24-يناير-2023
 احتجاجات مظاهرات في تونس 2011

الموقف الدولي في مجمله لم يساعد تونس في انتقالها الديمقراطي بالقدر المرجو. وهو اليوم، بتعلّة انقسام قوى المعارضة وعجزها عن بناء مشترك، أقرب إلى مرافقة الانقلاب من إزاحته (صورة أرشيفية/Getty)

مقال رأي 

 

صارت "الأزمة" العبارة الأكثر دورانًا في وسائل الإعلام، وكثيرًا ما تلحق بها صفة "المركّبة" للإشارة إلى أزمة هيكلية يتداخل فيها الاقتصادي المالي بالاجتماعي السياسي. أزمة لم تعرفها دولة الاستقلال رغم حدّة المنعطفات التي عاشتها.

صارت "الأزمة" العبارة الأكثر دورانًا في وسائل الإعلام، وكثيرًا ما تلحق بها صفة "المركّبة" للإشارة إلى أزمة هيكلية يتداخل فيها الاقتصادي المالي بالاجتماعي السياسي

ولئن كان هناك شبه إجماع على أنّ الأزمة ضاربة بجذورها في مراحل الاستبداد وعلى صلة بعجز عشرية الانتقال على تحقيق أدنى المطالب الاجتماعية فإنّ ربطها بالانقلاب ودوره الرائد في تحويلها إلى نكبة وطنية صار قناعة عامة. إلاّ أن هذه القناعة لا تفضي إلى حلّ مجمع عليه وطنيًا ولا إلى أرضية مشتركة تساعد على الوصول إليه.

  • مستويات الأزمة

طرح انقلاب 25 جويلية نفسه تصحيحًا لمسار دام عشر سنوات باسم الثورة وباسم تحقيق أهدافها. وتبيّن منذ الإعلان الأوّل عما سُمّي بالإجراءات الاستثنائية بأنّ الأمر يتعلّق بهدم مسار، وأنّ عنوان التصحيح لا يعدو أن يكون تستُّرًا من منظومة قديمة عائدة لم تقبل بسقف الديمقراطية، ولم تساعد على تأسيس الاختيار الحر والمؤسسات المنتخبة والحكم الرشيد. وكانت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 ونتائجها السياسية المدويّة كافية لتكشف عن جانب من هذا التوجّه، وتُفصح عن فئات تنتسب إلى الحداثة والدولة المدنية بدأت ترى في الديمقراطية تهديدًا وجوديًا.

لذلك لم يعد الاحتكام إلى المبادئ الديمقراطية وما تمّ التواضع عليه من قواعد للتسيير المرحلي حقيقةً مسلّمًا بها. وتواصَل هذا الأمر حتّى بعد الانتهاء من المصادقة على دستور الجمهورية التونسية الجديد بأغلبية مطلقة داخل المجلس الوطني التأسيسي. وقد أتاحت ثلاث سنوات من الإعداد والصياغة مساهمةً غير مسبوقة من النخب السياسية والثقافية والأكاديميّة ومشاركةً لأوسع الفئات الشعبية في أعماق البلاد.

الأزمة كما نراها سياسية في عمقها. وتكشف هذه الطبيعة السياسية هشاشةَ الخلاصة التي سادت بعد 2014 ومفادها أن نجاح بلادنا في الانتقال السياسي لم يقابله نجاحٌ في الانتقال الاقتصادي

والأزمة كما نراها سياسية في عمقها. وتكشف هذه الطبيعة السياسية هشاشةَ الخلاصة التي سادت بعد 2014 ومفادها أن نجاح بلادنا في الانتقال السياسي لم يقابله نجاحٌ في الانتقال الاقتصادي. وسبق أن ناقشنا ضعف هذه الخلاصة، قبل الانقلاب، في أكثر من مناسبة. وكنا نشدّد على أنّ الانتقال الاقتصادي مشروط باستكمال الانتقال السياسي.

