22-يونيو-2019

محمد مزالي الوزير الأول لتونس من 1980 إلى 1986 (أ.ف.ب)

 

"قرّر الرّئيس الحبيب بورقيبة إقالة السيّد محمّد المزالي من مهامّه وتسمية السيّد رشيد صفر في منصب وزير أوّل"، بهذا الملفوظ الوجيز الجافّ الرّتيب افتتحت قارئة الأخبار شريط الأنباء يوم الثّلاثاء 8 جويلية/يوليو 1986، قرأت المذيعة الخبر دون أن تشفعه بتفسير أو تعليل أو مجرّد تعليق، ثمّ انطلقت في عرض بقيّة الأنباء التونسيّة والعالميّة.

اللّافت أن المعنيَّ بالأمر تابع نبأ الإقالة شأنه شأن سائر المواطنين، فلا علم له بأسباب هذا القرار الخطير، وقد عبّر عن هذه المفاجأة قائلًا: "اندهشت لأنّ الحبيب بورقيبة لم ير من اللّياقة دعوتي ليعلمني بقراره قبل الإذن ببثّه في وسائل الإعلام" (محمد مزالي، نصيبي من الحقيقة، ص.21، الطبعة 1، سنة 2007، دار الشروق، القاهرة، مصر).

محمد مزالي في مذكراته: كنت في قصر الحكومة أعمل بظهر مكشوف لا أقدر على اتّقاء سهام اللّيل المصوّبة نحوي من الحاشية وكان على رأس القائمة امرأتان هما وسيلة بن عمار وسعيدة ساسي

دهشة المزالي تبدو في حدّ ذاتها مدهشة، فكلّ المؤشّرات آنذاك توحي بأنّ مصيره كان مهدّدًا، وقد بلغت وضعيّته ذروة الحرج حينما تواطأ عليه الأضداد، فخصومه مبثوثون في القصر والحزب الحاكم والحاشية والمعارضة والنّقابات وغيرها من الأطراف المشكّلة للمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

كان المزالي واعيًا بهذه الوضعيّة الإشكاليّة، فليس أخطر من أن يتّفق طرفان متنافران متضادّان اتّفاقًا مرحليًا على تصفية خصم مشترك، هذا ما ينطبق على وسيلة بن عمّار، زوجة بورقيبة، وسعيدة ساسي، ابنة أخته، فبينهما ألوان شتّى من النّزاع المادّي والأدبي والسياسي، غير أنّهما توافقا على التصدّي لغريم واحد تهيّأ لهما أنّه يهدّد نفوذيهما الذي كان يتسع شيئًا فشيئًا كلّما تراجعت حركة الحبيب بورقيبة ونباهته ويقظته.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة الخبز.. هل حرّكها صراع سياسي داخل أجنحة السلطة؟!

تأكيدًا لهذه الوضعيّة، يقول المزالي في مذكراته: "كنت في قصر الحكومة أعمل بظهر مكشوف لا أقدر على اتّقاء سهام اللّيل المصوّبة نحوي من الحاشية... وكان على رأس القائمة امرأتان لا يجمع بينهما إلّا حقد دفين متبادل، لكنّهما اجتمعا هذه المرّة على عمل واحد هو العمل على تنحيتي، لم أكن تحت جناح الأولى الملقّبة بالماجدة ولا تحت حماية الثانية المعروفة ببنت الأخت" ( نصيبي من الحقيقة، ص34).

وقد أكّدت مصادر عديدة على صحّة ما باح به المزالي في مذكّراته، منها تصريحات أحمد بنّور مدير الأمن الرئاسيّ في عهد بورقيبة، فنحت هذه الرواية منحى موضوعيًا رغم ورودها في كتاب لا يخلو من نزعة ذاتيّة.

رجل في صيغة الجمع

لم يكن محمّد المزالي مجرّد وزير مكلّف بتنفيذ "توجيهات الرئيس"، فقد كانت لهذا السياسي مواقف متفرّدة، وبصرف النّظر عن وجاهتها فقد عدّت خطيرة مؤثّرة في العديد من المجالات.

هذه النزعة إلى الاجتهاد في عرض المبادرات الخاصّة والدّفاع عنها تتناسب مع تكوين المزالي وبنيته النفسيّة والذهنيّة، إذ لم يراهن في صراعاته مع محيطه على الهويّة الحزبيّة والأكاديميّة فقط إنما عزّزها بأنشطة أخرى غزيرة ومتنوّعة حوّلته إلى علم سياسي ونجم رياضي ومرجع معرفيّ،  فأصبح "رجلًا في صيغة الجمع"، ممّا أكسبه منزلة جليلة في جل الدول العربية والغربية ستساهم لاحقًا في خلاصه من محنته، ونجاته من القتل أو الإعدام.

لم يكن محمّد المزالي مجرّد وزير مكلّف بتنفيذ "توجيهات الرئيس" (جاك لانجيفين/Getty)

اكتسب المزالي منذ الصغر رصيدًا من النّضال الحزبي جعله محلّ ثقة في الحزب الحر الدستوري وبين الطلبة الدستوريين بفرنسا وفي الحزب الاشتراكي الدستوري، وقد تولّى أمانته العامّة من 1980 إلى 1986، غير أنّ هذه المنزلة السياسيّة لم تكن لتغنيه عن التكوين الجامعي المتين، فقد نال الإجازة في الفلسفة من "السوربون". 

وبالتّوازي مع هذه التجربة السياسيّة والتكوين الأكاديمي، نحت المزالي لنفسه بنيانًا رياضيًا وفكريًا متينًا إذ أسّس مجلّة "الفكر" وساهم في إنشاء اتّحاد الكتّاب التونسيين، و ترأسه في دورات عديدة، وكان عضوًا في مجمع اللغة العربيّة. أمّا الأنشطة الرّياضيّة، فقد وهبته مقامًا عالميًا نذكر منها على سبيل المثال ترأسه اللجنة الأولمبيّة من 1963 إلى 1986 وكسبه عضويّة اللجنة الأولمبيّة الدوليّة، كما تولّى منصب نائب رئيس بهذه اللجنة من 1976 إلى 1980.

من وزير التوجيهات إلى رجل المبادرات

هذه المزايا المتنوّعة والمحامد المتعدّدة في جلّ المجالات جعلت المزالي محلّ ثقة الحبيب بورقيبة، فرفعه إلى أعلى درجات التّشريف والتّكليف، فقد أسّس المزالي الإذاعة والتلفزة التونسيّة وتولّى إدارتها العامّة (من 1964 إلى 1968) ثمّ أمسك في مناسبات متتالية وزارة الدّفاع ووزارة التربية القوميّة والشباب والرياضة ووزارة الصحة وتوّج مسيرته بالوزارة الأولى من سنة 1980 إلى 1986.

 لم يراهن محمد مزالي في صراعاته مع محيطه على الهويّة الحزبيّة والأكاديميّة فقط إنما عزّزها بأنشطة أخرى حوّلته إلى علم سياسي ونجم رياضي ومرجع معرفيّ  فأصبح "رجلًا في صيغة الجمع"

اقرأ/ي أيضًا: الدعوات لإعادة كتابة التاريخ: إنصاف للحقيقة أم تصفية لحسابات سياسية؟

تعاظم مقام المزالي شيئًا فشيئًا، فتدرّج من مجرّد وزير يلتزم بالتّعليمات إلى رجل دولة يجادل ويرفض ويناور ويعلن مبادارات استراتيجيّة عناوينها أصبحت مقترنة باسمه حتّى صار مرجعًا سياسيًا وتاريخيًا لبعض التّحوّلات.

إنّ الحرص على التذكير بسيرة المزالي الفكريّة والرياضيّة لا يرجع إلى دوافع توثيقيّة أو تمجيديّة، وإنما يعود إلى أن تلك التفاصيل مثّلت العامل المحدّد لمسيرة هذا الرّجل ومصيره. فما قمنا به كما سيتّضح لاحقًا أشبه بتعمّد كاتب روائي الإشارة إلى عنصر يبدو عرضيًا في بداية الحكاية، ثم تمضي الأحداث متسارعة متشعّبة متنامية لتنتهي عند ذاك العنصر الذي يتحوّل إلى فاعل محدّد لنهاية البطل هلاكًا أو نجاة، يقول أحد النّقّاد "إذا ما قيل لنا في بداية قصة قصيرة إنّ هناك مسمارًا في الجدار، فالأرجح أنّ البطل سيشنق نفسه فيه".

التعريب وغضب "الحبيب"

ربطت الحبيب بورقيبة والمزالي علاقة احترام وثقة ومودّة حتّى أيقن جلّ التونسيين من هوية الرئيس المرتقب، وقد تأكد ذلك بأسلوب صريح رسمي، إذ قرأ الإعلامي رؤوف يعيش في مفتتح إحدى نشرات الأبناء "ينقضي هذا الأسبوع في تونس حاملًا معه إلينا أجمل البشائر وأسمى المعاني وأنبلها.. فقد أكّد فخامة رئيس الجمهوريّة بمناسبة أشغال اللجنة المركزيّة للحزب الاشتراكي الدستوري ثقته الغالية في وزيره الأوّل السيد محمّد مزالي مشيدًا بالأعمال الجليلة التي يقوم بها وبمواقفه الحكيمة، وذكّر المجاهد الأكبر أنّ خليفته هو الوزير الأوّل بوصفه الملمّ بشؤون الدّولة ويعرفه الشعب من خلال ما يضطلع به من مهامّ بكفاءة عالية استيحاء من توجيهاته الثمينة".

هذه الثقة الفائقة التي حظي بها المزالي هي التي خلّفت فيه حيرة شديدة لمّا سمع خبر إقالته، فالدهشة سليلة التناقض وانقلاب المواقف وتغيّرها السريع والجذري، كيف لا والمدّة التي تفصل بين إعلان الخلافة وقرار الإقالة لم تتعدّ الثلاثة أسابيع (من 19 جوان/يونيو إلى 8 جويلية/ يوليو 1986).

علّل بورقيبة إقالة أقرب الوزراء إليه تعليلًا متّصلًا بتغيير أحدثه المزالي لمّا كان وزير التربية في حكومة الهادي نويرة ، فقد غضب "الحبيب" بسبب التّعريب، وقال مخاطبًا صاحب هذه المبادرة: "يا سي محمّد عرّبت ياسر (كثيرًا) قلت لك لا تعرّب". (نصيبي من الحقيقة، ص. 24).

لم يكن التّعليل في حجم هذا الزلزال السياسي، فقد أشرف المزالي على هذا المشروع خلال أربع سنوات ولا شيء يمنع بورقيبة من إيقاف العمل بهذا الإصلاح البيداغوجيّ، وكان المزالي قد انتظر "أن تكون الأسباب أخطر وأكثر جديّة" ( نصيبي من الحقيقة، ص.24). وقد صدق حدسُه، فسرعان ما تحوّل من "خليفة بورقيبة" إلى سياسيّ بلا حقيبة، بل بات موضوع شكّ وريبة بلغت حدّ اتّهامه بالتخطيط للانقلاب، فكانت النهاية قاسية اجتمعت فيها آيات المحنة والملحمة.

الخُسران والخذلان

ما إن عُزل محمّد المزالي من منصبه حتى طالته سهام الاتهامات من كل صوب، هذا شأن من يتحوّل إلى "وزير سابق"، غير أنّ ما حلّ بمن رشّحه بورقيبة خليفة له بلغ ذروة الخطر والخسران. فلم يفقد المزالي حلمه الرئاسي فقط، بل تزعزعت حياته الشّخصيّة والأسريّة، وقد فصّل القول في هذه المحنة في العديد من شهاداته منها ذكره ما طال أبناءه وصهره من إيقاف وسجن وتعذيب. ورغم أهميّة هذه التّفاصيل المؤثّرة التي رواها الوزير الفارّ عبر الحدود الجزائريّة، فإنّ ما يعنينا في هذا المقام التّحليلي هي المواقف التي اتّخذتها المنظمات والأحزاب والشخصيات إزاء محنة المزالي.

عرض المزالي في مذكّراته أشكالًا شتّى من التّآمر والغدر وذكر مواقف تؤكّد تقلب جلّ الساسة وافتقارهم إلى الحدّ الأدنى من الشهامة

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال صالح بن يوسف.. تفاصيل جريمة دولة لم تسقط بالتقادم

عرض المزالي في مذكّراته أشكالًا شتّى من التّآمر والغدر، وكشف عن تنكّر الدساترة له، وذكر بعض المواقف التي تؤكّد تقلب جلّ الساسة وافتقارهم إلى الحدّ الأدنى من الشهامة، وقد عدّد الرجل وقائع شتّى تؤكّد ثقافة الخيانة السياسيّة. 

