30-يناير-2023
مطر

لمحاربة شبح الجفاف وتبعاته يلجأ بعض التونسيين إلى طقوس طلب الاستسقاء المختلفة بين ما هو ديني وما يندرج في إطار العادات المتوارثة عبر الأجيال (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

يمثل الجفاف الكابوس الأسوأ الذي بات يهدد العالم بأسره حتى أن القارات التي ظل هذا المصطلح دخيلًا عنها طيلة قرون أصابتها نوبات جفاف هي الأخطر منذ 5 قرون على غرار القارة الأوروبية. وليست تونس بمنأى عن هذه التغيرات المناخية فقد اجتاحت البلاد موجات حر غير مسبوقة اعتُبر على إثرها أكتوبر/تشرين الأول الماضي ثاني شهر أكتوبر/تشرين الأول الأكثر جفافًا منذ سنة 1960، كما سجلت البلاد نقصًا فادحًا في الأمطار أثّر سلبًا على مخزون السدود التي بدأت تنضب وبالتالي على القدرة الإنتاجية للأراضي الزراعية.

 

 

ولمحاربة شبح الجفاف وتبعاته يلجأ بعض التونسيين إلى طقوس الاستسقاء المختلفة بعضها ديني وبعضها الآخر يندرج في إطار العادات المتوارثة عبر أجيال من التونسيين الذين آمنوا بنجاعتها في تلافي شح السماء، واستسقاء الغيث النافع. ولئن تعتبر بعض الطقوس مشتركة بين بعض الدول فإن البعض الآخر يحمل طابعًا تونسيًا بامتياز. ويحافظ أهالي المناطق الداخلية على عادات طلب المطر أكثر من سكان المدن لعدة أسباب لعل أبرزها حاجتهم الأكيدة للمطر في بعض المواسم لفائدة القطاع الفلاحي الذي يمثل مصدر رزقهم الوحيد. وقد صمدت العادات والتقاليد والتراث الفلكلوري المتوارث عبر الأجيال أمام رياح الحداثة والتطور التي طرأت على مجتمعنا التونسي حديثًا.   

 

 

  • "أمك طنغو" في المخيال التونسي

عند تتالي مواسم الجفاف والقحط يستحضر التونسيون في بعض مناطق البلاد عادات الأجداد لمقاومة شح الأمطار فتقوم أكبر مسنة في القرية بصناعة عروس تسمى "أمك طنغو" تتكون من عمودين من خشب أو قصب يوضعان بشكلٍ متعامد ويتم تزيينها بملابس مختلفة الألوان ويغطّى رأسها بوشاح فيُهيّأ لكل من يشاهدها أنها عروس في أبهى حلتها.

عند تتالي مواسم الجفاف يستحضر التونسيون في بعض المناطق عادات الأجداد لمقاومة شح الأمطار فتقوم أكبر مسنة في القرية بصناعة عروس تسمى "أمك طنغو" ويجوب بها الأطفال الأحياء مرددين أهازيج لطلب نزول الأمطار

ويقوم أطفال القرية بحمل "أمك طنغو" ويجوبون بها الأحياء المجاورة فيطرقون جميع الأبواب ليقوم سكانها بسكب الماء على رأس "عروس المطر" ويواصل الأطفال جولتهم مرددين أهازيج وأناشيد تشبه التعويذات نذكر منها:   

 

"أمّك طنغو يا الأولاد غسلت راسها في الواد  ** أمك طنغو يا شهلولة إن شاء الله تروّح مبلولة

أمّك طنغو بسخايبها طلبت ربي ما يخيبها ** يا الله وڨرين فول يا الله وصبح مبلول

أمك طنغو يا صبايا  بالبازين والقلاية  **  أمك طنغو يا نساء بالبازين والحساء

يا بركة جامع المستير صبح كل غدير يسيل **  يا الله وعجيلة تسنى يا الله وتروح بكرى

الزريعة تحت الطوب حزّ عليها يا مطلوب  **  الزريعة في الرواني عليها يا فوڨاني"

 

يقول الباحث في التراث زاهر كمون، في حديث مع "الترا تونس"، إن العديد من الباحثين بينوا وأجمعوا في كتاباتهم ودراساتهم أن "أمك طنغو" هي امتداد للآلهة القرطاجية "تانيت" حامية قرطاج والتي عبدت مع "بعل حمون" كبير الآلهة، وتعتبر "تانيت" رمزًا للخصوبة والأمومة والنماء وكانت تحمل الغيث النافع للسكان وتواصل الاعتقاد بذلك إلى اليوم لكن مع تغيير الاسم من "تانيت" إلى "طنغو" كما تم إلغاء الطابع الوثني لهذه الآلهة، وفق تصوره. 

الباحث في التراث زاهر كمون لـ"الترا تونس": "أمك طنغو" هي امتداد للآلهة القرطاجية "تانيت" التي تعدّ رمزًا للخصوبة والتي كانت تحمل الغيث النافع للسكان وقد تواصل الاعتقاد بذلك إلى اليوم لكن مع تغيير الاسم من "تانيت" إلى "طنغو"

ولفت إلى أن الدكتور محمد العربي عقون يقول في كتابه الاقتصاد والمجتمع في الشمال الإفريقي إن "الإفريقيين يقومون مثل أحفادهم المغاربة اليوم بالإكثار من الشعائر السحرية للحصول على الغيث مثل الطقس الذي لا يزال يمارس إلى اليوم وهو الطواف بعروس المطر وهي ملعقة كبيرة مصنوعة من الخشب تلبس بقطع من القماش مختلفة الألوان، وهو طقس يعبر عن قدرة هذا الرمز على إنزال المطر".

تتشابه طرق ممارسة هذه العادة من بلد إلى آخر فعروس المطر تكنّى في الجزائر بـ"أنزار"، أما في المغرب فتعرف بـ"تاغونجا" وهو في الأسطورة اسم الفتاة التي عشقها إله المطر، ويقوم النسوة المغربيات والأطفال بالتجوال بالدمية القماشية في الأضرحة والمساجد مرددين الأغاني "يا ربي غيثنا حتى يقطر بيتنا… غونجا يا مونجا واللي طلبناه راه جا.. الفولة عطشانة سقيها يا مولانا.. غونجا يا ربي جيب الشتا".

 

  • "وزيعة اللحوم" و"العصيدة"

من بين الشعائر الشعبية الأخرى التي تمارس لطلب المطر والتي تندرج ضمن التراث الثقافي اللامادي، ما يعرف بـ"وزيعة اللحوم" وهي عادة دأب على تطبيقها مربو الماشية بصفة خاصة عند تتالي سنوات الجفاف وانحباس الغيث النافع، فيتبرع الفلاحون بعدد من الخراف يتم تجميعها في مكان عام وذبحها وتوزيع اللحوم على أهالي المنطقة خاصة منهم ضعيفو الحال في جو احتفالي اجتماعي يغلب عليه طابع التضامن والتآزر. وتهدف هذه العادة إلى التصدق والتقرب من الله لطلب الاستسقاء وهي مناسبة للدعاء والتضرع لله  بطريقة جماعية تختتم بصلاة جماعية تكثر فيها الأدعية والابتهالات.

من بين الشعائر الشعبية التي تمارس لطلب المطر ما يعرف بـ"وزيعة اللحوم" وهي عادة دأب على تطبيقها مربو الماشية عند تتالي سنوات الجفاف فيتبرعون بعدد من الخراف يتم تجميعها في مكان عام وذبحها وتوزيع اللحوم على أهالي المنطقة

تقول "مباركة"، ستينية أصيلة محافظة الكاف الواقعة بالشمال الغربي للبلاد، إنه "في الوقت الذي يعمد فيه رجال القرية إلى ذبح الخرفان وتوزيعها تنهمك النسوة في إعداد أكلة "العصيدة الحارة" التي تتكون من الدقيق الذي يخلط مع الماء ثم يطهى على النار حتى يصبح قوامه متماسكًا وعندما توضع في الصحن يسكب فوقها خليط متكون من الطماطم وزيت الزيتون والفلفل ويتم تناولها في جو عائلي". 

تؤكد محدثة "الترا تونس" أن هذه الطقوس كانت تؤتي أكلها وجرت العادة أن تهطل الأمطار بغزارة بعد ممارستها، مشيرة إلى أن الأهالي كانوا يتبركون بمثل هذه العادات التي يمكن القول إنها هجرت حاليًا بسبب تغير العقليات وبسبب إنكار هذا الجيل لنجاعتها واعتبارها من قبيل الأساطير أو "الشعوذة".      

وتعتبر "مباركة" أن مثل هذه العادات من المهم إحياؤها سواء خلال فترات الجفاف أو خلال سنوات الوفرة لتنتفع بها العائلات ضعيفة الدخل التي أعياها ارتفاع الأسعار في تونس ولم تعد قادرة على توفير أبسط مقومات العيش الكريم ناهيك عن أن مثل هذه العادات تحيي الروابط العائلية وتوطد العلاقة بين الجيران.   

مباركة (ستينية من الشمال الغربي) لـ"الترا تونس": عادة "وزيعة اللحوم" تمثل أحد الطقوس المعتمدة لطلب نزول المطر وكانت تؤتي أكلها وجرت العادة أن تهطل الأمطار بغزارة بعد ممارستها لكنها هُجرت حاليًا بسبب تغير العقليات وإنكار الأجيال الجديدة لنجاعتها

 

  • صلاة الاستسقاء

لا تقتصر طقوس طلب الغيث وتجاوز محنة الجفاف على العادات والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال بل إن الطقوس الدينية هي الأكثر رواجًا وممارسة في تونس بصفة مشتركة بين كل المدن ويلجأ التونسيون إلى إقامة صلاة الاستسقاء للتضرع لله وطلب المطر بدعوة من وزارة الشؤون الدينية.

 

 

وكانت الوزارة قد دعت إلى إقامة صلاة الاستسقاء في جميع المساجد صبيحة الأحد 30 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وهي سنة نبوية مؤكدة نظرًا لانحباس الغيث النافع، كما دعت جميع المستسقين إلى استمطار الرحمات بالتضرع والابتهال إلى الله أن يرزقنا الغيث النافع وأن يرفع عنا القحط والجدب. 

لا تقتصر طقوس طلب الغيث وتجاوز الجفاف على العادات والتقاليد المتوارثة بل إن الطقوس الدينية هي الأكثر رواجًا وممارسة في تونس إذ يلجأ التونسيون بدعوة من وزارة الشؤون الدينية لإقامة صلاة الاستسقاء للتضرع لله وطلب المطر

ومؤخرًا  تثير إقامة صلاة الاستسقاء موجة انتقادات واسعة حيث اعتبر البعض أن الحلول العلمية أنجع من هذه الطقوس. وفي رده على من يعتبر أن صلاة الاستسقاء "شعوذة" كان الواعظ بالشؤون الدينية بدري المداني قد قال، في تدوينة له على صفحته بفيسبوك، إن "قرار وزير الشؤون الدينية بإقامة صلاة الاستسقاء في زمن انحبست فيه الأمطار واحتاج النّاس لجرعة إيمانية تطفئ عطشهم قرار جاء لبثّ كثير من الأمن الروحي الذي تحتاجه النفوس كما تحتاج الأمن الفكري والجسدي والاجتماعي من بقية مؤسسّات الدولة".

وأضاف: "نحن نؤمن بالعقل ونؤمن بالعلم ونؤمن بالنقل ونؤمن بالغيبيات في ذات الآن. انحباس المطر قد يفسّر من المنظور العلمي الطبيعي وما ذلك سوى جملة من الأسباب التي لا ننكرها لكنّنا نقف إجلالًا لكلام ربّ العالمين الذي هو مسبّب الأسباب.. لن نصدّق العلم وحده الذي هو نتاج بشري"، وفق تعبيره.