فلقد كان الانقلاب نتيجة هشاشة المسار السياسي وضعف مؤسساته بضعف الثقافة الديمقراطيّة، وهو اليوم غير قادر على تحقيق ما وعد به من تصحيح للمسار لعجزه عن إيقاف التدهور الشامل للدولة والاقتصاد بسبب سياساته الشعبوية.

يكاد المشهد اليوم يتكثّف في منازلة سياسية بين سلطة أمر واقع فاقدة لكل شرعية سياسية وبين معارضة يتّسع نطاقُها ولكنها لم تتوصّل إلى أرضية مشتركة تضع على قاعدتها حلاّ وطنيًا

وهذا ما جعل جلّ القوى التي ساندت الانقلاب تنفضّ من حول قيس سعيّد لتتأكّد عزلته الداخليّة والخارجية. ويكاد المشهد اليوم يتكثّف في منازلة سياسية بين سلطة أمر واقع فاقدة لكل شرعية سياسية وعرّت شعبويّتها المتخيّلة نسبةُ المشاركة الهزيلة والأشبه بالمقاطعة الشعبية الواسعة، وبين معارضة يتّسع نطاقُها ولكنها لم تتوصّل إلى أرضية مشتركة تضع على قاعدتها حلاّ وطنيًا يوقف الانقلاب وكوارثه المتلاحقة ويستأنف بناء الديمقراطية.

 

 

  • حالة التعفّن

من مفارقات المشهد السياسي في تونس تعدّد المبادرات دون إمكانية الاتفاق على إحداها. فصارت الأزمة أمام تعدد المبادرات أشبه بمريض لا يتفق على تشخيص حاله لا طبيبه الذي احتكر مداواته بدعوى أنه الأقدر على إنقاذه بعد فشل سابقيه ولا أطبّاؤه العديدون المحيطون به بعد تعكّر صحته وهم يحملون معهم وصفات علاجهم وما ارتأَوْه من أدوية. ولكنّ مواصلة جدالهم من حوله لم يُفْض إلى تخليصه من الطبيب المحتكِر للتطبّب، ولا إلى تشخيص مشترك للمرض، ولا إلى الدواء الملائم لحالته.

فالدولة وما بقي من مؤسساتها مختطفة من قبل الانقلاب العاجز عن التسيير وعن مواجهة الأزمة وعن إيقاف تدهورها واستفحالها. وفي ظل هذه الحقيقة عرف التضخم ارتفاعًا قياسيًا (صار برقمين حسب المختصّين)، وتفاقم عجز الميزانية وارتفعت نسبة البطالة ونسبة فائدة الدين الخارجي. ويمثّل توقّف كثير من منظومات الإنتاج أخطر تداعيات هذه الأزمة. فتونس التي غطّت حاجياتها وحاجيات ليبيا في ثورتها وعلى مدى سنوات حربها الأهلية، وغطّت جانبًا من حاجيات الشرق الجزائري تتلقّى اليوم مساعدات إغاثة من البلدين الشقيقين.

 

 

ويشير أكثر من خبير في الاقتصاد والاقتصاد السياسي إلى أنّ تونس تخرج من مرحلة تبعيّة مؤسساتها الاقتصاديّة ومنظوماتها الإنتاجيّة بسبب شراكاتها مع الجار الأوروبي خاصّة، إلى مرحلة استهداف مُمنهج لمنظومات الإنتاج هذه، وفي مقدّمتها منظومات الإنتاج الفلاحي. ويعتبر أهل الاختصاص أنّ التوريد عدوّ الإنتاج المحلّي في القطاع الفلاحي. وأنّ بعض لوبيات التوريد تجتهد في تعطيل منظومات الإنتاج وشلّها حتّى تجد متّسعًا للتوريد على حساب الإنتاج المحلّي.

