17-أكتوبر-2022
لوحة لزبير التركي

قصة "يعقوب" الذي تنقل من روسيا لتونس في القرن 19 ليبعث ماركته الخاصة من براندي التين "البوخة" (لوحة للفنان زبير التركي وظف فيها مشروب البوخة)

 

إنها بدايات القرن التاسع عشر. ما زال العالم محافظًا على أسطوريته، يبدو غامضًا ومدهشًا ومرعبًا  في بعض المناطق وساحرًا وآسرًا في مناطق أخرى. ما زالت شعوب أمّنا الأرض على سجيتها الأولى ومداراتها الثقافية القديمة قبل حلول المكننة. وما زالت تسير على نفس الدروب، درب للحرير ودرب للتوابل وآخر للذهب. أما أحلام الإنسان في تلك الأزمنة القصية  فقد كانت تتدلى من السماء وتنضج مع النجوم وتطل من الشرفات كالأميرات ويمكن قطفها على ضوء القمر والطيران معها إلى الأبدية. لقد كان الإنسان صديقًا للريح تحمله أينما شاء.

 مع نهايات شهر أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1819 كانت روسيا تستعد كعادتها لشتاء طويل وثقيل، كان الشاب "يعقوب بوخبزة" يقف على ناصية محطة القطارات الكبرى بموسكو ومعه زوجته "إيلينا" وابنه البكر "شالوم"، وضع حقائبه السوداء على الرصيف وأقفل كامل أزرار معطفه البني الطويل بعد أن لفحته النسمات القطبية الباردة، نظر نظرة أخيرة على قصور"الكرملين" المطلة شرقًا على "ساحة الكراسنا" التي أصبحت تسمى الساحة الحمراء بعد الثورة البلشفية سنة 1917. واندلف وعائلته نحو المحطة وامتطى القطار المتوجه نحو غرب القارة الأوروبية.

كان حلم "يعقوب بوخبزة" بأن يصبح مقطرًا لبراندي وأن يسجل ماركة خاصة به  لكن الطقس البارد في روسيا حال دون حلمه بتقطير فاكهة التّين لذلك اتخذ تونس وجهة لتحقيق حلمه

كانت وجهة "يعقوب بوخبزة" هي مدينة مرسيليا الفرنسية، ثم عبر الباخرة إلى  تونس تلك الإيالة العثمانية المطلة على "المياه الدافئة" وهي التسمية الروسية للبحر الأبيض المتوسط.

كان "يعقوب بوخبزة" قد نشأ مع عائلته وسط الجماعة اليهودية غرب روسيا القيصرية والتي كان جزء واسع منها يشتغل بنظام "الأرند" وهو استئجار الضرائب من النبلاء وكبار الفلاحين والمطاحن والغابات والحانات. لكن يعقوب ولع كغيره من الشباب اليهودي في ذلك الوقت بتقطير الخمور وبيعها لمُلّاك الحانات والمطاعم والفنادق الفخمة. لقد كان يغريه تقطير  "البراندي" فتعلم تلك الحرفة من أجداده وأعمامه وبرع فيها. لقد كانت "الفودكا" المستخرجة من البطاطا والحبوب والقوارص. براندي يهودي راج في الأوساط  الفلاحية ثم تحول فيما بعد إلى المدن.

ومع اعتلاء "ألكسندر الأول" عرش روسيا سنة 1801 وإصداره سنة 1804 ما عرف في ذلك الوقت بدستور اليهود على أراضي روسيا والذي منحهم العديد من الامتيازات التي تهم التجارة والملكية وفتح المدارس الخاصة بهم وتمكين الحاخامات من إدارة الشؤون الدينية بدل "الهقال" وممارسة الحق الانتخابي. انفرجت الحدود وكسرت بعض القيود التي كانت تعيق حرية يهود روسيا.

في الأثناء كبر حلم الشاب يعقوب بأن يصبح مقطرًا لبراندي وأن يسجل ماركة خاصة به  لكن الطقس والمناخ البارد في روسيا حال دون حلمه بتقطير فاكهة التّين لذلك. لقد جرّب ذلك ونجح نجاحًا باهرًا وكان مذاق البراندي المقطر من التين مدهشًا واستثنائيًا، لم يخبر يعقوب أحدًا بقراره الرحيل رغم محاولات ثنيه عن ذلك من قبل والديه فقرر حزم حقائبه وعزم مع عائلته الصغيرة التوجه لأحد بلدان التين، هناك حيث المياه الدافئة وحيث اليهود يهنؤون بالعيش المشترك مع المسلمين في عهد محمد باي بن حمودة الحسيني الذي حكم تونس من 1814 إلى 1824.

