03-أغسطس-2018

من حلبة لصراع الأسود إلى ركح للموسيقى والأداء الأوبرالي (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

في كل صائفة يهب عشاق الطرب والموسيقى والفنون الركحية نحو المسارح والفضاءات المدرجة، وفي تونس توفر المسارح الأثرية فضاءات مفتوحة رائقة للفرجة ومائلة للمتعة فيكون السهر بين خبايا التاريخ. ورغم تعدد الفضاءات التاريخية في تونس، تجد الآلاف على موعد مع ليالي وسهرات مدرج مسرح قصر الجم أو "كُولُوسِّيُومْ تِيسْدْرُوسْ" (وسط تونس) في محافظة المهدية ليتمتعوا بموسيقى العالم وأعذب الأصوات الأوبرالية وأعرق السمفونيات العالمية، التي اشتهر بها.

مسرح قصر الجم في تونس هو موقع روماني ضخم، وثالث أكبر مسرح في العالم بعد مسرح كولوسيوم روما ومسرح كولوسيوم كابو

الجم تحدثنا اليوم عن حجارتها وتاريخها وفسيفسائها وموسيقاها وصداقاتها، فهي المدينة الأوبرالية التي عشقها كل من زارها، ولا يكفينا أن نتحدث عن الجم بل نستمع إليها أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: الكاف.. "أزيز أبواب الجنة" ونفحات الآلهة "فينوس"

 

  • حديث "كولوسيوم تيسدروس"..

قصر الجم أو قصر الكاهنة كما كان يسمى قديمًا يتوسط مدينة الجم، التي كانت تسمى قديمًا تيسدروس وهو موقع روماني ضخم، وثالث أكبر مسرح في العالم بعد مسرح كولوسيوم روما ومسرح كولوسيوم كابو، ومسرح الجم الأضخم من البناءات الرومانية في إفريقيا.

وفق المعطيات التاريخية شيد القائد الروماني "جورديان الثاني" هذا القصر وأراده منافسًا لقصر الكوليزي بروما  وتجاوز فيه كل الأخطاء الهندسية الموجودة في نظيره بروما على مستوى الشكل. وتبلغ أبعاده الخارجية 148 مترًا و122 مترًا وأبعاد حلبته 65 مترًا و39 مترًا وتتسع مدارجه لـ35 ألف متفرج.

رغم التجاهل الذي عانى منه معلم مسرح الجم التاريخي فإنه حافظ على أناقته وضخامة أقواسه وهيبة أسواره وقداسة حلبته

ويقع تحت حلبته رواقان يصلهما الضوء من الفتحة الوسطى للحلبة إضافة إلى فتحتان من جانبي الحلبة كانت تستخدم لرفع الوحوش من أسود ونمور والمصارعين من أسرى الحرب حيث كان المصارعون والوحوش يأسرون في غرف تحت الحلبة ليتم إطلاقهم في الأعياد والمناسبات الضخمة التي تشهد إقبالًا جماهيريًا ضخمًا من الشعب والنبلاء الذين يجلسون في المدارج لمشاهدة مصارعات الوحوش ومعارك المصارعين من أسرى الحروب وسباقات العربات، حسب عدة مصادر تاريخية.

ورغم التجاهل الذي عانى منه هذا المعلم التاريخي فإنه حافظ على أناقته وضخامة أقواسه وهيبة أسواره وقداسة حلبته، فكلما جلست في مدرجه شعرت بأنك محور الكون فتتناهى إلى مسامعك أصوات المجالدين والوحوش وصخب العامة وبسالة القادة وتشتم في هذا الموقع رائحة الجنوب.

اقرأ/ي أيضًا: أوذنة تنتفض من رماد النسيان: "مسرحي أفضل من قرطاج لكنها أحكام السياسة"

 

  • حديث "عودة الرومان"..

في شهر مارس/ آذار من كل سنة يحتضن قصر الجم عروضًا فنية تحاكي الحضارة الرومانية في أبهى تجلياتها وتلقب "بعودة الرومان" وينطلق من إحدى الطرق المؤدية إلى الكولوسيوم كرنفال استعراضي لمجموعات شبابية ترتدي الألبسة الرومانية، محاطة بسرايا من الجيش في مشهد تمثيلي رائع، مرفوقين بعازفين على آلات موسيقية تحاكي إيقاعات الحرب، ويتقدم الموكب الملك موشحًا بدرع برنزي ومحاطًا بقادته وفي وداعة أسرته الحاكمة ومجلس الشورى.

في باحة القصر يتجمهر الآلاف من الجماهير التي أتت من كل أنحاء الجمهورية التونسية وعدد من السياح الأجانب ليشاهدوا هذا العرض السنوي من رقصات وعروض مصارعة وموسيقى رومانية رائقة توشحها صيحات النصر.