تعرف منظومات الإنتاج في مختلف القطاعات المشاكل نفسها والاستهداف نفسه ومن شأن هذا الوضع أن يدفع بالأزمة إلى التعفّن والاقتصاد إلى الانهيار

ويجد الفلاحون الذين يؤمّنون حلقة الإنتاج والأمن الغذائي للبلاد صعوبات كبيرة من بينها ارتفاع كلفة المنتوجات الفلاحيّة نتيجة ارتفاع أسعار الأسمدة المورّدة بسبب انخفاض قيمة الدينار. وتعرف منظومات الإنتاج في مختلف القطاعات المشاكل نفسها والاستهداف نفسه. ومن شأن هذا الوضع أن يدفع بالأزمة إلى التعفّن والاقتصاد إلى الانهيار.       

وقد وجد هذا الاستهداف في عشريّة الانتقال المتعثّرة وما كان فيها من استحالة للاستقرار الحكومي والسياسي مقدّماته الملائمة. ومع الانقلاب اجتمعت الشروط الأمثل ليصل الاستهداف ذروته. وظهرت نتائجه في ندرة المواد الأساسيّة غير المسبوقة من السوق. وتأتي ميزانيّة 2023 الافتراضيّة إلى جانب الوجه الجبائي الغالب عليها لتزيد من تدهور صورة تونس في السوق الماليّة ورهن مستقبلها الاقتصادي. 

  • تعدّد المبادرات

في مواجهة هذه الأزمة الشاملة بوجهيها السياسي الاجتماعي والمالي الاقتصادي تعدّدت المبادرات السياسية. ويشير هذا التعدّد إلى إجماع ضمني على فشل حركة الانقلاب الذريع واتفاق واسع على خطورة الأزمة وضرورة مواجهة أسبابها وفي مقدّمتها الانقلاب، رغم أنّ الإجماع الحاصل على رحيل الانقلاب لا يقابله إجماع على استئناف الديمقراطيّة. فليس كل من يعارض سعيّد يدافع عن الديمقراطية.

الإجماع الحاصل على رحيل الانقلاب لا يقابله إجماع على استئناف الديمقراطيّة. فليس كل من يعارض سعيّد يدافع عن الديمقراطيّة

ويمكن أن نصنّف هذه المبادرات بالاعتماد على مرجعيتها الدستورية وسقفها السياسي وهوية المتقدّمين بها إلى صنفين:

  • الصنف الأول منظماتي يستظل بسقف 25 جويلية وعلى رأسه الاتحاد العام التونسي للشغل. ولا يتوقّع أن تجد مبادرة الاتحاد ورابطة حقوق الإنسان وعمادة المحامين التي لم تتوضّح ملامحها بعد من قيس سعيّد غير التجاهل. فقد سبق له أن رفض دعوة الاتحاد إلى حوار وطني قبل 25 جويلية. ورفض بحدّة كل إسناد حزبي. فللرجل أجندته الخاصة ومشروعه الذي لا تراجع عنه. ولا يرى في المشهد السياسي شربكًا له فيه.
  • واتحاد الشغل، الذي لم يستسغ التحولات التي عرفتها البلاد منذ 2013 وتبدّل طبيعة الأزمة وتغير هوية الفاعلين فيها، لا يجد القدرة على تلافي هشاشة وضعه القيادي وما يشقّه من خلافات حادّة يكثفها منحى الأمين العام في التصعيد الخطابي الأجوف من جهة، وتصريحات الأمين العام المساعد المكلف بالشؤون القانونية الرافضة للأحزاب والملحة على سقف 25 جويلية للمبادرة المنتظرة، من جهة أخرى.
  • والصنف الثاني حزبي سياسي، وهو بدوره يتراوح بين سقف 25 جويلية وسقف دستور 2014. وأغلب هذه المبادرات لا تزال حديث المجالس الخاصة، باستثناء مقترح جبهة الخلاص الوطني التي طالبت فيه قيس سعيّد بالاستقالة، بعد الإعلان عن نسبة المشاركة المتدنية في انتخابات 17 ديسمبر 2022. واقترحت تكليف قاض سام بمهمات رئيس الجمهورية مؤقتًا يُعِدّ لانتخابات رئاسية يتولّى بموجبها رئيس الجمهورية المنتخب إدارة حوار وطني بأفق إصلاحات كبرى في السياسة والاقتصاد.

ما رشح من مبادرات في تونس يُشير إلى غلَبة التوجّه إلى النظام الرئاسي عليها، وفي ذلك تقييم للنظام شبه البرلماني السابق وتحميله جانًبا مهمًّا من المسؤوليّة على تعثّر الانتقال وعجز الديمقراطية عن الأدنى الاجتماعي

ويشار إلى مبادرة، تُنسب إلى الأمين العام لحزب آفاق تونس (حزب ليبرالي قريب من فرنسا)، وقد عبّر عنها في الأسبوع الفارط في بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. وهي مبادرة تتخذ من دستور قيس سعيّد مرجعية، مع التشديد على إدخال تنقيحات جوهريّة عليه منها حذف الغرفة الثانية من المجلس وتحديد صلاحيات رئيس الجمهوريّة وتأكيد دور مجلس نواب الشعب التشريعي والرقابي. وعبّر صاحب المبادرة عن  الاستعداد لإجراء استفتاء بين النصوص الدستوريّة المختلفة (59، 14، 22) إذا استحال الإجماع على أحدها.

ومن اللافت أنّ ما رشح من مبادرات يُشير إلى غلَبة التوجّه إلى النظام الرئاسي عليها، وفي ذلك تقييم للنظام شبه البرلماني السابق وتحميله جانبًا مهمًّا من المسؤوليّة على تعثّر الانتقال وعجز الديمقراطيّة عن الأدنى الاجتماعي.

هناك إجماع على خطورة الوضع الذي بلغته البلاد من ناحية والحاجة إلى الإنقاذ من ناحية أخرى، وبداية ظهور تحولات مهمّة نحو إمكانيّة اللقاء على مشترك

هذه عيّنات ممّا صار يعرف بالمبادرات السياسيّة في تونس، وهي فعلًا متعدّدة رغم تعذّر الوصول ولو إلى مقدّمات للخروج من الأزمة. غير أنّ الوجه الآخر لكثرة المبادرات الإجماع على خطورة الوضع الذي بلغته البلاد من ناحية والحاجة إلى الإنقاذ من ناحية أخرى، وبداية ظهور تحولات مهمّة نحو إمكانيّة اللقاء على مشترك، وكان إحياء الذكرى الثانية عشرة للثورة في شارع الثورة من قبل قوى المعارضة المتفقة على رحيل سعيّد والمختلفة على كيفيّته مظهرًا من مظاهره البارزة.  

وعلى أهميّة هذه المبادرات فإنّ أغلبها لم يكن بمعزل عن القوى الإقليمية والدولية المعنيّة بتونس وفي مقدّمتها فرنسا التي لم تكن يومًا من أصدقاء بناء الديمقراطية في مستعمرتها القديمة. وبصفة عامّة فإنّ الموقف الدولي في مجمله لم يساعد تونس في انتقالها الديمقراطي بالقدر المرجو. وهو اليوم، بتعلّة انقسام قوى المعارضة وعجزها عن بناء مشترك، أقرب إلى مرافقة الانقلاب من إزاحته. ولكن للحركة الاجتماعيّة والتحولات السياسيّة مفاجآتها المربكة وأهدافها المخفيّة. والذي لا خلاف فيه أنّ الانقلاب قد استنفذ أغراضه، وأبان عن أنّه جزء من الانتقال الديمقراطي وعقبة طارئة، وأنّ إغلاق قوسه سيرتبط باستعادة الديمقراطيّة باعتبارها شرط التنمية والسيادة.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"