لماذا صارت الحركة الجهادية في تونس قويّة بعد سنة 2011، وخاصة الحركة التي اتخذت شكل منظمة "أنصار الشريعة" وعملت بعدها تحت لواء "الدولة الإسلامية"؟ عن هذا السؤال يحاول الباحث الأمريكي في العلوم السياسيّة، هارون زيلين، أن يجيب من خلال كتابه الذي صدر في شهر جانفي/كانون الثاني 2020 عن إصدارات جامعة كولومبيا بنيويورك تحت عنوان" Your sons at your service – Tunisia’s Missionaries of Jihad" وباللغة العربية "أبناؤكم في خدمتكم - دُعاة تونس إلى الجهاد".
اقرأ/ي أيضًا: عائلات "الدواعش".. نحن سجناء بلا محاكمة!
ظهور جيل ثالث من الجهاديين التونسيين بعد 2011
يفسّر زيلين أن الحركة الجهادية التي تطوّرت في تونس بعد سنة 2011، يقودها في الحقيقة جيل ثالث من الجهاديين التونسيين. إذ هناك جيلان سابقان، أوّلهما تكوّن من التونسيين الذين التحقوا بطالبان في أفغانستان أثناء الحرب الأمريكية ضد الاتحاد السوفياتي، والثاني تكوّن في العراق عند اجتياح الولايات المتحدة لبلاد ما بين الرافدين سنة 2003. ولقد وقع تواصل بين الجيلين ساهم في ظهور حركة جهادية تونسية. وازدادت هذه الحركة تطوّرًا بالتقائها في القارة الأوروبية بجهاديّين من أصول أخرى خلال السنوات التسعين ومطلع الألفية الثانية. وهكذا ظهرت بمرور الوقت جالية جهادية تونسية تدرّبت في مختلف بؤر التوتّر، مثل حرب البوسنة والعشرية السوداء بالجزائر في السنوات التسعين، وصارت جزءًا من الحركة الجهادية المعولمة.
يفسّر الباحث الأمريكي هارون زيلين أن الحركة الجهادية التي تطوّرت في تونس بعد سنة 2011 يقودها في الحقيقة جيل ثالث من الجهاديين التونسيين
ويقول زيلين إنّ المشروع الجهادي الذي ظهر في تونس بعد الثورة، إنّما تأسّس وخُطّط له خلال السنوات القليلة السابقة لسنة 2011 في السجون التونسيّة حيث كان يقبع عدد من الجهاديين من الجيلين الأوّل والثاني. ويصف الكاتب الأمريكي بالخطيئة الأصلية للثورة التونسية، إصدارَ عفو تشريعيّ في شهر فيفري/فبراير 2011 وإخلاء السجون احتفاءً بالحريّة، دون تفرقة بين أسباب سجن من أطلق سراحهم، ودون الانتباه إلى أنّ عددًا منهم كان يقضي حكمًا بالسجن بعد أن عاد من بؤر توتّر جهادية أو تمّ ترحيله من أوروبا بسبب انتماءاته الجهادية أيضًا.
ولقد وجد المشروع الجهادي حينذاك فضاء للنشاط علنًا، خاصّة وأنّ حزب النهضة الحاكم في تلك الفترة قد تعامل بخفّة، حسب تعبير زيلين، مع منظمة أنصار الشريعة. فهو يرى أنّ حزب النهضة كان ساذجًا من جهة، إذ خال نفسه قادرًا على جعل المنظّمة معتدلة، ومن جهة أخرى فقد استعمل منظّمة "أنصار الشريعة" كمكسب لدفع الخطاب ونقاش السياسيين نحو اليمين خاصة فيما يتعلّق بالمسألة الدينية وذلك خلال فترة تحرير الدستور الجديد للبلاد.
النشاط الجهادي بين الميداني والنظريّ
إلى غاية منع منظمة أنصار الشريعة في تونس في شهر أوت/أغسطس 2013 وتصنيفها كمنظمة إرهابيّة، قام هارون زيلين بتتبّع جميع منشوراتها على مواقع التواصل الاجتماعي وتحليلها، إلى جانب تحليل ما توصّل إليه من تتبّع ميداني لنشاطاتها في تونس. ويبيّن الباحث الأمريكي في العلوم السياسية أنّ الحركة الجهاديّة في العالم وفي داعش، قد أصبح لها منذ سنوات منظّرون من داخل المنظمة. وهم يعتمدون على النظريات التمرّدية لماو تسي تونغ أو لتشي غيفارا. ولذلك، تراهم مثلاً يعملون أوّلًا على اكتساح القرى التي هي عرضة أكثر من المدن إلى التهميش والتي قد تكون علاقتها بالدولة المركزية واهنة. وتتلخّص استراتيجيتهم في ثلاث مراحل على طريقة ماو تسي تونغ: أوّلًا مرحلة المضايقة والإنهاك، ثانيًا مرحلة إدارة التوحش وثالثًا مرحلة قوّة إنشاء الدولة.
