"ليس العرض مجرّد مجموعة من الصور، بل هو رابط اجتماعي بين أفراد يُقَدَّمُون من خلال هذه الصور"
(غي ديبور - "مجتمع الفرجة")
لم تحسن الثورة التونسية من أداء القنوات الإعلامية. فعلى الرغم من تجديد بعضها أسلوب العرض والديكور والحرية التي امتلكها البعض الآخر، وضخ كادرات شبابية فيها، إلا أن كل هذا لم يؤد فعليًا إلى الارتفاع بالمشهد الإعلامي التونسي. ولعل أبرز ما كان متوقعًا، من "إفرازات" ثورة الياسمين، التي أشعلها البوعزيزي، تكوين أرضية من الحريات، تضمن للقنوات المتلفزة والصحف على حدّ سواء، هامشًا ينهض بالقطاع الذي يبدو أنه لا يزال متأثرًا بخيبات الماضي وبذهنية "اليد الواحدة".
يعاني المشهد الإعلامي التونسي من الرداءة وانعدام الابتكار في برامجه
ويبدو الصراع القائم في "الهايكا"، وهي "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري"، معرقلًا لاستقامة الوضع الإعلامي. ولو افترضنا أنّ هذه الأخيرة تحاول بسط نفوذها وإعادة الرقابة ما أدى إلى وقوعها في الأخطاء، فإنّ بعض البرامج لا تستجيب لأدنى الشروط والقواعد الإعلاميّة، وهو ما يعدّ من أكثر الهفوات "الفادحة" التي تسقط فيها القنوات التلفزيونية.
ومن المعروف، أنّ أيّ برنامج تلفزيّ يتطلّب مجهودًا وبحثًا قبل عرضه سواء كان ذلك على مستوى الإعداد، أو الإخراج وصولًا إلى اختيار الضيوف. لكن يبدو أنّ برنامج "أمور جديّة"، على عكس المعمول به، يهمل كلّ هذه المراحل. إذ إنه مجرد نقل لفكرة برنامج فرنسي مشهور، بصيغة تونسية، إلا أنها بدت نسخة رديئة وفيها الكثير من التفاهة مقارنة بالبرنامج الأم.
اقرأ/ي أيضًا: صحفيو تونس.. صراع الحريات والإرهاب
البرنامج الذي أضيف إلى برمجة قناة الحوار التونسي، منذ أسابيع قليلة، يقدمه الإعلامي نوفل الورتاني مع مجموعة من الممثلين (باستثناء أستاذ الإعلام عبد القادر الجديدي) مع ضيف جديد في كلّ حلقة. والمتمعّن في "بلاتو" هذا البرنامج يلاحظ، منذ البداية، غياب الانسجام بين المقدمين أنفسهم، والفوضى في المرور من فقرة إلى أخرى. والحقيقة أنّ مهمّة التعليق على المستجدّات اليوميّة تعتبر مهمّة صعبة تتطلّب صحافيين مختصين في المجال، لذلك فإننا لا نفهم على أيّ أساس وقع الاختيار على مجموعة من الممثلين لا يمكنهم القيام بهذه المهمّة منهم مريم بن مامي، وبسام الحمراوي، ووصولًا إلى كريم الغربي.
ويبدو أن هذا الانتقاد يشمل الفريق، من هفوات يقعون بها أثناء محاولاتهم التعليق على الأحداث أو تحليل بعض مظاهرها للمشاهد، الذي صار لديه يقين جازم أن هذا البرنامج لن يقدم له جديدًا. على الرغم من تهافت الجمهور على المشاهدة. والتلفزيون، هنا، يتحوّل إلى وسيلة تكرّس مجموعة من الآليات للتّلاعب بالعقول وبالتالي يصبح خطرًا. وهو ما أوقع البرنامج في فخّ التركيز على الشّكل وإهمال المضمون.
استنساخ أسوأ البرامج الأجنبيّة وعرضها دون أيّ روح أو فكرة لا يمكنه تقديم أي إضافة ولو كانت نسب المشاهدة مرتفعة
فاستنساخ أسوأ البرامج الأجنبيّة وعرضها دون أيّ روح أو فكرة وراء ذلك، لا يمكّنه تقديم أي إضافة ولو كانت نسب المشاهدة مرتفعة لأنّ ذلك ليس مقياسًا. فالمشاهد، كما يوضّح غي ديبور في كتابه "مجتمع الفرجة"، يُعْجَبُ بما يشاهد ولا شاهد ما يعجبه، أي أنّ وسائل الإعلام تحتلّ مكانة خاصة وموقعًا حساسًا يخوّل لها صناعة الرأي العام وتوجيه اهتماماته.
وفي هذا السياق، يكون برنامج "أمور جديّة" بعيدًا عن المستوى المطلوب لكي يُصَنَّفَ كبرنامج ترفيهي، فهذا النوع من البرامج يتطلب جهدًا وبحثًا مضنيًا قبل الشروع في التّنفيذ. ولعلّ هذا التسرّع في تنفيذ فكرة البرنامج هو نتيجة للعجز عن تقديم أفكار جديدة للمشاهد والاكتفاء بالتّقليد مع ملء الفراغ والمبالغة في نشر التفاهات بحثًا عن نسب مشاهدة مرتفعة.
إنّ مثل هذه البرامج لا ترتقي إلى مستوى الإعلام العالمي. فمن اللّغة الخشبيّة قبل الثورة، مرّت القنوات التلفزيونية التونسية ببرامجها إلى مستوى آخر من الرداءة فتحوّلت إلى آلة لتسطيح المواضيع الهامة واستسهال الكوميديا بحثًا عن تحقيق الأرباح وطمعًا في ارتفاع عدد المشاهدين وهذا ما لا يساعد على تحسّن المستوى ويجعل الإعلام يحيد عن هدفه الرئيسي، الذي يتمثّل في إثراء وتقديم الإضافة للنقاش العام في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا:
الإعلام التونسي ونظرية "المؤامرة" العربية
تونس.. حرية الإعلام في خطر وتهديد بالإضراب العام