تتنافس المدن التوّنسيّة في أن تخلق لنفسها علامات تدلّ عليها، في مجالات السّياحة والرّياضة والتّجارة والمال والنّضال السّياسي والنّقابي، وشذّت عنها مدينة دوز، 540 كيلومترًا إلى الجنوب من تونس العاصمة، في أن جعلت العلامة الدّالّة عليها فرقتَها للتّمثيل المسرحي، كاسرة بذلك الاحتكار الذّي ظلّت تونس العاصمة تمارسه منذ عقود، من خلال العديد من المسارح الحكومية والمستقلّة.
تتنافس المدن التوّنسيّة في أن تخلق لنفسها علامات تدلّ عليها، في مجالات السّياحة والرّياضة والتّجارة والمال والنّضال
تأسّست الفرقة عام 1985، على يد الفنّان منصور الصّغير، رفقة نخبة من الفنّانين، مثل محسن بن محمد، السبتي الجديدي، سالم الجديدي، شكري بن محمد. واستطاعت خلال 33 عامًا أن تغرس أصول الممارسة والتلقّي المسرحيين بمفهومها الحديث، في مدينة جنوبية غارقة في طقوسها الشّعبية، فهي لا تتوفّر على مسرح حديث، ما عدا الذي أنجزته الفرقة قبل سنوات قليلة، فيما أنجز بها سوق شعبي منذ عام 1912، ولا يزال يمثّل واحدًا من أهمّ فضاءاتها السّياحية والتّجارية.
اقرأ/ي أيضًا: مهرجان دوز المسرحي.. ظلال الرّبيع العربي
التحق منصور الصّغير بالممارسة المسرحية عام 1972، بتوجيه من الفنّان منصور الثّابتي، "وكان رهاني أن أكوّن نفسي مسرحيًا، فلم أهدر فرصة أتيحت لي، سواء في مدينتي، من خلال الجمعيات الهاوية، أو في مدينة درنة اللّيبية، من خلال مسرح محمّد الهادي". يضيف محدّث "الترا صوت": "لقد أكسبني الفنّ الرّابع خصالًا كثيرةً، لكنّ أهمّها في نظري هي حبّ المعرفة والتّكوين".
أحسّ منصور الصّغير أنه بات يتوفّر على الرّصيد الذي يؤهله لأن يطلق شرارة مسرحية حقيقية في مسقط رأسه، فعاد إليه عام 1985، "لم أعد بروح أن أكون أستاذًا، بل لأكون جامع الشّمل، ولم أجد صعوبة في ذلك، بالنّظر إلى وجود نخبة من المواهب والطّاقات المتعطّشة إلى الممارسة. وهو المعطى الذي جعلنا نتعامل مع الفرقة التّي أسّسناها على أنها أسرتنا الثّانية".
"أقول الثانية من باب مجاملة أسرنا الأصلية، لأننا عشنا للمسرح أكثر ممّا عشنا لها، وقضينا من الوقت في مقرّ الفرقة أكثر ممّا قضيناه في بيوتنا، والدّليل أنّ ولدي "محب" كبر بين الممثّلين حتى صار واحدًا منهم". يضيف: "عادةً ما تنتشر الغيرة بين المسرحيين، وقد عمل هذا المعطى الإنساني على تفتيت فرق وتجارب عريقة، لكنه منعدم تمامًا فرقتنا. من ذلك أن شريكي عبد النّاصر بنعبد الدّايم عجز عن حفظ كلمة واحدة من دوره في إحدى المسرحيات، حين علم أنني لن أكون معه على الرّكح".
دفعت هذه الرّوح أعضاء فرقة بلدية دوز للتّمثيل من رعيلها المؤسّس، إلى أن يقيسوا نجاحهم بمدى قدرتهم على استقطاب ممثلين جدد، "ونحرص على أن يكون تأطيرنا لهم مزدوجًا. أن يكونوا فنّانين جيّدين، إلى جانب كونهم متمدرسين جيّدين، وهو ما جعل ثقة أسر المدينة المعروفة بكونها محافظةً كبيرة فينا". يسترسل منصور الصّغير مزهوًّا: "أخير توّج مسعانا هذا باستقطاب ثلاث ممثّلات إلى الفرقة، وقد شاركن في عرضنا الأخير "صابرة" للمخرج الشّاب مكرم السّنهوري، هن هادية عبيد وسلوى الشّيباني ورماح السنوسي".
ينسى منصور الصّغير صاحب جائزة أفضل ممثّل في مهرجان حمّام سوسة، وجائزة أفضل مخرج في مهرجان فريانة، أن يحدّثك عن الجوائز الوازنة التّي افتكّها ممثّلًا ومخرجًا، ويغرق في الحديث عن الجوائز، التّي افتكّتها فرقته، منها جائزة أفضل عرض متكامل في مهرجان مدينة قابس، والدّرع الذهبي في مهرجان مدينة بن عروس، وجائزة أحسن نصّ بمهرجان حمّام سوسة، والجائزة نفسها في مهرجان "النّخلة الذّهبية" للمسرح المغاربي، في مدينة أدار الجزائرية". عن ما لا يقلّ عن عشرة عروض منها "رجوع الغايب" و"عود الرّمّان" و"مولاي لقد ذبح الطّير" و"حسّ القطا".
يؤمن منصور الصّغير بأن الرّواية تمنح المسرح روحًا خاصّة، لذلك معظم عروضه مقتبسة من أعمال روائية
يؤمن منصور الصّغير بأن الرّواية تستطيع أن تمنح للعرض المسرحي روحًا خاصّة، لذلك فقد كانت معظم عروض الفرقة مقتبسة من أعمال روائية، مثل "الياطر" لحنّا مينا، و"موسم الهجرة إلى الشّمال" للطيّب صالح، و"طفل الرّمال" للطّاهر بن جلّون. سألناه عن خلفية الاشتغال على روايات ذات نفس بحري، في مسرحيات ذات نفس صحراوي، فقال إنّ المسرح لا يؤمن بالحدود، فهو وجد أصلًا ليزيلها، وهذا ما عملنا عليه في بعض عروضنا، إذ استغنينا عن الدّيكور بأن وظّفنا عناصر الطّبيعة نفسها".
اقرأ/ي أيضًا: التبادل التونسي والجزائري ثقافيًا.. بخل الأشقاء
يُعرف عن منصور الصّغير أنه يقود فرقته للعرض في أماكن بعيدة، على متن الحافلة التي باتت عضوًا حميمًا فيها، "فقد سافرنا 4000 كيلومتر للعرض في مدينة العريش المصرية، و1500 كيلومتر للعرض في مدينة سيدي بلعبّاس الجزائرية، وها أنت تلتقينا في مدينة أدرار التي تبعد بـ1700 كيلومتر". يشرح فكرته: "يجعلنا التحجّج ببعد المسافة نستحي من روح المسرح، ثمّ إنّ السّفر نفسه رافد من روافد الفنّ".
"غير أن رغبتنا في أن نستقبل المسرحيين في مدينتنا لا تقلّ عن رغبتنا في الذهاب إليهم في مدنهم، فأسسنا بمناسبة الذّكرى العشرين لتأسيس الفرقة "المهرجان العربي للمسرح"، كي نمنح سكان المدينة فرصة لمشاهدة عروض من فضاءات أخرى وبرؤى متعدّدة، فباتوا ينتظرونه ويسألوننا عن تفاصيله وينخرطون معنا في إعداده، بحيث لا تحلّ الفرقة المدعوّة ضيفة على فرقتنا فقط، بل على المدينة كلّها". يختم: "لطالما كان شعارنا "سيّب الجمهور"، أي حرّر الجمهور، فهو إن لم يحتضن فنّك بات فاشلًا ويتيمًا".
اقرأ/ي أيضًا: