بدا المشهد قاسيًا بالنسبة للكثير من التونسيين: رضيع بالكاد مر أسبوع على ولادته مشوه بندبات في كل جسده تقريبًا. من أحدث هذه الجروح؟، بقدر ما كان هذا السؤال بديهيًا، كان الرد صادمًا، التصرف من صنيع أحد أفراد عائلة الرضيع، أما الهدف فمعالجته في شكل من أشكال التطبب الرعواني إن صحت التسمية، والذي لا يزال يمارس خاصة في بعض أرياف تونس، ويطلق عليه، باللهجة التونسية، "التشليط" أو "الشلاط".
بدا المشهد قاسيًا بالنسبة للكثير من التونسيين: رضيع بالكاد مر أسبوع على ولادته مشوه بندبات في كل جسده تقريبًا، إنه "التشليط"
نشر طبيب مقيم بمستشفى ابن الجزار بالقيروان ومختص في طب الأطفال صور الجروح على جسد الرضيع، دون صورة وجهه، وتداولتها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التونسية وهو ما صعّد الجدل حول "التشليط" وباقي الممارسات الرعوانية، التي لا تزال تستقطب البعض في تونس.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يؤمن الجزائريون بالرقية الشرعية؟
سيف الدين الزياني، وهو الطبيب الذي نشر صور الجروح، استذكر الحادثة لـ"ألترا صوت": "كان رضيعًا لا يتجاوز سنه 9 أيام، جلبته عائلته وهو يعاني من مشاكل في التنفس ونزلة برد، وعند الفحص الطبي له، انتبهت إلى ندب تغطي كامل جسده تقريبًا".
"صدمت، هذه ليست المرة الأولى التي أرى فيها هذه الحالة لكنها كانت الأسوأ على الإطلاق، كانت الأكثر بشاعة"، يوضح الزياني ما انتابه عند معاينته الصغير، ثم يضيف: "أما صدمتي الكبرى فكانت من ردة فعل الوالدين، لم يجلبا الطفل من أجل هذه الجروح، اعتبراها تافهة، واستغربا استهجاني هذا السلوك، اعتبروه ببساطة أمرًا عاديًا، يندرج ضمن العادات والتقاليد".
فهم طبيب الأطفال الشاب سيف الدين الزياني فيما بعد أن جدة الرضيع من الأب قامت بـ"تشليطه" أي أحدثت جروحًا على كامل جسده، اتباعًا لتقليد ومعتقد قديم، بغية أن يتعافى الرضيع وتنتعش صحته، حسب اعتقادها طبعًا". يقول الزياني: "في الحقيقة ما رأيته تعذيب لرضيع عمره أيام معدودات، إنها أمور بشعة ترتكب في حق الإنسان باسم العادات والتقاليد، وهي غير قانونية وليست مقبولة طبيًا ولا عقائديًا ولا مجتمعيًا".
في ذات السياق، يقول صبري دحيدح، المندوب الجهوي لحماية الطفولة بالقيروان (المحافظة التي وقعت بها الحادثة)، لـ"ألترا صوت": "لا تزال الممارسات العشوائية متواصلة، في الأرياف أكثر من المناطق الحضرية طبعًا، حسن النية موجود في غالب الأحيان لكن النتيجة غالبًا ضارة". وخطة مندوب حماية الطفولة تم إحداثها في تونس وتعميمها منذ عقود بمختلف المحافظات التونسية ومن ضمن مسؤولياتها القيام بتدخلات وقائية وحمائية في الجهة لصالح الأطفال واتخاذ تدابير حمائية بالتنسيق مع القضاء.
والأمر لا يتوقف عند "التشليط" في تونس، تتعدد الممارسات التي يمكن إدراجها ضمن التطبب الرعواني، ومعظمها يستمد شرعيته من العادات والتقاليد وممارسات الجدات والأجداد. يذكر الزياني لـ"ألترا صوت" بعض هذه الممارسات: "فحصت ذات مرة رضيعًا، يعاني أوجاعًا حادة في البطن وتعفنًا في الأمعاء وإمساكًا حادًا، كانت حالته سيئة جدًا وتبينا فيما بعد أن الرضيع الذي لم يتجاوز 6 أشهر من العمر وكان عليه أن لا يتناول إلا الحليب وبعض الأمور البسيطة الأخرى المخصصة له، قد تناول البسيسة إلى أن بلغت حالته هذه الدرجة من السوء". و"البسيسة" أكلة تونسية ذات قيمة غذائية عالية تتكون عادة من الطحين، الحمص، الشعير، القمح وقد يضاف لها الحلبة والعدس والكركم والكمون وغير ذلك من المكونات. يتذكر الزياني أيضًا، عند حديثه معنا، وفاة رضيع في سن صغيرة متسممًا بالبسيسة والعسل.
لا حد لهذه الممارسات الرعوانية والتي لا تستند لأي حجج طبية علمية بل إلى الموروث والمتداول والشعوذة. "أتذكر منذ سنوات أنني استقبلت أمًّا مع رضيعها، الذي لم يتجاوز سنه بضعة أيام، وقد توفي الأخير بعد أن سقته أمه "ماء اللوبان"/ اللبان المر، وهي مادة تطيح نسبة السكر في الدم مما أدى إلى وفاته ولم نستطع إنقاذه"، يحدثنا الزياني عن تجربة من الماضي في ذات السياق. وماء اللوبان/اللبان المر يستخدم في تونس، حسب بعض المعتقدات لعلاج انتفاخ البطن والغازات.
ويضيف الزياني: "منذ أيام، استقبل المستشفى الذي أعمل به رضيعًا حرارته مرتفعة وفي حالة سيئة إجمالًا، بعد الفحص، تبينا أن عائلته وضعت له الكحل في سرة بطنه، بهدف معالجتها، لكنها متعفنة الآن ورائحتها كريهة جدًا، ووضعها لا يزال متدهورًا".
يكثر التطبب الرعواني خاصة في أرياف تونس وأين ترتفع نسب الفقر والأمية وضعف التغطية الصحية
اقرأ/ي أيضًا: أقفال السحر في الجزائر.. رعب وفكاهة
في شباط/فبراير 2017، أعلنت المندوبية الجهوية لحماية الطفولة بتطاوين، أقصى الجنوب الشرقي التونسي، فتح تحقيق في حادثة تعرض أطفال إلى عملية كي، إحراق الجلد بحديدة محماة للمعالجة حسب البعض، في إطار التداوي بشكل رعواني بمنطقة "نكريف" بمعتمدية رمادة من محافظة تطاوين. وأكد مندوب حماية الطفولة بالجهة أنه اتخذ هذا القرار إثر إشعاره من قبل طبيبة كانت ضمن قافلة صحية عسكرية أجرت فحوصات لأطفال بالجهة، جاء فيه أنها فحصت أطفالًا يحملون آثار كيّ على مستوى أجسادهم مع وجود تعفنات لدى بعضهم وهذا الفعل تم من إحدى النساء في الجهة.
وخلال مرحلة البحث عن بعض العادات الخطيرة، حدثنا كثيرون عن عادة استعمال ما يعرف شعبيًا في بعض المحافظات التونسية بـ"صابون البل" وهو عبارة عن قطران/قار، وهو ما يتبقى في قاع برج التقطير عقب تكرير النفط. هذه المادة ورغم خطورتها فهي تستعمل من قبل البعض لعلاج أذني وأنف الأطفال.
يذكر أن هذه الممارسات تتركز خاصة في الأرياف التونسية والمناطق الداخلية وهذا ما يؤكده طبيب الأطفال سيف الدين الزياني، قائلًا: "درست في المنستير، الساحل التونسي، ثم عملت كطبيب داخلي في المهدية والآن كطبيب مقيم في القيروان، وسط، ولاحظت بشكل جلي أن درجة حدة وتكرر هذه الممارسات تتغير من مكان إلى آخر وتكون أهم في المناطق الريفية والفقيرة".
وتحتل القيروان، المحافظة التي وقعت فيها حادثة "التشليط" الأخيرة والتي تتكرر فيها الممارسات المشابهة، المرتبة الأولى في تونس في نسبة الفقر، حسب إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة حكومية)، حيث بلغت نسبة الفقر بالجهة سنة 2015 34,9% ونسبة الفقر المدقع 10,3%، ويعني مصطلح الفقر المدقع حسب ما جاء في تعريف المعهد الوطني للإحصاء "نسبة الأفراد الذين يخصصون قسطًا من الاستهلاك الغذائي لإنفاقها على المصاريف غير الغذائية من صحة ولباس ونقل".
يقل اللجوء إلى الشعوذة والتطبب الرعواني عند الشباب، وهذا ما يؤكده دحيدح، المندوب الجهوي للطفولة بالقيروان، خلال حديثه لـ"ألترا صوت": "الأجيال الصاعدة ترفض هذه الممارسات العشوائية عادة لكن لا يمكن نفي أنها تبقى معتقدات راسخة لدى العائلات والقبائل ويتم توارثها في أحيان كثيرة".