حلّ يعقوب بتونس في 1819 وأجرى اتصالات مع يهود تونس وعرض مشروعه وبسؤاله عن الأراضي الخصبة بتونس والصالحة لزراعة التين قيل له توجه نحو "الوطن القبلي"

قضى "يعقوب" وعائلته أربع ليال بأحد الفنادق الصغيرة قبالة ميناء مرسيليا القديم. وفي الليلة الأخيرة كان جالسًا في الشرفة وقد اشتد به السهر، ينظر إلى السفينة  الفرنسية "كريستو" ذات الأشرعة والسواري الطويلة الراسية ليس بعيدًا بالميناء والتي تستعد فجر اليوم الموالي لقطع البحر الأبيض المتوسط في اتجاه تونس.

بعد إتمام إجراءات ركوب السفينة وحجز غرفة صغيرة بطابقها السفلي ومغادرتها الميناء ومواجهتها الأمواج والعباب بكل قوة، خرج الشاب الحالم والمغامر إلى السطح متوجهًا نحو مقدمة السفينة، اتكأ على الحاجز الخشبي، كانت الشمس منسابة على الأديم تمنح الرحلة بعض الدفء وبعض الهدوء، نسمات البحر الطرية  تغمر حضوره وتداعب طرف ياقته التي تطل من خلف أزرار معطفه البني، تتزاحم الهواجس برأسه وتهيج ذكريات روسيا، لكنه يكبح كل تلك العواطف والخيالات ويعد نفسه بالعودة إلى أراضي الأجداد بعد  جمع الثروة من تونس.

بعد رحلة بحرية دامت ثلاثة أيام وصل "يعقوب بوخبزة" ميناء تونس مع بدايات شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1819. كان الهواء عليلًا طيبًا، تنفسه بعمق وكان هو أول ما شده لهذه الأرض. استقلّ "كرّيطة" يجرها حصان ( بمثابة التاكسي) حملته نحو فندق بالحي الأوروبي المتاخم لمدينة تونس العتيقة ليقضي بضعة أيام للراحة ومن ثمة استكشاف المكان. كما أجرى خلالها اتصالات متواصلة مع يهود تونس وعرض مشروعه دون إفشاء أسرار الحلم الكبير. وبسؤاله عن الأراضي الخصبة بتونس والصالحة لفلاحة شجر التين، قيل له توجه نحو "الوطن القبلي" (ولاية نابل حاليًا) وعند زيارته لسهول منطقة "بوعرقوب" حسم أمره وتيقن بأن هذه الأرض هي التي ستحقق حلمه. تواصل مع بعض المزارعين وأغراهم بالمال بأن يكثروا من زراعة شجر التين وهو ما حصل فعلًا. 

لم يكن تقطير البراندي من التين متداولًا كثيرًا إذ نجد بعض المحاولات بألمانيا والتي أثمرت براندي "الشنباس" وبالمكسيك التي أنتجت براندي "التيكيلا"، وهو الدرب الذي سار فيه "يعقوب بوخبزة" في تونس

بدأ "يعقوب بوخبزة" أولى تجاربه في تقطير "براندي" التين. وبدأت ملامح النجاح تلوح في الأفق واتضح الدرب أمام حلمه. والبراندي هو مشروب كحولي قديم قدم الإنسان نجد له صدى لدى الأمم القديمة ويعتمد تقنية التقطير ومن ثمة تعتيقه لسنوات عديدة وتصل نسبة الكحول فيه بين 35 و60 بالمائة. وكلمة "براندي" مشتقة من الكلمة الهولندية "برانديفاين" وتعني النبيذ المحروق.

ولعل أشهر أنواع البراندي هي: "الكونياك" المقطر من العنب دون غيره وهو المشروب الرسمي للعائلة المالكة في تونس قبل الاستقلال. وأيضًا "الويسكي" بجميع تشكيلاته وهو رائج بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ويتم تقطيره أساسًا من الذرة والشعير والقمح وعدة حبوب أخرى. و"الفودكا" الروسية المقطرة من البطاطا وبعض أنواع القوارص. و"الساكي" الياباني المقطر من الأرز. وكانت تلك الشركات تبتذل أحيانًا ماركاتها ومنتوجها الرفيع  بتلوين المشروب بلون الكارميل وعدم تعتيقه، وذلك في إطار التنافس فيما بينها من أجل الكسب السريع وهو تقريبًا ما يحصل إلى اليوم.

أما تقطير البراندي من فاكهة التين فلم يكن متداولًا بشكل كبير إذ نجد بعض المحاولات بألمانيا والتي أثمرت براندي "الشنباس" وبالمكسيك التي أنتجت براندي "التيكيلا"، وهو الدرب الذي سار فيه "يعقوب بوخبزة" في تونس من أجل الحلم  ببعث العلامة الخاصة به.

منذ سنة 1820 بدأت القوارير الأولى في الظهور، وقد سماها في البداية "فودكا" إلا أنه سرعان ما راجع التسمية وحولها إلى "البوخة" وقد اشتق التسمية من اسم العائلة

ومنذ سنة 1820 بدأت القوارير الأولى في الظهور. وقد سماها في البداية "فودكا" وكتبت على القوارير الأولى باللغة الروسية وهو ما اعتبره المؤرخون شكلًا من أشكال الحنين إلى أرض الأجداد روسيا. إلا أنه سرعان ما راجع التسمية وحولها إلى "البوخة" وقد اشتق التسمية من اسم العائلة وحددت العلامة نهائيًا.

وفي الأثناء كان يعقوب بوخبزة حريصًا على الضبط النهائي للعملية الكيميائية لمنتوجه وتعليم ابنيه "شالوم" و"ليون" لتلك التقنيات الدقيقة التي تحول التين التونسي إلى براندي فاخر يسافر إلى كل الدنيا، وقد استمرت تلك الفترة من 1820 إلى 1860.

سنة 1870 كانت سنة فارقة في تاريخ هذه المغامرة، إذ أقدم "إبراهام بوخبزة" حفيد يعقوب وابن "شالوم" على بعث شركة منتجة وإنشاء مصنع عصري لتقطير "البوخة" بجهة بوعرقوب على أرض كان الجد قد اقتناها منذ سنوات الهجرة الأولى. وبعد عشر سنوات أخرى افتتح "إبراهام" مصنعًا جديدًا أكثر عصرية بجهة "سكرة" وهي منطقة فلاحية توجد بالضاحية الشمالية للعاصمة. وهذه المصانع ما تزال موجودة إلى اليوم وتنتج ولها أسواقها في العالم.

تلك الطفرة الصناعية جعلت من براندي "البوخة" المشروب الكحولي الأكثر شعبية والأكثر مبيعًا في تونس. فنجده على طاولات المطاعم الفاخرة وبالحانات الشعبية. كما غزا كامل أوروبا عن طريق العائلات اليهودية المستقرة هناك.

تحول براندي "البوخة" المشروب الكحولي الأكثر شعبية والأكثر مبيعًا في تونس فنجده في المطاعم الفاخرة والحانات الشعبية، كما غزا أوروبا عن طريق العائلات اليهودية المستقرة هناك

ومعروف لدى عامة التونسيين أن "البوخة" تشرب "كريروا" (أي دفعة واحدة وبدون انقطاع) وقد أدمجت كلمة "بوخة" في الأدب  التونسي فنجد لها توظيفًا بالرواية والقصة والشعر والمسرح والرسم، وأيضًا بالأغاني الشعبية. كما شاهدنا تلك القارورة الشهيرة بعدة مشاهد بالسينما التونسية. أما كلمة "ويتيام بوخة" فهي تستعمل بكثرة في المقول اليومي التونسي في البارات والخمارات والمقاصف والمقصود بها هو قارورة البوخة ذات سعة ثُمن لتر.  

وقد أنتجت هذه العلامة التونسية الشهيرة عدة أنواع من "البوخة" التونسية وفي إطار منهج تسويقي خاص كانت هناك منتوجات موجهة لبعض الجهات بعينها، فنجد "بوخة زانا" بسوسة والمنستير (الساحل التونسي) و"بوخة عصفور" و"بوخة تاليفون" و"بوخة سولاي"، بجزيرة جربة بالجنوب التونسي حيث يوجد أكبر تجمع لليهود التونسيين. 

استمرت سلالة "يعقوب بوخبزة" الأب الروحي والمؤسس لهذه العلامة عن طريقة عائلات يهودية تونسية: "فيليكس" و"بسيس" و"الطرابلسي"، التي تجمع فيما بينها علاقات دموية ومصاهرة. وتواصل معهم الحلم الكبير لجدهم الذي جعل من البراندي التونسي منافسًا قويًا لكل العلامات التجارية العالمية المختصة في المشروبات الروحية. 

لم يعد "يعقوب بوخبزة" إلى روسيا وتوفي ودفن بتونس، لكنه في النهاية كتب سرديته كإنسان وحقق أسطورته الصغيرة التي رواها التاريخ من بعده وجعلها درسًا ملحميًا للأجيال.

 

  • المصادر: 

- مقالات للصحفي المختص في التاريخ الثقافي ليهود تونس حاتم بوريال: 

Installation: Quand les arts visuels s’emparent de la boukha tunisienne

Un bon huitième de Boukha pour étancher toutes les soifs 

Nostalgies : Connaissez-vous la boukha Ktorza 

La Boukha Djerbienne de Houita Kabla

- موقع متحف جربة