مقال رأي
بقدر ما كانت دعوة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي للمساواة المطلقة في الميراث بين المرأة والرجل من نفس المرتبة مباغتة من حيث توقيتها وغياب ممهدّاتها، فإنها لم تكن مباغتة من حيث طرح الشخص السؤال على نفسه ليتخذ موقفًا من مسألة مستفزّة ومثيرة في نفس الوقت.
قواعد الميراث في تونس مرتبطة بمنظومة متكاملة من توزيع الحقوق والواجبات في الأسرة وغير منعزلة، وعلى رأسها واجب النفقة على الزوج
هو سؤال غير مباغت، بهذا المعنى، لأنه من المؤكد أن أي دارس للقانون قد طرحه على نفسه يومًا حينما درس قانون المواريث وقانون الأحوال الشخصية وكذلك القانون الدولي الخاص، وعلى الأرجح أن هناك من حسم موقفه، وهناك من لم يحسم. وصراحة موقفي من هذه المسألة "المستفزّة" محدّد منذ زمن وهو اختصارًا: ضدّ فرض نظام إجباري يغيّر جوهريًا من نظام توزيع الإرث المستمدّ من الفقه الإسلامي، وهو المصدر المادي لأحكام الميراث في القانون التونسي.
فقواعد الميراث مرتبطة بمنظومة متكاملة من توزيع الحقوق والواجبات في الأسرة وغير منعزلة، وعلى رأسها واجب النفقة على الزوج. حيث وإن أقرّ القانون التونسي إمكانية مساهمة الزوجة دون رجوع على الأسرة، وهي ميزة له مقارنة بالقوانين العربية، فإن هذه المساهمة محدّدة أولاً من حيث طبيعتها فهي مساهمة أي أنها ثانوية على سبيل المساعدة، وثانيًا من حيث إلزاميتها فهي غير ملزمة للزوجة إذ لا تعفي الزوج من واجبه. إضافة لذلك، فهي مشترطة فقط في حال إن كان للزوجة مال، وهذه نقطة اختلاف عن الزوج الملزم بالإنفاق على زوجته ولو كان معسرًا، ولذلك إعساره يمنح الزوجة حق المطالبة بالطلاق.
ولكن، القانون التونسي ضيّق تباعًا من فاعلية العنصر المالي في مرحلة إبرام الزواج وبعده على خلاف الفقه الإسلامي. فمثلًا في الفقه، لا إقرار لمساهمة الزوجة في النفقة سواء على نفسها أو على الأسرة دون رجوع، فيما يتسع مجال النفقة على الزوج على غرار إلزامه لدى بعض المذاهب بتوفير خادمة إن كان لها خادمة سابقًا.
ولا ينصّ القانون التونسي على الصداق المؤخر حين إبرام العقد، كما إن المهر هو عنصر مالي رمزي وهذه الصفة الرمزية في الواقع سابقة للنص القانوني. غير أن هذه الاختلافات لا تمسّ جوهريًا من الأثر الجوهري للزواج وهو واجب النفقة على الزوج. وللإضافة في هذا الجانب، تلزم بعض المذاهب الأخ النفقة على أخته العزباء بعد أبيها في حين أنه في القانون التونسي لا نفقة بالقرابة إلا للأصول والفروع. من المهمّ دائمًا أن ننظر للأحكام في كليّتها.
السؤال: هل من تعديل بصيغ اختيارية لنظام الميراث في القانون التونسي؟
يوجد مقترحان لنظام اختياري للمساواة من نفس المرتبة:
1 - نظام أول يجعل المساواة هي الأصل ولكن يمكن أن يتفق الورثة على عدم المساواة، وهذا عنوان مشروع قانون قدمه السنة الفارطة النائب المهدي بن غربية والذي يشغل اليوم خطة وزير العلاقات مع المؤسسات الدستورية والمجتمع المدني. وهذا النظام يطرح عديد النقاط المثيرة على غرار أن المسألة بيد الورثة لا المورّث. كما يُطرح السؤال، هل يجبر الوارث على المساواة وهو غير قابل أي مدى تفكيك عنصر الرضائية وآثارها. ويُطرح السؤال كذلك حول الأمان القانوني وهو أحد أهداف فلسفة القانون.
2 - نظام ثانٍ يجعل المساواة هي الخيار مع الإبقاء على النظام الحالي كقاعدة عامة، والخيار يكون للمورث في حياته وليس للورثة. يثير هذا النظام بدوره عديد الأسئلة حول صورة رفض الوارث إبناً أو بنتًا خيار والدهم في المساواة، وإذا ما يفترض هذا النظام رضاء المورث فقط أم يُضاف الورثة؟ في هذا الجانب، نشير إلى أن نظام الاشتراك الاختياري في الملكية بين الزوجين المعتمد في القانون التونسي خلف مشاكل أصلية وإجرائية فما بالك بالاختيار يشمل ورثة في كل الأصول الموروثة وليس في بعضها فقط. إضافة وأن هاجس الأمان القانوني يطرح نفسه دائمًا.
يمكن تجاوز نظام توزيع الإرث الحالي في تونس قبل وفاة المورث بتوزيع الإرث عبر البيع أو الهبة أو الوصية لغير وارث
للتذكير، يمكن تجاوز نظام توزيع الإرث الحالي قبل وفاة المورث بتوزيع الإرث عبر البيع أو الهبة أو الوصية لغير وارث. وعليه ببساطة يمكن إهمال النظام الحالي بصفة إرادية مسبقًا بين المورث وورثته، ولذلك أليس من باب أولى وأحرى، بل وأصدق أن يبادر دعاة المساواة المطلقة بين الجنسين في الإرث لتطبيقها عبر هذه الآليات المتوفرة حاليًا. فالباب مُشرع دائمًا. بل ألا يكون القانون يشجّع في الحقيقة نحو هذا الخيار بما أنه يعطي تعريفات ضريبية رمزية استثنائية بالنسبة لعمليات الإحالة بين الأصول والفروع؟
ومن المهم دائمًا أن نؤكد أن الحديث هو عن المساواة من نفس المرتبة وليس على إطلاقه، فالمرأة ترث أكثر من الرجل في عديد الحالات. ولذلك يجب الاطلاع على قواعد الميراث على الأقل قبل الغوص والحكم دون الحد الأدنى من المعرفة.
ماذا عن النص الديني؟ إن قواعد الميراث هي قطعية النص، والدين هو إيماني بطبعه. من المهمّ دائمًا ألا نتغافل عن هذه الميزة للنص الديني، لكن ببساطة لا يحقّ لي فرض قراءة مغايرة على المسلم الآخر أي الذي يعتقد بقابلية تجاوز النصّ. ولكن في هذا الجانب، لا يُنصح بالقول إن النص الديني دائماً قابل لإعادة التأويل عبر الزمن ويعود صاحبه لمسألة منع الرق في تونس في القرن 19 أو منع تعدد الزوجات منتصف القرن الماضي، فقبل الغوص في هذا المبحث، يجب مراجعة سريعة للفقه وأصوله والتمييز بين الأحكام الدينية وبين الواجب والإباحة إلخ، فالاجتهاد حقّ ولكنه حق غير مطلق. ببساطة، دعونا نتذكر أن جوهر الدين إيمان على الأقل بمعنى أن التعسف قاتل في غير موضعه.
هناك نقطة مستفزّة في سياق دعوة السبسي وهي وجود دعوة سابقة من الاتحاد الأوروبي لاعتماد المساواة المطلقة بين الجنسين في الإرث، وهي دعوة من قبيل الوصاية، فيُخشى أن تكون دعوة السبسي هي استجابة لدعوة الآخر. فلتكن المبادرة على الأقل نقيّة خالصة بعيدة عن شبهة الوصاية.
هناك دعوة سابقة من الاتحاد الأوروبي لاعتماد المساواة المطلقة بين الجنسين في الإرث في تونس فهل تكون دعوة السبسي من قبيل الاستجابة
ماذا عن الاستقرار السياسي والمجتمعي؟ إن الحسم في مسائل خلافية ليست محل إجماع وليست ذات أولوية في مراحل الانتقال هي مجازفة خطيرة ومهددة للأمان المجتمعي وقد تزيد من التوتر السياسي والاحتقان الإيديولوجي. على خلاف ذلك، هذه الخصوصية بالنسبة للعديد فرصة متاحة يجب اقتناصها، فلا تغيير إلا بالمباغتة عندهم.
