مقال رأي
تكشف "قضية جمنة" في أحد جوانبها مدى أزمة دولة ما بعد الثورة في مسايرة استحقاقات ثورة 17 كانون الأول\ديسمبر، ولعلّ جمنة باتت اليوم نموذجًا ليس فقط فيما يتعلق بالاقتصاد التضامني والاجتماعي عبر التسيير الشعبي الجماعي، بل كذلك لجدلية الدولة والثورة، والقانون والحق، والمشروعية والشرعية.
ليكون السؤال، هل استنكف منطق الدولة عن فهم جمنة كامتداد للحظة الفعل الثوري قبل 14 كانون الثاني\يناير 2011 وبالتتابع ضرورة التعامل معها على هذا النحو؟
بدايةً ما المقصود بدولة ما بعد الثورة؟ يمكن تعريفها تجاوزًا للتعريف القانوني للدولة، بأنها المنظومة المؤسسة، وإن نظريًا، بعد الثورة التونسية بفضل إعادة بناء للعلاقات بين الفرد والمجتمع من جهة والسلطة السياسية بما هي حامل للدولة، وبما يشمل بالتتابع إعادة ترتيب الاستحقاقات وضبط أطرها، وبما يشمل كذلك، وهذا ما يهمّنا، مسألة توزيع الثروة وتحقيق التنمية، بما هي عناوين ثورة وثمّ عناوين إصلاح عبر الدولة على ضوء مشروع التأسيس.
لازالت قضية جمنة، التي شغلت الساحة السياسية في تونس خلال الفترة الأخيرة، تشهد تطورات تشي بمزيد من تأزم الوضع لا انفراجه
لازالت قضية جمنة، التي شغلت الساحة السياسية في تونس خلال الفترة الأخيرة، تشهد تطورات تشي بمزيد من تأزم الوضع لا انفراجه وذلك على ضوء القرار الحكومي بتجميد أموال الجمعية التي تشرف على تسيير الضيعة الفلاحية، وكذلك أموال الفائز بالبتّة.
وقد أدى هذا القرار لاحتجاج شعبي واسع في جمنة الواقعة جنوب غرب تونس، عبر إعلان جملة من القرارات منها سحب أموال المواطنين من البنوك، والتوجه نحو العاصمة للاحتجاج على قرار التجميد.
وهذا القرار الحكومي التصعيدي يبين أزمتها في التعامل مع وضعية جمنة ليس بصفتها وضعية خصوصية أي بما يتم تصديره من توصيف قانوني بأنها أرض على ملك الدولة افتكها المواطنون، بل بصفتها وضعية إنماء اقتصادي ومكسب اجتماعي للمواطنين، سواء عبر التشغيل في الضيعة أو عبر الاستفادة من المشاريع المنجزة من عائدات الربح، وذلك خارج الدولة بما هي في إحدى أهم تعريفاتها كآلية تسيير للشأن العام.
وهذا ما يعني إعادة توظيب لمشهد ما بعد الثورة خاصة ما يتعلق بدور الدولة وتحديد العلاقات وطرق التصرف في العائدات في المسألة الاقتصادية.
كان يعني تحرير المجال السياسي بعد الثورة بالضرورة انكفاء الدولة، ليس فقط لصفتها الاستبدادية بل بما هي آلية ضبط، وهو ما توازى مع صعود الدور الوظيفي للمجتمع المدني.
بل وكذلك نشأة مؤسسات، وأن تظلّ تحت إطار الدولة فهى بخارج عن سلطتها التنفيذية، وافتكت هذه المؤسسات أدوار كانت تقوم بها حصرًا هذه السلطة.
هذا التحرير تم دفعه استباقًا بمطلبية الشغل والتنمية في الجهات المحرومة وذلك كحقوق وكعناوين كرامة لا مكرمة، ومثلت جمنة، في هذا السياق، اختراقًا لمنظومة ما قبل الثورة، ونموذجًا لتحقيق العناوين التي رُفعت خلالها في مرحلة التأسيس.
في هذا الجانب، يعيش خطاب الدولة حاليًا حول ملف جمنة مأزقا جديًا يرفقه بعض الحرج وكأن الدولة تعرّت أمام المجتمع، ولعله لذلك بدى خطابها مؤخرًا غير معادي لتجربة جمنة بل تحدث أحد الوزراء عن تشجيع الحكومة لهكذا تجارب على شرط احترام القانون.
وفي الحديث عن القانون، تجيء جدلية الحق والقانون حينما يستبق الأول ويتأخر الثاني، ومنطق الدولة هو منطق قانون بحكم التعريف وليس منطق حقّ المفروض تم "قوننته" بالعهد المجتمعي المضمن في الدستور.
في الحديث عن القانون، تجيء جدلية الحق والقانون حينما يستبق الأول ويتأخر الثاني
وفي هذا السياق، تحدث وزير على أن حكومته تطبق القانونية مستنكرًا توجه برلمانيين لدعم تجربة جمنة وداعيًا إياهم لتغيير القوانين.
ليكون السؤال، هل قضية جمنة بالنسبة للدولة هي قانونية بحتة؟ ربما هي أعمق من ذلك فظاهرها قانوني، غير إن باطنها، على الأقل بالنسبة لدوائر نافذة داخل الدولة وأخرى خارجها استكرشت فسادًا عبر آليات الدولة وقوانينها غير المنصفة، وهي مسألة تنازع وتهديد حيوي لمصالحها. حيث ستتعرى أقنعة وتنكشف أكثر منظومة الفساد حينما تتعمّم تجربة جمنة في مختلف الأراضي الدولية، أي حينما "تجمنن" تونس.
وعلى دولة ما بعد الثورة، إن كانت ترغب في محايثة تجربة جمنة وتشجعيها تحت عنوان الشراكة مع المجتمع المدني في إدارة الضيعات الفلاحية، أن تبرهن جديًا على ذلك حينما تنتصر لجمنة وتحتضنها لا أن تواجهها وإن كان تحت عنوان القانون ومنطق الدولة. فأي منطق يكون خارجًا عن الصالح العام؟
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"