28-يناير-2016

مقام الولي الصالح سيدي محرز بتونس العاصمة (الترا صوت)

"في عقد الأشعري وفقه مالك في طريقة الجنيد السالك"، أول بيت في متن ابن عاشر. هذا البيت الذي يعتمد عليه أهل المغرب العربي في عقيدتهم ومذهبهم الفقهي وسلوكهم التربوي، فمنهج التصوّف على طريقة الإمام الجنيد البغدادي أو ما يسمى بالتصوّف السنّي القائم على التربية الروحية والسلوكية للمريدين والتي تتراوح بين الورد الفردي أو ما يسمى بالوظيفة والأذكار الجماعية، والتي تختلف من طريقة إلى طريقة ومن شيخ إلى آخر.

لم تكن فترة ما قبل الثورة إلا امتدادًا للفترة التي سبقت الاستقلال فقد قدر الاستعمار على احتواء الطرق الصوفية وحتى تطويعها من أجل التعاون معه

للتصوّف أدوار كبيرة في التربية والسلوك في العالم الإسلامي، وحتى في البلدان الغربية فهو لم يرتبط فقط بالإسلام وإنما تعدّى ذلك للمسيحية وحتى البوذية، ولكنه في العالم الإسلامي لم يغادر أفئدة المريدين سواءً كانوا من علية القوم كسلاطين الدولة العثمانية أو هؤلاء الذين عرفوا بالورع فسمّوا "صالحين" ولكنهم بقوا في أعالي الجبال ولم ينزلوا إلى مجتمعات تجرّعت الجهل والتجهيل فانتهجت التبرّك بقبور الصالحين لا بتعبّدهم وتقواهم.

دور الصوفية قبل الثورة التونسية

لم تكن فترة ما قبل الثورة إلا امتدادًا للفترة التي سبقت الإستقلال فقد قدر الإستعمار على احتواء الطرق الصوفية وحتى تطويعها من أجل التعاون معه واستعمالها للوشاية بالمقاومين، وقد عمد إلى تشجيع ما يسمّى "الطرق التبرّكيّة" والتي تتّخذ من مقامات الأولياء الصالحين مكانًا من أجل جلب الزوّار لطلب الشفاء أو لتيسير الزواج وحتى عند القحط والجفاف فلم يكن للتصوّف التبرّكي إلاّ إقامة الحفلات باسم الولي فلان والذي تذبح له الولائم وتترك له العطايا طبعًا وهو ميّت لا ينفعه ذلك ولا يضرّه.

أمّا القسم الثاني، وهو التصوّف المتربط بالطرق الصوفية التي يشرف عليها علماء دين ومشايخ، فلم يكن لها تأثير كبير إلاّ في المريدين والذي قد يصل عددهم إلى عشرات الآلاف ولكنهم لا يعملون على نشر   ما يسمّى بالتزكية والسلوك لأن المحافظة على المجموعة القائمة المنتمية لهم أولى من نشر الدعوة لعموم الشعب، إذ أنّ الخوف من بطش الحكومات المتعاقبة كان السبب الرئيس لعدم العمل على نشر التصوّف إلى جانب نفور الشباب من تقاليد الصوفية القائمة على السمع والطاعة للشيخ ومقولة أن" تكون بين يدي شيخك كالميت بين يدي غاسله".

وكانت بعض التقاليد الطرقيّة أكبر منفّر للشباب التونسي إلى جانب ابتعاده عن بعض الخزعبلات الطرقيّة والخرافات التي قد لا تجعل من التصوّف منهجًا سلوكيًا وتربويًا وإنما عالمًا من الحكايا عن المعجزات التي تدعو في كثير من الأحيان إلى السخرية.

الصوفية ما بعد الثورة

ما بعد انطلاق الثورة، ظهرت الطرق الصوفية في الإعلام على أساس أنها الممثل الرسمي للهوية الدينيّة لتونس وذلك باعتبارها تتبنّى الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية وتنتهج التصوّف كتربية سلوكية إلاّ أنّ هذا التقديم لم تقرّه الطرق الصوفيّة نفسها، إذ لم نشهد ظهور ممثلين عنها في وسائل الإعلام كالطريقة الإسماعيلية والطريقة القاسمية والطريقة المدنية وهي طرق تنحدر من أصل واحد ألا وهو الطريقة العلوية نسبة إلى الإمام أحمد العلاوي وهو أحد أقطاب  التصوّف في المغرب العربي.

ما بعد انطلاق الثورة، ظهرت الطرق الصوفية في الإعلام على أساس أنها الممثل الرسمي للهوية الدينيّة لتونس وأصر الساسة على إقحامها في السياسة

غير أنّ إصرار السياسيّين آنذاك على إقحام الطرق الصوفية في الحملات الإنتخابية إثباتًا لتمسكهم بهوية البلاد ومقاومة لهويّة وافدة مثلتها السلفيّة من جهة وحركة النهضة (الإخوان المسلمون) من جهة أخرى. لكن هذه الأخيرة كانت تصر أنها "متجذرة في الهوية التونسية" مستندة إلى كون أبرز مؤسّسيها كانوا من الزيتونيّين والمتصوفة كالشيخ عبد الفتاح مورو والشيخ محمد صالح النيفر إلى جانب انتماء العديد من شبابها إلى الطريقة الإسماعيليّة نسبة إلى الإمام إسماعيل الهادفي.

لم يكن للصوفيّة بعد الثورة أي دور قائم بذاته في التنظّم المدني عبر جمعيّة تجمع كل الطرق الصوفية أو تحرّكات بسيطة لإبداء الرأي حول مشاغل الوطن كالدستور أو غيرها من أمور السياسة إلاّ أنّهم كانوا حاضرين خاصة في صور السياسيين المتباكين على قبور الأولياء الصالحين وذلك أساسًا خلال فترة الحملة الانتخابيّة.

لا أدوار دينيّة للصوفية إذًا، رغم الفراغ الدينيّ وعدم وجود بدائل عن السلفيّة التي كانت تروي تعطّشًا للدين من قبل التونسيين، ويشك البعض في أن يكون للصوفيّة القدرة على إشباع هذه الرغبة الدينيّة إذ أن السلوك دون اتباع للعلوم ينفي عن الحالة الإيمانية صفة الواقعيّة ممّا يجعلها غير قادرة على قيادة تغيير مجتمعي أو حتى المشاركة فيه بصفة تخلو من "التوظيف السياسوي"، الذي انتهجه معهم حزب نداء تونس أو أحزاب أخرى خلال فترة الإنتخابات الأخيرة.

ويبقى الآلاف ممّن اختاروا التصوّف في تونس، طاقات معطّلة لم تعمل على توعية مجتمع تتنامى فيه نسبة الجريمة والانتحار والمخدرات ولم تعمل على الانتقال إلى الحركيّة اللازمة كالتي حدثت في تركيا عبر جماعة فتح الله كولن أو تلك التي بالمغرب عبر الطريقة القادرية البودشيشية، التي أنتجت محرّكي فكر كالفيلسوف طه عبد الرحمن أو تلك التي انتهجت النضال السياسي إلى جانب الذكر والتربية السلوكية كجماعة العدل والإحسان.

اقرأ/ي أيضًا:

الأولياء الصالحون في تونس.. ذاكرة وطقوس

التراث الصوفي وتجديد الخطاب الديني