يبدو أن مهرجان أيام قرطاج المسرحية لا يزال يُدار ويفكّر داخله بنفس الطرق النمطية التي دارت بها بعض النسخ من التظاهرة بداية الألفيّة، حيث كانت الثقافة "اللاّيت" أو السطحية هي السارية والمهيمنة على المشهد الثقافي التونسي، حيث لا عمق لأي فعل ثقافي حينها.

أمام أسوار المدينة غابت الكرنفاليات الصغيرة وغابت الإشارات المسرحية وانزوت "الكلونات" في أمكنة مجهولة حزنًا وألمًا وعوّضها هرج سواق الباصات

اقرأ/ي أيضًا: تعرّف على قائمة المتوّجين في اختتام أيام قرطاج المسرحية

الآن وبعد أن تنفّس التونسيون نسائم الحرية لم تذهب وزارة الشؤون الثقافية بمهرجان أيام قرطاج المسرحية إلى مداه الذي حلمت به العائلة المسرحية التونسية منذ الانبلاجة الأولى للأيام بداية ثمانينيات القرن الماضي وهو المأسسة وتقنين جملة المبادئ التي انبنت عليها التظاهرة تجنبًا "للفقه الثقافي" الرّائج هذه الأيّام والذي جعل الكل يفهم في المسرح وغيره من الفنون والأنشطة الثقافية ويسمح لنفسه بالنقاش حولها وأيضًا تحييد الإدارة قدر الإمكان.

النسخة العشرون التي كانت قد انطلقت منذ أسبوع أطفأت أنوارها مساء الأحد 16 ديسمبر/ كانون الأول 2018 بقاعة الأوبرا بمدينة الثقافة ضمن حفل بسيط وقصير أقل ما يقال حوله أنه "باهت" وبلا ألوان وبلا عرض مسرحي ختامي، حضره جمهور قليل أغلبه من غير المسرحيين.

أمام أسوار المدينة غابت الكرنفاليات الصغيرة وغابت الإشارات المسرحية وانزوت "الكلونات" (المهرجون) في أمكنة مجهولة حزنًا وألمًا وعوّضها هرج سواق الباصات التي أقلت ضيوف المهرجان. أمّا ساحة المسارح بمدينة الثقافة فقد احتضنت لوحات كوريغرافية مرتجلة ينطبق عليها المثل الشعبي التونسي "كعور وأعطي للأعور".

وبالتالي السؤال هو "هل نحن عور حتى يكون اختتام أهم مهرجان للمسرح في تونس وفي الوطن العربي والقارة الإفريقية على ذاك النحو وعلى تلك الدرجة من الارتجال؟".

غابت في حفل اختتام أيام قرطاج المسرحية الإشارات المسرحية وانزوت " الكلونات" في أمكنة مجهولة حزنًا وألمًا

المجتمع المدني ودعمه للمسرح

على ركح مسرح الأوبرا انقسم الحفل الذي تخللته بعض المساحات "السيركية" البهلوانية إلى قسمين، قسم أول شمل التكريمات ومنح الجوائز الموازية حيث بدت هذه المساحة هي الأبرز في الحفل بتقديم جملة من الجوائز اقترحتها منظمات وطنية تونسية ودولية نذكر منها جائزة الاتحاد العام التونسي للشغل وجائزة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وجائزة النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وجائزة أفضل عمل مسرحي للمودعين داخل المؤسسات السجنية والإصلاحية وجائزة التنوع الثقافي للمنظمة الدولية للفرنكفونية وجائزة الجمعية التونسية للنقاد المسرحيين.

إن هذه الجوائز التي منحتها لجان تحكيم مختصة وبقطع النظر عن قيمتها المالية فإنها تؤكد مساندة المجتمع المدني التونسي للفعل المسرحي والثقافي بشكل عام. وهذا ليس غريبًا عن تونس التي تفاخر بمجتمعها المدني الذي يعتبر صمام أمان للشعب التونسي في شتى المجالات.

يعود المسرح التونسي للتتويج بفوز مسرحية " ذاكرة قصيرة" للمخرج وحيد العجمي بجائزة "أفضل عمل متكامل"

وشمل التكريم في حفل الاختتام عددًا من المسرحيين المجرّبين والرائدين في بلدانهم ومن طوحت بهم الخشبة في سماء المجد المسرحي والفني وهم الفلسطيني غنّام غنّام والذي أبى إلا أنّ يقبل الخشبة على مرأى من الجمهور اعترافًا واحترامًا لفنّ المسرح، وسامي عبد الحميد من العراق وحسن المنيعي من المغرب ومنى نور الدين وعبد العزيز المحرزي من تونس وعبد الرحمان أبو زهرة من مصر.

إن هذه القامات والتجارب المسرحية والفنية المحتفى بها لم يفسح لها المجال أمام المصدح لتقول كلماتها الذهبية وتعبر عن حميم علاقتها بالخشبة والجمهور وتحكي نتفًا من صميم تجربتها الثرية والطويلة، بل بقيت لثوان معدودة على الركح وغادرته سريعًا. فالفنان القدير عبد الرحمان أبو زهرة، أحد شيوخ المسرح العربي والذي جاء خصيصًا للتكريم وهو الذي تقدمت به السنّ، لم ينبس بكلمة واحدة لحظة تكريمه وحتى صور التكريم التقطت بعجالة شديدة. إنه الارتجال يطغى على الركح وعلى حفل الاختتام.

الفنان القدير عبد الرحمان أبو زهرة لم ينبس بكلمة واحدة لحظة تكريمه

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "ذاكرة قصيرة".. حينما يكون الإنساني رهين السياسي

أما القسم الثاني فقد خصص للإعلان عن الجوائز الرسمية للمهرجان والتي عادت بعد غيبة. ومن جملة 11 عملًا انخرط في المسابقة الرسمية للدورة 20 لأيام قرطاج المسرحية، يعود المسرح التونسي للتتويج بفوز مسرحية " ذاكرة قصيرة " للمخرج وحيد العجمي بجائزة "أفضل عمل متكامل". كما فازت مسرحية " جويف " لحمادي الوهايبي بجائزة أفضل إخراج. أما جائزة أفضل سينوغرافيا فتحصل عليها المخرج العراقي "جواد الأسدي" عن مسرحية  "تقاسيم على الحياة".

جائزة " أفضل نص مسرحي" منحتها لجنة التحكيم، التي ترأسها التونسي المختص في المسرح الدكتور حمدي الحمايدي، للمخرج السوري سامر محمد إسماعيل عن مسرحية " تصحيح ألوان". كما نالت المسرحية ذاتها جائزة أفضل دور رجالي وتحصل عليها الفنان يوسف المقبل.

حفل الاختتام الذي بدا مرتبكًا وينقصه الإحكام لا يليق بمهرجان عريق ومناضل اسمه أيام قرطاج المسرحية

أما مسرح العمق الإفريقي فقد نال جائزة واحدة وهي أفضل دور نسائي وتحصلت على الجائزة الرواندية سيسيل كونكودا عن دورها في مسرحية "جدران جدران".

إن حفل الاختتام الذي بدا مرتبكًا وينقصه الإحكام لا يليق بمهرجان عريق ومناضل اسمه أيام قرطاج المسرحية. لكن وبعد هذا التاريخ الممتد لتظاهرة أيام قرطاج المسرحية وبعد هذه المراكمة للدورات والفعل المسرحي والتجريب والانفتاح على ثقافات العالم والذهاب للجهات التونسية القصية وتكريم التجارب والاسماء المسرحية التونسية والعربية والإفريقية والعالمية، تبقى أيام قرطاج المسرحية وإلى الآن، بعد ما يقارب الأربعة عقود من تأسيسها، غير مسكونة بالأسئلة الحارقة والعميقة والتي تتجاوز الشكل إلى الجوهر، الأسئلة الفلسفية، الأسئلة الاجتماعية، الأسئلة الفكرية.

الأيام وإلى الآن لم تفتح قنوات حوار مع المجتمع من أجل التأسيس لجماليات جديدة نحتاجها الآن في تونس أكثر من أي وقت مضى، إنها جماليات بواسطتها نفكر بطريقة مغايرة وتدفع بنا إلى مناطق أخرى من التحضر والعيش المشترك.

نقول هذا لأن المسرح كأقدم فعل فني على وجه البسيطة هو فعل حياة وفعل تفلسف وفعل تفكير وفعل تغيير وليس فعلًا سطحيًا كرنفاليًا همّه البهرج والصخب والأضواء والألوان.

اقرأ/ي أيضًا:

افتتاح أيّام قرطاج المسرحية: أسئلة عالقة لم تطلها أضواء الخشبة

مسرحية "تقاسيم على الحياة".. "تشيكوف" يلاعبنا ويحملنا إلى ذواتنا المهشمة