كحبّة قمح شجاعة تحلم أن تكون حقلًا، نبتت مدينة الثقافة في قلب العاصمة تونس. القصّة بكامل تفاصيلها بدأت في تسعينيات القرن الماضي، والفكرة الأم هي إنشاء مدينة ضخمة للثقافة لتحلّ مكان "الحي الوطني للشباب" و"المعرض الدولي"، وهو ما أدّى لترحيل الشباب إلى المركز الثقافي والشبابي بالمنزه السادس وإلى مدينة العلوم الناشئة حينها والشهيرة بقبّتها الفلكية، فمُسحت ذاكرة بأكملها وطُمست إلى الأبد، أو لم يكن الحي الوطني للشباب من منجزات دولة الاستقلال؟
كان إنشاء مدينة الثقافة قرارًا سياسيًا ظاهره تجويد البنية التحتية لصالح الشعب، لكن باطنه تركيز الحكم الفردي وتثبيته
اقرأ/ي أيضًا: مقالة في"طبع المزموم".. أو عندما تخوض الموسيقى معركة التحرر
لم يكن ذلك إلا قرارًا سياسيًا ظاهره الإنشاء والتعمير وتجويد البنية التحتية لصالح الشعب، لكن باطنه تركيز الحكم الفردي وتثبيته في وطن فقد الأمل في الحرية. ففي قراءة سياسية لمعمار المدينة تفهم أنّ ضخامتها، وقوتها، وصلابتها، وهيبتها، وامتدادها على تسعة هكتارات هي من جنس القرار السياسي الذي "أذن ببعثها" كما كان يُقال.
المدينة أدركتها الثورة وملامحها المعمارية في طور التشكّل، وحلم شباب الثورة قائم بأن يعود إلى أرضه الأولى قبل تشتيته لأنه لم يذهب إلى مدينة العلوم أو إلى مركّب المنزه، وكذلك يوجد حلم شعب بثورة ثقافية تخلّد حراكه قد يكون هذا المشروع منصة أساسية لتنفيذها. لكن ما حدث هو انطلاق سيناريو البيروقراطيات، والتقاضي مع بعض الشركات المنفذة للمشروع التي لم تتعهد بالتزاماتها تجاه الدولة التونسيةـ فحصلت تعطيلات كثيرة وكأنّ بحبة القمح تنبت بعسر.
وقد تعهّدت كل الحكومات التي تتالت بعد الثورة باستكمال المشروع، وتقريبًا جميع رؤساء الحكومات ومنهم الحبيب الصيد ويوسف الشاهد زاروا المدينة ووعدوا بما وعدوا، ورُصدت أموال طائلة في الميزانيات المتعاقبة الخاصة بوزارة الثقافة. وفي الأثناء، كان ينتظر الشعب مدينته، ويرى حبة القمح تنمو وتينع وتتمايل بهاءً. ودار نقاش مجتمعي واسع بخصوص المدينة وميزانيتها وقد تمّ صرف حوالي 62 مليون دولار إلى حدّ اللحظة، وكذلك حول جدواها وأهميتها في هذه اللحظة التاريخية التي يعيشها الشعب التونسي. وكان يدافع السياسي بشدّة ويستميت كأنه يعتقد في لاوعيه بأنّه لا يزال وصيًا بشكل من الأشكال على الثقافة، والحال أن الثقافة لا تريد إلا مناخًا عبقًا من الحرية.
البهو الرئيسي لمدينة الثقافة
مدينة الثقافة ورغم السنوات الطويلة التي قضّتها تحت لون الاسمنت، وقد انطلقت الأشغال سنة 2003 وانتهت في 2018، إلا أنّها محظوظة بوزراء الثقافة المتعاقبين لأن جميعهم من أهل الثقافة والفنون والآداب إذ ما انفكّوا يدعمون المشروع، ويدفعون لإنهائه حتى أنّ الوزير الحالي للثقافة محمد زين العابدين وُصف بأنه وزير "حضيرة مدينة الثقافة" وذلك لكثرة زياراته.
والآن، ماذا سيحدث في المدينة بعد تعميرها وتدشينها؟
مدينة الثقافة في الوقت الحاضر جاهزة بقاعاتها الفسيحة، ومكتبتها، ومتحفها الخاصّ بالفنّ المعاصر، ومسارحها إضافة لقاعة الأوبرا. ومن المنتظر تدشينها يوم 21 مارس/ آذار الحالي، ما الذي سيحدث داخل المدينة بعد التدشين؟
إحدى قاعات العرض في مدينة الثقافة
لا يوجد قانون أساسي ينظّم إدارة مدينة الثقافة، حيث لا توجد إلا "وحدة التصرف حسب الأهداف" ومرجع نظرها إدارة ديوان وزير الثقافة. وقد اشتغلت هذه الإدارة في السنتين الأخيرتين بثبات وفتحت الأبواب أمام جميع الفنانين، والمثقفين والكتّاب من أجل تقديم تصوّراتهم ورؤاهم للعمل الثقافي داخل المدينة سواء أكان مسرحًا أو موسيقى أو سينما أو فنونًا تشكيلية أو ثقافة شفوية أو فنونًا موجّهة للطفل. كما تمّ بعث عدد من اللّجان حسب الاختصاصات الفنية ترأستها وجوه إبداعية مشهود لها بالتجربة والتمرّس، لكن هذه التصورات هل هي وطنية أم عاصمية أي مقتصرة على تونس العاصمة فقط؟
يقودنا هذا السؤال للحديث عن مركزية الفعل الثقافي، وتكثيفه داخل العاصمة، وهو في تقديري من عوائق الثقافة التونسية التي تقوم على فلسفة المركز والهامش منذ الاستعمار الفرنسي إلى اليوم رغم ادعاء السياسيين عكس ذلك. وبالتالي، أين نصيب الجهات من هذا الصّرح الكبير؟ هل ستذهب المدينة للجهات وتكون لها امتدادات في عمق الوطن الزاخر بالفنون أم ستكتفي باستدعاء أصوات يمثلون الجهات في شبه لامركزيّة ثقافية؟
يأتي الحديث بمناسبة تدشين مدينة الثقافة حول مركزية الفعل الثقافي وهي من عوائق الثقافة التونسية
اقرأ/ي أيضًا: السينما التونسية ما بعد الثورة: سرديات الواقع.. بجماليّات جديدة
من المؤكّد ستغنينا هذه المدينة الثقافية، وهي الأضخم في تونس في القرن الحادي والعشرين، عن أزمة البحث عن أمكنة ومقرّات لإحياء الحفلات الكبرى لإبراز التظاهرات كأيام قرطاج السينمائية والمسرحية والموسيقية، وذلك على غرار ما يحدث في عواصم عالمية أخرى. ستكون المدينة أيضًا ملاذًا للعائلات التونسية خاصّة وأنّ بها مقاه ثقافية ومكتبات. وهنا نطرح سؤالاً حارقًا، هل هذا هو دور المدينة الذي أًنشئت من أجله؟ هل هي للترفيه أم للتفكير؟
إذا نظرنا بأكثر عمق، يجب أن تتوشّح المدينة الثقافية بزيّ الشمس، وتشعّ على كامل الوطن، وأن تجدّد مضامينها مواكبة لما يحصل في العالم. عمومًا، يجب على مدينة الثقافة ألا تكون إقصائية ليستظلّ بظلّها كل مبدع وفنان ومفكّر يحمل تصوّرًا خلّاقًا وتجديديًا، ويشتغل على تحويل أمجاد الشعب التونسي إلى فن وإبداع، وكذلك تحتضن كلّ من يساهم في كتابة التاريخ بالثقافة لأن الثقافة هي الأبقى.
مشهد مسائي لمدينة الثقافة
اقرأ/ي أيضًا: