"إلي عنده نخلة عمره ما داره تخلى"، مثل شعبي يردده أهالي محافظة قبلي (جنوب تونس)، وهي الأولى في إنتاج التمور بـ70 في المائة من الإنتاج الجملي التونسي. ويعني أن البيت الذي توجد فيه النخلة لا يمكن أن يسوده إلا الخير والبركة.
هؤلاء يعتبرون أبًا عن جد ومنذ آلاف السنين أن النخلة تمثل موروثهم المادي ووجودهم الاقتصادي والاجتماعي والصحي والثقافي وحتى الفكري .وها هي اللجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي غير المادي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، تدرج "النخلة التونسية: المعارف والمهارات والتقاليد والممارسات" في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.
حدث تحتفي به الأوساط الثقافية فيما يراه أهالي قبلي - المالكين لأكثر من 75 في المائة من أجود أنواع النخيل المنتجة لدقلة النور- خبرًا عاديًا لاقتناعهم بأن النخلة موروثهم الدائم وأنهم مازالوا يحتفظون به ويعتبرونه أصل وجودهم.
العم بلقاسم (مواطن من قبلي) لـ"ألترا تونس": النخلة ليست إنتاجًا فلاحيًا يميز جهتنا بل هي جزء من وجودنا على هذه الأرض
"النخلة ليست إنتاجًا فلاحيًا يميز جهتنا بل هي جزء من وجودنا على هذه الأرض"، يقول العم بلقاسم لـ"ألترا تونس"، مشيرًا إلى واحات النخيل التي تطالعك في كل اتجاهات الواحة. ويضيف "النخلة شجرة مباركة ذكرت في القرآن ولهذا فقلّما تجد بيتًا لا توجد فيه نخلة". ومن العادات التي لا يزال أهل قبلي يحافظون عليها هي غراسة نخلة للمولود الجديد إما في الواحة أو داخل البيت أو حتى أمامه.
اقرأ/ي أيضًا: صابة التمور.. حشرات فتاكة وسوق راكدة والفلاحون يستغيثون
لا يزال البيت "القبلاوي" يحافظ على الغرف القديمة التي صنع سقفها من خشب النخيل ولا يزال أهالي الجهة يستعملون مكنسة تقليدية من جريد النخلة وعرجونًا لتنظيف الأرضيات والساحات. وتؤكد الشابة فاطمة لـ"ألترا تونس" أن هذه الأدوات تستعمل إلى الآن وأن الأمر لا يتعلق بكبار السن بل إن الشابات أيضًا يعتمدن هذه الوسائل التقليدية ويجدنها أكثر نجاعة.
فيما تلوح الحاجة حليمة "بطبق" مصنوع من سعف النخيل، مرددة أن النخلة كريمة جدًا وأنها ليست تمرًا فقط "فمن ليفها تصنع الحبال وتشكل الأدوات الفلاحية ومن جريدها تصنع المكنسة التقليدية وبسعفها تشكل المراوح والقبعات والأطباق والقفاف ومن شوكها تزيّن الأطعمة". كما أنها تستغل لتنظيف الأسنان وكرنافها حطب للتدفئة والطبخ. أما جمارها فهو للأكل وقلبها ينبع منه عصير طبيعي يسمى "لاقمي" وجذعها يستغل في صناعة المقاعد وخشب الأبواب.
مبروكة طبال (محافظ التراث بالجهة) لـ"ألترا تونس": النخلة تعني عند أهل الجنوب كرامتهم وعزتهم وبيع أملاكهم من النخيل مازال إلى اليوم يعتبر عارًا
اقرأ/ي أيضًا: اللاقمي في الجزائر وتونس.. مشروب بوجهين
وتؤكد محافظ التراث بالجهة مبروكة طبال في حديثها لـ"ألترا تونس" أن اليونسكو اختارت النخلة التونسية أينما وجدت في البلاد غير أن ما يميز النخلة في قبلي هو ارتباطها الوثيق بالموروث الفكري والثقافي للجهة، وهي أكبر من مجرد نوع نباتي يقدم منتوجًا اقتصاديًا هامًا يحرك عجلة التنمية في المنطقة. وتبيّن المختصة في التراث أن النخلة تعني عند أهل الجنوب كرامتهم وعزتهم وأن موسم جنيها مرتبط بالأعراس، مشيرة إلى أن بيع أملاكهم من النخيل مازال إلى اليوم يعتبر عارًا وحدثًا أليمًا وأن النخلة يتم توارثها أبًا عن جد ولا تقدر بثمن عندهم.
وتشدد طبال على أن التمدن والتغيرات الحضارية لم تنجح في التقليل من أهمية النخلة بل أن الشباب مازالوا يسعون ويدفعون من أجل غراسة النخيل في الصحراء على الرغم من الصعوبات المناخية والتكاليف المادية لهذا النوع من الغراسات التي تتطلب الجلد والصبر.
والنخلة كانت وما تزال مصدرًا للدواء فذكار النخلة أو الطلع هو عبارة عن حبوب لقاح النخيل، التي قد تكون صفراء أو بيضاء في اللون ويعتمد في علاج العقم عندهم، أما نواة التمر فيطحن ويستعمل كقهوة أو "بسيسة" أو مسحوق تجميلي. وأثبتت آخر الدراسات العلمية نجاعة هذه المنتجات. وقد تغنى الشعراء الشعبيون ونظموا القصائد في التغزل بالنخلة وجمالها واعتبروها مصدر فخر وعز وشموخ. ويقول الشيخ الهاشمي "النخلة حتى في موتها سخية فهي تمنحنا شرابًا كمذاق العسل فيه شفاء ودواء".
اقرأ/ي أيضًا:
ناصر غريرة.. عن إبداع تحويل مخلّفات النخيل إلى تحف وأثاث