ولئن كانت هذه الظاهرة حقيقة بيّنة لا تحتاج إلى إيضاح وتفسير، فإنّ السياق الحجاجي يقتضي إيراد عيّنة واحدة على الأقلّ، وذلك حينما اجتمع مجلس النواب الذي يضمّ أصدقاء الوزير المعزول وزملاءه  في الحزب بتاريخ 23 سبتمبر/أيلول 1986، وصوّت الحاضرون بالإجماع و في سرعة غريبة على رفع الحصانة البرلمانيّة عن المزالي، وذلك بإلحاح من رئيس المجلس محمود المسعدي حتّى لا يتمكن النّواب من مناقشة حرّة جوهريّة و"لم يدم النظر في الموضوع أكثر من نصف ساعة" كما ينقل مزالي في سيرته الذاتية.

المؤازرون والمنصفون

لا شكّ أن جلّ السّاسة قد خانوا المزالي وخذلوه غير أن أصدقاءه العرب والأوروبيين والأفارقة خاصّة من المجالين الرياضي والفكري قد نصروه وساهموا في نجاته، وأعادوا إليه الاعتبار، وكانت تدخّلاتهم مؤثّرة فاعلة في مصير "الوزير اللاجئ".

أمّا من تونس، فقد أنصفه المنصف المرزوقي، وآزره المازري الحدّاد وبعض السّاسة والإعلاميين والباحثين، وفي هذا السياق يقول المزالي مثنيًا على بعض المناضلين ذامًا بني جلدته السياسيّة: "لم يزرني أحد من أصدقائي في الحزب ليشدّ أزري، واتّخذ الطيّبون منهم شعار الجلوس على الرّبوة أسلم، والشخصيّة الوحيدة التي تجرّأت لزيارتي هي الأستاذ نجيب الشابي مصحوبا بالسيدة سهام بن سدرين والسيّد رشيد خشانة، وكلّهم من المعارضة، لقد عبّروا عن تضامنهم، وقال لي الشابي إنّ القوم يريدون أن يلحقوا بك ضررًا كبيرًا، وأضاف نحن سندافع عنكم، اعتمدوا علينا" (نصيبي من الحقيقة، ص. 80).

تلقى محمد المزالي بعد الإطاحة به مناصرة من المنصف المرزوقي ونجيب الشابي وسهام بن سدرين والمازري الحداد وهشام جعيّط

سنة 1986 عند مطاردة المزالي،  كان رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي في سنّ الأربعين وكان المازري الحدّاد الكاتب والديبلوماسي السّابق شابًا لم يتخطّ الخامسة والعشرين، ورغم المسافة الإيديولوجيّة بينهما فقد اجتمعا على مساندة الوزير المطارد. تحدّث المزالي عن الأوّل قائلًا: "لقد تأثّرت كثيرًا بموقف نبيل لرئيس الرابطة الذي دافع عن عائلتي ضدّ كلّ ما كانت تلقاه من اضطهاد، ولم يتردّد في نشر مقال بجريدة الصّباح اليوميّة ذكّر فيه بجهودي قصد دفع بورقيبة لقبول التّعدّديّة"،  أمّا الثاني فقد قال عنه " إنّ المازري الحدّاد كان من التّونسيين القلائل الذين أمسكوا أقلامهم ليدافعوا عنّي أمام العموم بينما لم يكن يعرفني شخصيًا". (نصيبي من الحقيقة، ص. 76).

إضافة إلى هؤلاء، غادر المؤرخ هشام جعيّط برجه المعرفي الأكاديمي ليخوض في الشأن السياسي الحقوقي قائلًا في مجلّة "حقائق" عدد 175 "لقد حوكم المزالي من أجل سفاسف ولأسباب لا تليق بدولة متحضّرة".

هكذا يتّضح أنّ المتشبّعين بمبادئ الحريّة والكرامة تظلّ مواقفهم في الغالب ثابتة وتتشكّل خاصّة من خلال الدفاع عن حقوق الإنسان والمحاكمة العادلة للجميع دون استثناء ومهما كانت تهمهم أو انتماءاتهم، أمّا الفئات المتّصفة بالانتهازيّة والوصوليّة فإنّ مواقفه متلوّنة متغيّرة حسب المصالح وموازين القوى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطاهر بن عمار: موقّع وثيقة الاستقلال الذي غُيبت بصماته

الحبيب عاشور.. "أسد البطحاء" وحامل لواء استقلالية اتحاد الشغل