تعرف المؤسسات الصحية العمومية في تونس تدهورًا في خدماتها ويتضح ذلك أكثر في المناطق الداخلية والأرياف
عادات متجذرة.. فهل من حلول؟
تعتبر هذه الممارسات من سوء التربية والإهمال للأبناء، ويعاقب عليها القانون التونسي في إطار حمايته للطفل سواء عبر مصادقة تونس على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل أو من خلال مجلة حماية الطفل التي أصدرت سنة 1995 إلا أن طبيب الأطفال الزياني لا يرى أن معاقبة المذنب من عائلة الطفل، خاصة في حال توفرت حسن النية عند القيام بالفعل، حلًا، ويوضح: "لن يستفيد الطفل من خلال وضع أحد أفراد عائلته في السجن، قد يعود ذلك بالسوء عليه أكثر".
أما عن الحلول التي يقترحها، فيقول الزياني لـ"ألترا صوت": "الحل يمر عبر توفير تغطية صحية في هذه الأرياف التونسية ووضع حد لارتفاع نسب الفقر الضخمة فيها، فعندما لا يتوفر في منطقة ما مستشفى أو مركز صحي بأبسط التجهيزات ولا يملك المواطن المال لشراء دواء والمتابعة مع طبيب، يصعب حينها لومه عند الالتجاء لهذه الممارسات الرعوانية والرجعية. لابد من ضمان حد أدنى من التغطية الصحية لتونسيين يدفعون الضرائب مثل سكان العاصمة والمناطق الساحلية لكنهم لا يتمتعون بنفس الخدمات الصحية، من المؤشرات السلبية جدًا أن يختلف أمل الحياة بين محافظة وأخرى في ذات البلد". ويضيف: "الحملات الإعلامية التوعوية مهمة أيضًا رغم عدم اهتمام الفئة المستهدفة عادة بالإعلام الجديد إضافة إلى ضعف متابعتها للإعلام التقليدي".
وتتوفر تونس حسب أرقام رسمية على 22 مستشفى جامعيًا/عموميًا و3 مستشفيات عسكرية و2091 مركز صحة أساسي و119 مركزًا لتصفية الدم، تعرف معظمها بتدهور الخدمات الصحية المقدمة، من اكتظاظ، طول الانتظار، نقص الأدوية، فقدان عدد من التخصصات الطبية، غياب بعض التجهيزات، نقص في الأطباء والأعوان وبيئة تحتية متآكلة، وهو ما شجع ميسوري الحال للتوجه نحو المصحات الخاصة. ولئن كان هذا الوضع المتدهور يميز المؤسسات الصحية العمومية على اختلافها إلا أنه أكثر اتضاحًا في المناطق الداخلية الفقيرة.
من جانبه يكشف دحيدح، المندوب الجهوي لحماية الطفولة بالقيروان، لـ"ألترا صوت": "نتدخل كمندوبين لحماية الطفولة في جهاتنا على أصعدة مختلفة، في مرحلة أولى لحماية صحة وحياة الرضيع/الطفل ثم في مرحلة ثانية نتثبت أنه لا يوجد جانب قصدي في العملية ونية للضرر بالطفل". ويواصل: "نهتم بالإحاطة النفسية بالطفل إذا كان في سن تسمح بذلك كما نعمل على مستوى المحافظة لتوعية المواطنين بخطورة هذه الممارسات".
لكن هذه الجهود الرسمية تبقى محدودة، إذ صرح الكاتب العام للجامعة العامة للصحة عثمان الجلولي، في تشرين الأول/أكتوبر 2016 في ندوة من تنظيم المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أن "المستوى المتدني للخدمات الصحية المقدمة للمواطن صارت تؤذن بالخطر في تونس"، موضحًا أن "المؤسسات في المناطق الداخلية تحولت إلى مؤسسات غير صحية".
وهذا ما يؤكده أيضًا تقرير لـ"شبكة مراقبون"، منظمة غير حكومية تونسية، نشر منتصف آذار/مارس 2017 بعد جرد أولي قامت به لوضع مراكز الصحة الأساسية في تونس وأعلنت من خلاله عن أرقام مفزعة منها أن 9% من هذه المراكز لا يتوفر بها الماء الصالح للشرب، و42% منها لا تتوفر بها ثلاجة خاصة بالأدوية و39% لا تحوي على أي وسيلة اتصال (هاتف قار أو جوال أو جهاز فاكس) و12% من هذه المراكز لا تتوفر على دورات مياه للعموم.
اقرأ/ي أيضًا: