مقال رأي
لم يكن من باب المفاجأة، حقيقة، أن يصرّح أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي مؤخرًا أنه "لا مجال للحديث عن حقوق الإنسان مع الإرهابيين"، ذلك أن الرجل يؤكد علاقة منظمته الرتيبة والباردة بمسألة حقوق الإنسان، التي تبدو كشعار يُردد دائمًا لكن سرعان ما يتهاوى على أرض الواقع، ليتبيّن أن الاتحاد العمالي لا يزال يتعامل مع هذه المسألة كترف لا يتصدّر أولوياته، وذلك رغم أنه يصدّر نفسه كمنظمة وطنية قبل أن يكون نقابة عمالية.
فالمعضلة، وهذا محلّ المساءلة، أن هذا الخطاب المستهدف للمسألة الحقوقية يصدر من الاتحاد، الذي يقدم نفسه كأعرق المنظمات الوطنية التونسية وأنه مظلة التونسيين وحامل لواء الدفاع عن قضاياهم، ومن منظمة حاصلة على جائزة نوبل للسلام سنة 2015، بما تحمله، من تبعاتها، أن يعمل اتحاد الشغل على تعزيز مواقفه من ضمانات السلم السياسي والاجتماعي، ولا غرو أن حقوق الإنسان هي ضمانة أولى، مع لزوم الدفاع عنها، خاصة في سياقات محاولة التشنيع بهذه الحقوق السامية إثر الأحداث الإرهابية.
أكد نورالدين الطبوبي أن علاقة الاتحاد العام التونسي بالشغل تظل رتيبة وباردة بحقوق الإنسان التي تبدو كشعار يُردد دائمًا لكن سرعان ما يتهاوى على أرض الواقع
في هذه النقطة بالذات، كان الاتحاد العام التونسي للشغل من بين 46 منظمة تونسية ودولية أمضت عام 2016 على حملة بعنوان "لا للإرهاب، نعم لحقوق الإنسان" تأكيدًا على عدم التعارض بين مكافحة الإرهاب من جهة واحترام حقوق الإنسان من جهة أخرى. وقد جاءت هذه الحملة مع تصاعد الحملة وقتها على المنظمات الحقوقية إثر الاعتداءات الإرهابية التي عرفتها البلاد، حتى وجد كل مدافع عن حقوق الإنسان نفسه في قفص الاتهام وكأن حقوق الإنسان هي التي موّلت وفسحت المجال للإرهابيين.
اقرأ/ي أيضًا: "العصا في المؤخّرة".. لا بأس بالتعذيب مادامت التهمة الإرهاب!
لكن وبعد 3 سنوات من ذلك البيان، نجد نورالدين الطبوبي ينقل اتحاد الشغل 180 درجة من صفّ المشنّعين على الخطاب الذي يستهدف حقوق الإنسان إثر العمليات الإرهابية، والتأكيد على عدم التعارض بين الدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، إلى الصف المقابل، الذي يضم كل المعادين لحقوق الإنسان، والذي تشتد هوجتهم كوحوش ضارية لتصدير خطابهم العدائي إثر كل عمل إرهابي استغلالًا لحالة الغضب الشعبي. وهو خطاب يتعارض بطبيعته مع حقوق الإنسان على مستوى إطلاقيتها، ويروج إليه، واقعًا، كل مبيّض لانتهاكات حقوق الإنسان خاصة تلك الواقعة زمن الاستبداد.
الطبوبي قال حرفيًا في تصريحه الأخيرة "اليوم يأتي إرهابي يقتل نفسًا بشرية ..وتتحدثون عن حقوق إنسان؟"، وهذا التصريح، رغم عنصر عدم المفاجأة في جوهره على النحو المذكور، يطرح في جانب آخر السؤال عن أهلية أمين عام الاتحاد التونسي للشغل، والمقصود الأهلية لقيادة منظمة بحجم الاتحاد العام التونسي للشغل، ذلك أنه حتى التكوين النقابي، المقدّم في الورشات الداخلية، لا يمكن أن ينتج، وفق المفترض حُسنًا على الأقل، كاتبًا عامًا مساعدًا في اتحاد جهوي بمثل هذا الربط المتهافت بين قتل إرهابي لنفس بشرية واستثارة مسألة حقوق الإنسان، وكأنه سمع أن تطبيق هذه الحقوق ستجعل هذا الإرهابي دون تتبع أو محاكمة.