المحكمة الدستورية وتأويل الدستور؟ هذه نقطة جوهرية. بعيدًا عن الإصلاحات الفوقية المنبتّة، يجب فسح المجال لفقه القضاء ليتطوّر بحسب تفاعل المجتمع ومؤسساته. إن منع تعدد الزوجات، وهو منع رخصة، سبقته أرضية تطبيقية وتأسيس فقهي، أفلا نتمهل على الأقل في مسألة كما المساواة في الميراث والمناخ العام غير متحمّس حسب آخر عمليات سبر الآراء، إضافة وأن التغيير يعوزه إسناد فقهي.
في هذا الجانب، مثل بيان دار الإفتاء التونسية الذي يقطر تزلًفا للسلطة وصمة عار. قبل سنة، أعلن المفتي عثمان بطيخ رفضه تغيير قواعد الميراث، واليوم أعلن مباركته لدعوة السبسي. أي شرعية لهكذا مفتي يغيّر موقفه بحسب هوى السلطة؟ سيضرّ هذا المفتي أصحاب المبادرة أكثر ممّا سيفيدهم، ومن العيب أن يكون لتونس مفتي مثله لأنه لا تتوفر فيه المعايير الجديّة للإفتاء ولا وزنًا فقهيًا له بين شيوخ تونس. هو ليس الشيخ جعيط وليس الشيخ بن عاشور، هو كما يسخر التونسيون مفتي الهلال لا يعطي موقفًا إلا حول تاريخ رمضان والأعياد، وهو الذي كان كذلك مفتي البلاد زمن بن علي.
يسأل البعض، في جانب آخر، ماذا عن الدولة المدنية والدينية؟ في الواقع، من يطرح هذا السؤال كخيار لازم محدّد بحسب موقفك من المساواة في الإرث فهو مغالطي، ذلك أن مدنية الدولة لا تتعارض مع القيم الدينية في مفهوم المدنية وفي حكم التاريخ. ومن المهم ألا ننسى بأن الدستور توائمي لا تصادمي.
بأكثر كثافة، أؤيد إطلاق حوار مجتمعي قانوني ديني واسع، فاللجنة التي كوّنها السبسي لا تصلح ولا تضمّ رجال ثقاة وأصحاب وزن في المجتمع، وهو ما جعل حركة النهضة تعلن تحفظها على تركيبتها منذ البداية. فمن المهمّ إطلاق حوار أفقي شامل للتفاعل وتبادل الآراء والتقديرات بعيدًا عن ضغط الحسابات السياسية والإيديولوجية والانتخابية، فليأخذ هذا الحوار وقته تفاعلاً دون إقصاء لأي طرف، لينتهي بتقديم ورقة تفصيلية تقييمية جامعة لمسألة الميراث في إطار فلسفة الأحوال الشخصية، ويمكن أن تُرفق الورقة بمشروع قانون لنظام اختياري أو الإبقاء على النص الحالي مع توصية مثلًا بتقديم تسهيلات في إبرام عقود توزيع المنابات من المورث في حياته لأبنائه أكثر من التسهيلات الموجودة حاليًا. كما يمكن في صورة الاتجاه نحو تعديل القانون عرضه على الاستفتاء للاحتكام مباشرة للشعب مصدر الشرعية. فالخيارات عديدة والطرق مفتوحة، فلنسلكها بهدوء دون تشنّج ومصادرة سواء من شيوخ الكهنوت أو دعاة الحداثة.
بالنهاية، فلنطرق كل المسائل الخلافية بما في ذلك مسألة زواج المسلم بغير المسلمة والذي أقدر فيه ضرورة تقديم حرية الزواج على تقييدها، وكذلك مواضيع تجريم العلاقات المثلية، واختلاف الدين في الميراث. لنا دستور فلنفحص كل القضايا بمجهره بدون وصاية ولنتفاعل بكل حريّة، والشكر دائمًا للثورة العظيمة!
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"