19-سبتمبر-2018

الأساطير في وطني كثيرة (صورة تقريبية/ Getty)

تشير الساعة إلى منتصف الليل:

لنّتفق أوّلًا أنِّي شخص انطوائيّ.. مملّ وقليل الكلام.. وابنٌ لأبوينِ متوسِّطيْ الدّخل.. شاءت الأقدار لي أن أعيش بحيٍّ راق، الأمر الّذي زاد من عزلتي.

شابّ ببشرة سمراء وشعر مجعّد وجسد نحيف.

نسخة من آلاف النّسخ المنتشرة في مقاهي تونس وحاناتها.. أمشي بمفردي نهارًا بين أزقّة عاصمتها، وأستلقي ليلًا في فراشي، متخيّلًا حوارًا يدور بيني وبين الفتاة الشّقراء الّتي لم ولن أتجرّأ يومًا على مصارحتها بمشاعري تجاهها.

يقولون في الغرب إنّ قتل الوالد أمر أساسيّ للمضيّ قدمًا، وما فهمته أنّهم قد أشاروا بذلك إلى ضرورة تحطيم الأساطير البالية

اقرأ/ي أيضًا: حتى لا نتحوّل إلى مجتمع "الرّيسك"

جبان، ولا أملك ذرّة واحدة من الثّقة بالنّفس.. ودائمًا ما أشعر أنّي بلا قيمة.

إذا ما تواجدت وسط مجموعة من البشر، أتوارى عن أنظارهم ولا أشاركهم أطراف الحديث، ولو بكلمة واحدة.. خشية أن يجعلني ما قد أتفوّه به، موضع تهكّم وسخرية.

وإذا ما انصرفوا عنّي، تمنّيت لو أنّهم بذلوا جهدًا أكبر للتّقرّب مني.. ثمّ أعود لألقي باللّوم على نفسي كما أفعل دائمًا، بخصوص أيّ أمر.. حتّى وإن كنت بريئًا منه كبراءة الذّئب من دم يوسف.

تشير السّاعة إلى الثّالثة صباحًا:

لندخل الآن في صلب الموضوع.

إنّ شابًّا مثلي، بالمواصفات المذكورة أعلاه، إذا ما اشتدّت به الوحدة، خاصّة مع اقتراب أيّام الشّتاء الكئيبة، وسيطرت على مخيّلته، إلاّ وحدَّثته ليلًا بأفكار سوداويّة، مرعبة.. ونَزَعتْ عنه حجاب الخجل والخوف.. وجعلت منه، كما تمنّى أبدًا، واحدًا من أولئك الفتية المحظوظين، الّذين لا يهتمّون لشيء من حولهم.. وربّما أكثر من ذلك.. ربّما، جعلت منه مجرمًا.

واليوم، اجتمعت الظّروف المواتية.. فالأمطار تهاطلت بغزارة منذرة بقدوم فصل الكمد، وهاهي الوحدة تخنقني..

"يقولون في الغرب إنّ قتل الوالد أمر أساسيّ للمضيّ قدمًا، وما فهمته أنّهم قد أشاروا بذلك إلى ضرورة تحطيم الأساطير البالية".

والأساطير في وطني كثيرة، سأُجْرِمُ اليوم في حقّ واحدة منها، ألا وهي "الأبوين".

فمنذ دقائق، قرأت خبر انتحار طفل لم يتجاوز ربيعه الحادي عشر.. تاركًا رسالة كتب فيها أنّه لم يعد يطيق رؤية والدته حزينة تبكي، وأنّه قرّر المغادرة باكرًا، ليجنّبهم المصاريف الّتي تتضاعف في هذه الفترة من كلّ سنة بفعل العودة المدرسيّة.

اقرأ/ي أيضًا: أجهضت طفلي.. أنقذته من الحياة!

ووددت، ما إن انتهيت من قراءة الخبر، لو اعترضت ـ رفقة ثلّة من المغول ـ طريق شابّ يملك بالكاد ما يكفيه قوت يومه، قرّر وبكلّ أنانيّة أن يتزوّج.. فَنُقَيّدَهُ إلى شجرة بإحدى الغابات، ونُضرم النّيران من حوله.. نتمتّع لبرهة بالنّظر إلى ملامح الرّعب تغزو سحنته، ونَسْكَرَ أمامه بدماء جثث دفنّاها سابقًا، ودقّات الطّبول، بالقرب منّا، تتسارع لتعلن في النّهاية أنّ وقت سلخ بشرته بسكاكين حافية قد حان.

ووددت لو دخلت وأصدقائي من عالم الجانّ، غرفة فتاة لم تبلغ بعد سنّ العشرين، لا قدرة لها على تحمّل أيّة مسؤوليّة، لكنّها لم تتردّد في القبول بأوّل رجل تقدّم لخطبتها، على أمل أن تتحرّر من القيود الّتي فُرِضت عليها من قبل عائلتها، رغم علمها بأنّ ما تشاهده من مسلسلات تركيّة ناطقة باللّهجة التّونسيّة لا يمتّ لواقعنا بصلة.

في البداية سنُحرّك الكراسيّ من حولها، فنطرب بصرخات الخوف الّتي ستُطلقها.. ومن ثمّ نرمي بها يمنة ويسرة إلى أن تسيل الدّماء من جمجمتها.. سيتمكّن أحدنا في تلك الأثناء من الولوج إلى جسدها، فنناوله سكّينًا يُقطِّعُ بها عنقها من الوريد إلى الوريد.. لنقرأ غدا في الصّفحات الأولى من الصّحف عن خبر "انتحارها".

ووددت لو منعتُ أبًا، سكرانًا، من أن يفتح باب منزله بعد ساعات قضّاها في إحدى الحانات.. واقتدتُهُ، قبل أن يُعنِّف زوجته أمام أبنائه، إلى كوخ بجبل "بوقرنين" مليء بأطفالٍ يلبسون أقنعة مهرّجين مخيفة، تمامًا كما في أفلام هوليود.. فيقهقهون عند رؤيته.. يُكبّلون يديه ورجليه، ويسقطونه أرضًا.. ثمّ يُمزِّقون بأسنانهم المتّسخة أمعاءه على أنغام عويله.

ووددت لو قطَعت لسان أمٍّ قبل أن تصرخ في أبنائها، بسبب كرهها لوالدهم، وتُشبّههم به وتحمّلهم أوزاره.. ووددت لو قسمتُ يدها إلى نصفين، قبل أن تهوي على خدّ صغيرها، لتشفي غليلها من جبروت زوجها.

ووددت لو هدّمتُ الجدران على رأسها قبل أن تعود ابنتها من المدرسة فتجدها وقد ربطت قماشًا حول رأسها وتمدّدت في غرفة مظلمة وملأت المنزل همًّا وغمًّا وكآبة، إثر شجار نشب بينها وبين شريكها.

أنت لا تعلم مالذي يعنيه أن تكون نتاجًا لزيجة فاشلة.. وأن ترتجف، كلّ يوم ولسنوات طويلة.. كلّما عاد والدك إلى المنزل

ووددت لو وجّهت خمسين طعنة إلى حنجرة أب يصرخ.. يهشّم كل ما يعترض طريقه.. يتوعّد زوجته ويهمّ بتعنيفها.. متجاهلًا توسّلات صغيره الّذي لم يُسعفه جسده على أن يحول بينهما وينهيَ الشّجار.

ووددت لو هشّمت رأس زوجة صفحت عن زوجها الّذي عنّفها، وقرَّرَت أن تتنازل عن الدّعوى الّتي رفعتها ضدّه، وعدلت عن قرارها الطّلاقَ منه، ليواصل كليهما تعذيب أطفال لا ذنب لهم سوى أنّهم نتيجة لزواج فاشل.

تشير السّاعة إلى السّابعة صباحًا:

"يقال إن ما يفكر به الإنسان خلال الساعات المتأخرة من الليل، وما يتفوه به، وما يتخذه من قرارات، مجرد أمان ووعود زائفة، تختفي مع بزوغ الشمس".

ووددت لو كنت مجرمًا.. لو كانت لي القدرة على فعل كلّ ما ذكرته..

لكنّني لست كذلك.. ها أنا الآن أرتجف، كما ارتجفت دائمًا، كلّما سمعت صوت مفتاح والدي حينما يعود من العمل ويهمّ بالدّخول إلى المنزل.. وأدعو بأن يمضي اليوم دون أن ينشب شجار جديد بينه وبين أمي. ماذا؟ هل تظنّ أنّني جبان..؟

لا تكن قاسيًا، فأنت لا تعلم ما الذي يعنيه أن تكون نتاجًا لزيجة فاشلة.. وأن ترتجف، كلّ يوم، ولسنوات طويلة.. كلّما عاد والدك إلى المنزل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في تونس.. أطفال لا يعرفون البحر

منها تونسية قتلت 6 من أبنائها.. قصص أمهات تحوّلن إلى سفّاحات