اقرأ/ي أيضًا: "14 فردًا من عائلتي في سوريا": تونسية تروي لنا قصّتها
ولأنّ قيادات منظّمة أنصار الشريعة اعتبرت أنّه لا يمكن المرور مباشرة في تونس إلى المرحلة العنيفة لأنّه يجب أوّلًا استقطاب التونسيين إليهم، فقد وقع إعلان تونس كأرض دعوة. وانتهج الجهاديون بذلك في البداية نشاطًا يعتمد على الأعمال الخيرية والخيم الدعويّة، وعلى تقديم أنفسهم على أنّهم من أبناء تونس وأنّهم يريدون أن يقدّموا يد المساعدة للتونسيين الذين نستهم دولتهم.
لذلك، فإنّه من بين الجمعيات العديدة التي استندوا إليها في أعمالهم الخيريّة، كانت جمعيّة "أبي القاسم الزهراوي " تكتب على القمصان التي توزّعها أثناء نشاطاتها "أبناؤكم في خدمتكم"، وقد اتخذ زيلين من هذا الشعار عنوانًا لكتابه، وذلك في إشارة إلى أنّ مشروع الجهاديين هو في الحقيقة مشروع منافس للدولة التونسيّة.
قام هارون زيلين بتتبّع جميع منشورات "أنصار الشريعة" على مواقع التواصل الاجتماعي وتحليلها إلى جانب تحليل ما توصّل إليه من تتبّع ميداني لنشاطاتها في تونس
وسعيًا لضرب الخطاب التوعوي في الإعلام بخصوصهم، فقد كان الجهاديون يردّدون "اسمعوا منّا ولا تسمعوا عنّا"، متّهمين الإعلام بشيطنتهم وبأنّ من يتعرّف إليهم سوف يدرك أنهم ليسوا كما يوصفون. لكن مع منع منظّمة أنصار الشريعة في شهر أوت/أغسطس 2013، ظهرت النزعة العنيفة والأصيلة للمنظّمة إلى العيان. وبإعلان قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) سنة 2014، وقع العمل على نشر فكرة أنّ الشرفاء والصادقين من الدعاة يجب أن يقدموا إلى الشام. وبذلك تمّ تسفير عدد من التونسيين إلى سوريا.
وفي تنظيم "داعش"، يوضّح زيلين أنّ الجهاديين التونسيين وصلوا إلى وظائف قياديّة، وعُرفوا بأنّهم أكثر الجنسيات تطرّفًا وقسوة، حتّى أنّه قد كانت لهم المبادرة اللئيمة باختلاق طرق قتل جديدة شديدة الوحشيّة كأن يقع تسخين زيت تشحيم السيارات ثمّ رمي ضحاياهم فيه وهم أحياء. كما عُرف أيضًا عن التونسيين الملتحقين بـ"داعش" أنّهم من أكثر العناصر ممارسة للتكفير، إلى درجة أنّ ذلك تحوّل إلى إشكال بالنسبة لقيادات داعش نفسها. ويعزو زيلين هذا التطرّف الشديد إلى أنّه كان يُعهد إلى التونسيين بالذات بمهام التعذيب في "داعش". ويضيف أنّه قد كان للمذهب الحازمي تأثير على التونسيين، وهو مذهب شديد الوحشيّة كان لداعيته السعودي أحمد بن عمر الحازمي الفرصة لإلقاء عدة خطب في تونس، وإلى نسب ثلاثة مساجد إلى مذهبه.
مقاومة الإرهاب
انتهجت تونس في السنوات الأخيرة سياسة دوليّة تعاونيّة واسعة في مكافحة الإرهاب، أتت أكلها بطريقة ملحوظة إذ وقع إلى حدود سنة 2019 منع 27000 جهادي من السفر. ولقد قام الأمن التونسي بعدّة أعمال استباقيّة، كما تمّ العمل على نشر سياسة توعويّة بخطورة الإرهاب، كانت من بين ثمارها الهبّة الشعبيّة التي عرفتها مدينة بن قردان في الجنوب التونسي في يوم 8 مارس/آذار 2016، وقد كانت حسب تحليل هارون زيلين، بمثابة صفعة لتنظيم "داعش" الذي كان ينوي إقامة إمارة في الجنوب.
لا يخصص زيلين صفحات كثيرة للأسباب النفسيّة أو الاجتماعيّة لنموّ الإرهاب في تونس، فهو يذكر دوافع مختلفة ويجزم بأنّه لا يمكن لأيّ كان أن يختزل ظهور الإرهاب في سبب واحد وإن فعل فإنّ ذلك سيكون من باب المغالطة. ويذكر من بين هذه الدوافع، خيبة الأمل من الثورة التونسية، والتوق إلى تأسيس دولة الخلافة والرغبة في التوبة.
وفي النهاية، يختم زيلين كتابه بفصل عن وضع الحركة الجهادية في تونس اليوم وعن مستقبلها، ويقول إنها تراجعت بدرجة كبيرة لكنّها لا تزال أبرز ممّا كانت عليه قبل سنة 2011. ويحذّر الكاتب الأمريكي من مسألتين: أوّلهما أنّ وجود جهاديين تونسيين في بؤر توتّر جديدة مثل مالي حيث يتقلّدون مناصب قياديّة، يخلق مخاطر تكوين علاقات جهاديّة جديدة بينهم وبين آخرين في داخل البلاد. وثانيها أنّ السجون التونسيّة تزخر اليوم بسجناء بتهم إرهابيّة. ونظرًا إلى اكتظاظ السجون، فإنّ الكاتب يحذّر من إعادة سيناريو السنوات الأخيرة السابقة لسنة 2011 وسيطرة هؤلاء السجناء على آخرين من الحقّ العام واستقطابهم.
مسائل عديدة مطروحة متعلّقة بالإرهاب وأخرى مغيّبة
الكتاب عمل أكاديمي يزخر بالمعلومات والأسماء والتفاصيل الدقيقة ويتطرّق إلى مواضيع أخرى عديدة كعودة الجهاديين إلى تونس، وتوبة الإرهابيين بين الزيف والحقيقة، والمنافسة بين تنظيم القاعدة في شمال إفريقيا ومنظمة أنصار الشريعة، وتسفير النساء التونسيات إلى بؤر التوتّر والدور الذي لعبنه في "داعش". وجدير بالذكر أن هارون زيلين ينفي، حسب المعلومات والوثائق التي توفّرت لديه، أن تكون النساء التونسيات قد التحقن بداعش في إطار ما سُمّي بـ"جهاد النكاح"، وأن ذلك لا يعدو أن يكون سوى دعاية قد روّجت لها الحكومة التونسيّة.
يزخر كتاب ""أبناؤكم في خدمتكم - دُعاة تونس إلى الجهاد" بالمعلومات والأسماء والتفاصيل الدقيقة ويتطرّق إلى مواضيع أخرى عديدة كعودة الجهاديين إلى تونس
لكن، بالنسبة لكتاب يعتمد الدقّة والشمول منهجًا، فإنّه قد يتعجّب القارئ من شيئين: أوّلهما أن الكاتب، وهو الباحث في العلوم السياسية، لا يتعمّق أكثر في مسألة علاقات الجهاديين بالسياسيين التونسيين في الحكم ويكتفي بالتصريحات العامّة والصحفيّة لكلّ من الطرفين عن هذه العلاقة، لا سيّما وأنّ الكاتب يبيّن منذ الصفحات الأولى من مؤلَّفه أنّه مطّلع على عدة قواعد بيانية من ضمنها، قاعدة بيانات عالميّة تحتوي على جميع الأحكام القضائية المتعلّقة بالإرهاب في العالم، وقاعدة بيانية خاصّة بوزارة الداخلية التونسية وأنّه لا يمكن إغفال أنّ حريّة عمل وتنقّل الجهاديين في تونس قبل منع منظمة أنصار الشريعة، كانت تقتضي وجوبًا وجود تعاون على الأقلّ في عبور الحدود بين الجهاديين وبين من سهّل لهم ذلك. وربّما يكون هارون زيلين قد تلافى هذا الموضوع كي ينأى ببحثه الأكاديمي عن التجاذبات السياسية.
أمّا المسألة الثانية التي قد يعجب القارئ لغيابها من الكتاب، فهي مسألة تمويل الجهاديين التونسيين رغم أنه لا يخفى على أحد أن المال هو عصب الحرب. ولكن ورغم هذه النقائص، يبقى كتاب "Your sons at your service" أو "أبناؤكم في خدمتكم. دُعاة تونس إلى الجهاد" للباحث الأمريكي في العلوم السياسية هارون زيلين مبحثًا أكاديميًا يزخر بالمعلومات عن الإرهاب وجذوره وأطرافه في تونس.
اقرأ/ي أيضًا: