هضمًا وأشهى نكهة وأجمل صورة، فلا عجب أن تجد في بعض الجهات والأحياء عددًا من محلات بيع أطعمة القطط ولوازمها أكثر من عدد المحلات التجارية الصغرى، ولنا في مدخل المروج السادس بولاية بن عروس مثال، قدومًا من الجهة الشمالية وفي مسافة لا تزيد عن بضعة أمتار نجد محلين خاصّين بمستحقات الكلاب والقطط فضلًا عن رواق مخصّص في أحد  المحلات التجارية الكبرى متمحّض جزء منه لنفس البضاعة.

القطط تتجه شيئًا فشيئًا نحو فقدان شراستها، فهي تحظى في البيوت بألوان من الرفاهية تجعلها في غير حاجة إلى الصيد والتوثب الدائم واليقظة والبحث والمطاردة

يعرض بعض المولعين بالقطط صورًا  لقططهم المدللة وهي تنظر إلى الفئران نظرة سلبية فيها علامات الاستكشاف والتردد والخوف أحيانًا، فيعبر المتابعون عن دهشتهم للأمر وقلّما تجد من يبدي قلقه لفقدان القط بعضًا من طبيعته بسبب العادات السلوكية التي فرضها عليه عشاق هذا الحيوان الأليف بدافع الحبّ والرأفة، فالحرمان كما يقال يربي الصلابة والشراسة والبأسَ أمّا فرطُ الرفاهية فقد يورث الليونة والعجز والميوعة، ينطبق هذا على الإنسان كما ينطبق على الحيوان حتى كدنا نخاطب القطّ وهو يداعب الفأر في غير إيذاء "أين سيفك يا جلّاد؟".

صورة

 

يتأكّد هذا التفنن في تمتيع القطط وتيسير حياتها واللطف في التعامل معها من خلال تخير المعجم الأقرب إلى المجال العاطفي والإنساني، فما عدنا نتحدث عن امتلاك الحيوان وتربيته (élevage des chats) بل أصبحنا نقرأ ونسمع مفردات من قبيل التبني، ولدي، بنتي، روحي، كبدي، وغيرها من المفردات.

ولمّا بات القطّ في مقام الابن عند الكثيرين عاينّا من يوفر له ما يستحقه الآدميون من استحمام ولباس وأكسسوارات، فضلًا عن الإسراع بالاستئناس بالأطباء وأهل التجارب عند التفطّن إلى بوادر مرض، بل ثمة من يقلّم للقط أظافره بانتظام وهو سلوك غالبًا ما يثير سجالًا بين مربي القطط إذ يفقد الحيوان حسب فئة من المتخلين سلاحه اليدويّ فيصاب بلون آخر من العجز بعد أن أحال أنيابه وأسنانه منذ الأسابيع الأولى إلى العطالة، فلم تكن له حاجة إليها في ظلّ ما ينعم به من مأكل طازج ورطب حالما يدرك الفم يذوب فيه فيمضي إلى المعدة في غير عناء. وهو ما يذكّرنا بصورة شعرية للمتنبي تطلب فيه النسور من الله على سبيل المبالغة أن يعفيها من الأنياب لأنّ الممدوح /سيف الدولة قد كفاها عناء الافتراس لمّا دأب على إكرامها بأجساد طريّة من جثث جنود الرومان الذين يسقطون قتلى في بعض حروب القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد).

ما يفعله عشاق القطط بهذا الحيوان الأليف يرونه آية لطف وكرم ويراه غيرهم من المختصين جريمة تصيب الحيوان في مناعته وقوته وطبيعته، وهو ما يجعله أضعف ما يكون إزاء بعض المحن التي دأبت قطط الشوارع على مواجهتها كما يتّضح في الفقرة التالية.

  • هواجس القتل والجوع والسرقة والضياع

تحظى قطط الشقق والفضاءات المغلقة بعناية فائقة خلال الأشهر الأولى من عمرها، وحينما تدرك الشهر الرابع أو يزيد تشتدّ لديها الرغبة في مغادرة المنزل لدوافع غريزيّة وعبثًا يحاول صاحبها إثناءها عن ذلك، فكلّما تفطّنت إلى منفذ أفلتت بمنتهى السرعة.

تنتاب مربّي القطط عديد الهواجس والمخاوف من المخاطر التي قد تكون القطط عرضة لها كالحوادث والضياع والوقوع فريسة أي لون من ألوان الإيذاء أو التسميم أو السرقة

القطّ المدلّل في الغرف والبيوت يفتقر إلى شراسة قطط الشوارع وسرعة ردود أفعالها وقدرتها على "التقاط قُوتِها" من المزابل ومن عتبات محلات بيع الدواجن وغيرها. هذا القطّ المدلّل يكون في الغالب ضحية مخاطر عديدة نذكر منها أربعًا حسب الهواجس التي يبوح بها متبنّو القطط.

الأوّل يتمثّل في إمكانية أن يتعرّض القطّ إلى الدهس من قبل سواق السيارات والدراجات النارية في بلد أزهقت فيه حوادث المرور سنة 2021 حوالي ألف روح بشرية وأسقطت أكثر من ستّة آلاف جريح. هذه الأرقام تزيد مربي القطط فزعًا وهم يشاهدون يوميًا دماء الحيوانات وأشلاءهم ملقاة في الطرقات. إزاء هذه الوضعية يكون القطّ المدلّل أكثر عرضة للدهس لأنه لم يتعوّد ضغط الشوارع التي تفرض عليه دوام اليقظة للإفلات من المخاطر أيًّا كان مصدرها.

الهاجس الثاني الذي ينتاب مربيّ القطط هو الضياع فالحيوان الأليف إذا لم يتعوّد على الخروج أو إذا غادر المنزل وعاد فوجد الأبواب والنوافد مغلقة قد يتيه في الزحام والأزقة ويبتعد عن محلّ إقامته بلا رجعة.تقول حنان بوجليدة في ذعر ولوعة راجية المساعدة: "قطّي غادر البيت، بحثت عنه لدى الجيران وفي محيط المنزل فلم أعثر عليه" وتنهي تدوينتها بالدعاء له حتّى يقع في أياد أمينة وتطلب العون على استعادته. 

صورة

 

فرطُ الحرص على استرجاع قطّ قد يدفع صاحبه إلى عرض فدية أو جائزة معتبرة لمن يعثر عليه أو يردّه إلى محلّ إقامته سالمًا، تقول ياسمين بن مسعود "قطوسنا خرج نهار الأربعاء من حمام سوسة وينجم (=يمكن) يكون راجع لخزامة، شعره طويل وأبيض وفيه الـ gris (= الرمادي) وعندو سلسلة زرقاء، وتضيف في تدوينتها قائلة " القطوس castré (= مخصيّ) ولازمو traitement spécial urgent (علاج خاصّ مستعجل)". وتنهي كلامها متعهدة بتقديم هديّة قيمة مسجلة رقم هاتفها. 

صورة

 

هاجس الضياع تتناسل منه هواجس أخرى مثل الخوف من تعرّض القطّ إلى التسميم أو الاعتداء بالعنف أو السرقة خاصّة إذا كان القط متّصفًا بجمال أخّاذ.

ضياع هذا الحيوان ووقوعه فريسة أي لون من ألوان الإيذاء حوادث تورث صاحب القط لوعة كبرى يعبّر عنها ندبًا وحرقة في تدوينات أو تسجيلات صوتية أو فيديوهات تقطر ألمًا وحسرة وتتضمن كلمات أقرب إلى التفجّع والتأبين وطلب العزاء وهو خطاب يُضارع رثاء الموتى من البشر لغة وبنية وصورًا وعمقًا.

  • قط في جهاز العروس وآخر على "السجاد الأحمر"

رغم الكثير من المصاعب الصحية والماديّة وغيرها التي يواجهها مربو القطط، فإنّ عالمهم حافل بالمواقف الطريفة، فهذه الفتاة تشترط على خطيبها أن لا تدخل له بيتًا إلا وهي مصحوبة بقطّتها التي تربطها بها علاقة وثيقة لا سبيل إلى قطعها رغم قداسة الحياة الزوجية وإكراهاتها.

رغم المصاعب التي يواجهها مربو القطط في تربيتهم، فإن عالمهم حافل بالمواقف الطريفة، على غرار ما حصل مع القط "نجم أيام قرطاج السينمائية" الذي شدّ إليه الأضواء وهو يتبختر على السجاد الأحمر

وهؤلاء التلاميذ لا يطيب لهم البقاء في الساحة إلا وهم على مقربة من "قط المدرسة" وهو ما دفع المدير إلى كتابة مذكرة ينبه فيها من مغبة هذا السلوك الذي بدا غير مناسب في الفضاء التربوي.

وتلك عائلة تضطرّ إلى تقديم عرض مميّز لمن يعتني لها بالقطة في انتظار العودة من السفر.

وذاك قطّ يشدّ إليه الناظرين يوم افتتاح مهرجان قرطاج السنمائيّ في موفى أكتوبر/تشرين الأول 2022،  فتتوجه إليه عدسات الكاميرا وهو يتبختر فوق السجاد الأحمر. 

صورة

 

ومن ألطف المواقف أن يتحوّل الأب من الرفض القطعي إلى الولع الشديد بالقطط، إذ يجابهه أبناؤه بأنواع من الحجج التي تؤكّد أن تبني قطّ في البيت أمر لا ينطوي على أي حرج ديني أو صحّي، فيواجهه الطفل بحديث نبوي يؤكّد شرعية هذا الاختيار وتقرأ له البنت تدوينة تنفي أي خطورة الصحية متأتية من القطط، لكن تعلق هذا الكهل لن يكون في الأخير سليل تلك البراهين العلمية أو الفقهية إنما سينمو بفضل الألفة التي تحصل مع حيوان لطيف مثير أخّاذ وفق ما رصدناه من مواقف مربّي القطط وتدويناتهم.

صورة