وتعتبر هذه اللوحات الفنية الراقصة ومشاهد المصارعين هي الأولى من نوعها التي تحاكي عرض لودوس ludus الذي كان يقدمه أثرياء المدينة والسياسيون في العهد الروماني عند اقتراب المواعيد الانتخابية لكسب ود الجماهير، حسب تصريح لرضا حفيظ، المشرف العام على هذه التظاهرة.

في شهر مارس/ آذار من كل سنة يحتضن قصر الجم عروضًا فنية تحاكي الحضارة الرومانية في أبهى تجلياتها وتلقب "بعودة الرومان"

و"عودة الرومان" لم تكن فقط بهذه العروض الحربية واللوحات الراقصة فقط ولكن بعودة تلك الفنون السائدة في ذلك الزمن من خلال ورشات الفسيفساء التي تشتهر يها المدينة فصار تقليدًا أصيلًا في كل بيت وتطور ليكون الحرفة الأولى بالمدينة ومصدرًا لرزق المئات من شبابها.

وفي تصريح صحفي، كشف رضا حفيظ أن "هناك لوحات فسيفسائية بمتحف الجم، تجسد بوضوح كيف كان الرومان يطلقون الأسود، و النمور، والدببة، على المساجين، وأسرى الحرب، و أيضًا هناك لوحات تضم من جهة الحيوانات المفترسة، والصيادين المحترفين، من جهة أخرى، وبالتالي تكون المشاهدة شيقة، وهذا ما يميز مسرح الجم عن غيره من المسارح".

 

حديث الموسيقى السمفونية..

مهرجان الموسيقى السمفونية بالجم يعتبر بؤرة الضوء في التاريخ الحديث لمدينة الجم، فقد أخرجت هذه التظاهرة مدينة الجم ومعلمها الضخم من الضياع في غياهب النسيان ومن ظلم الحضارة ومكنت على مدى ثلاثة وثلاثين سنة الآلاف من زائري تونس من اكتشاف سحر هذا المعلم لما يمتزج بسحر الموسيقى. موسيقيون ومطربون من كافة أصقاع العالم يأتون إلى قصر الجم لإحياء الحفلات وتكفيهم عظمة المكان نشوة.

أوركسترا ميلانو الإيطالية كانت في افتتاح هذه الدورة وكان عرضًا متضمنًا لأغاني أوبرالية وعزف منفرد ولوحات راقصة وتفاعل نحو ألفي مشاهد بينهم عدد كبير من السياح الأجانب، مع مقطوعات "موزار" و"غايتانوتونيزيني" و"جيوفاني بونتو" و"أنطونيو ساليبيري" و"جيوزيبي فيردي" . وفي تصريح قال قائد الأوركسترا مارسيلو روتا " كان هذا الفضاء ساحرًا وملهمًا لتقديم عرض متكامل وجيد".

مهرجان الموسيقى السمفونية بالجم يعتبر بؤرة الضوء في التاريخ الحديث لمدينة الجم، فقد أخرجت هذه التظاهرة مدينة الجم ومعلمها الضخم من الضياع في غياهب النسيان

كما أحيت فرقة أوركسترا "غرفة مايوركا" الإسبانية بقيادة "بيرنات كنغلاس" إحدى سهرات الجم وأثثت السهرة بمعزوفات لموزار كما أدت عازفة الكمان "كاتالينا سوريدا" مقطوعات تفاعل معها الجمهور. واعتلت بعدها الركح "ساندرا فرننديس" بلباسها الأحمر الكتالوني ورددت أغان هادئة قروية تتناغم مع الروح والطبيعة و تمتلئ بالأحاسيس الفياضة وحملت موسيقاها الجماهير في لحظات من الجمال الرائع الممتزج بالأصالة الاسبانية.

مهرجان الجم للموسيقى السمفونية يحتضن العشرات من الفرق الأوبرالية كل سنة وتوشح بأبرزها مثل أوركسترا فيينا وأوكرانيا والنمسا وغيرها من الفرق العالمية، وأبرزها كان حفلًا أحيته أوركسترا الأوبيرا الإيطالية بقيادة "باولو أندريولي" السنة الفارطة خلال الدورة الثانية والثلاثين وذلك إحياء لذكرى "ملك التينور" أو أشهر مغنيي الأوبرا العالميين "لوتسانو بافاروتي".

مسرح الجم تحول بفعل الزمن من حلبة لصراع الأسود إلى ركح للموسيقى والأداء الأوبرالي الراقي وكأنها رسالة عبر التاريخ ترسل إلى الحكام بأن سطوتهم وجبروتهم لا يمكن أن تصمد أمام المشاعر وأحاسيس الحب والحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حديث في أحضان "سيدي محرز".. سلطان المدينة

مهرجان قرطاج الدولي.. السّياق التاريخي ومراكمة الذاكرة الثقافية