انتقل اتحاد الشغل من صفّ المشنّعين على الخطاب الذي يستهدف حقوق الإنسان إثر العمليات الإرهابية إلى الصف المقابل الذي يضم كل المعادين لحقوق الإنسان
وربما تكون الخشية أن الطبوبي "تشجّع" على مثل هذا التصريح حينما قرأ أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير قال "لا تحدثونني عن حقوق الإنسان حينما يتعلق الأمر بأمن البلاد"، وهو تصريح مفبرك لازالنا نجده منتشرًا إثر كل حدث إرهابي في سلوك بافلوفي، وكأن البعض يريد أن يؤكد عبره دعمه التام لأجهزة الدولة في مكافحة الإرهاب! والطريف، في المقابل، أن الأجهزة الرسمية للدولة لم تتحدث يومًا عن عائقًا لمكافحة الإرهاب يُسمى "حقوق الإنسان". وبذلك، وبهذه الصورة، يكون الطبوبي، بتصريحه الأخير، مثل شخص يطمز عينيه بيديه.
وطبعًا، إن الخطاب العدائي لحقوق الإنسان يأتي عمليًا، في إطار تبرير ممارسة كل أنواع الانتهاكات بمناسبة التعاطي الأمني مع الإرهابيين، وتحديدًا انتهاكات الإيقاف التعسفي والتعذيب، سواء النفسي أو البدني، وخرق شروط المحاكمة العادلة وغيرها من الانتهاكات وذلك بتعلة "منطق الدولة" على حساب منطق احترام القانون الذي يوفّر، على الأقل نظريًا، أرضية لضمان حقوق الإنسان، ولكن يتم تجاوزها واقعًا في غرف الإيقاف والسجون.
ربما لا يعلم اتحاد الشغل أن الانتصار الحقيقي للإرهاب هو حينما يجعلنا نواجهه كهمجيين من خارج سور دولة سيادة القانون وحقوق الإنسان
وإجمالًا، يمثل تصريح الطبوبي دليلًا جديدًا أن منظمته لا تهتم بحقوق الإنسان كما كانت طيلة زمن الاستبداد، وأنها لا تؤمن بإطلاقيتها حينما تميّز، من باب التبني ظاهرًا، بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة، والحقوق المدنية والسياسية من جهة أخرى، رغم ترابطهما العضوي.
فالمسألة الحقوقية، عند اتحاد الشغل، ليست أزيد من شعار يُردد في المحافل الوطنية والدولية، وهي غائبة بالخصوص عند تعبير المنظمة عن مواقفها من القضايا الإقليمية وتحديدًا حول الملفين السوري والمصري. ونذكّر، في هذا الجانب، أن وفدًا من اتحاد الشغل التقى، قبل سنتين، رئيس نظام البراميل المتفجرة بشار الأسد في دمشق، الذي أمرغ نظامه في ممارسة أشنع انتهاكات حقوق الإنسان بحق النقابيين السوريين من إعدامات خارج القانون وتعذيب وسجن ومنع من النشاط وتهجير قسري، ذلك أن المنطق السياسي الأديولوجي لدى قيادة الاتحاد دائمة ما يكون غالبًا على حساب منطق التضامن النقابي والحقوقي.
وعمومًا، يفشل اتحاد الشغل في كل مناسبة أمام امتحان الدفاع الجدي، غير الصوري الكلمنجي، عن حقوق الإنسان سواء داخل تونس أو خارجها، وهو لا يعلم، في سياق الحرب ضد الخطر الإرهابي، أن الانتصار الحقيقي للإرهاب هو حينما يجعلنا نواجهه كهمجيين من خارج سور دولة سيادة القانون وحقوق الإنسان.
اقرأ/ي أيضًا: