24-يوليو-2018

تم اغتيال محمد البراهمي أمام منزله يوم 25 جويلية 2013

تحتفل تونس يوم 25 جويلية/ يوليو من كلّ سنة بعيد جمهوريتها منذ عام 1957 بعد أن قرّر المجلس القومي التأسيسي آنذاك بالإجماع إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية بعد سنة ونصف السنة من إعلان الاستقلال التونسي. إلا أن هذا اليوم الذي يحمل رمزية كبيرة بالنسبة للتونسيين أبى إلا أن يطهر نفسه بدماء بريئة لا ذنب لها سوى أنها صدحت بمواقف جريئة في وقت برزت فيه جماعات لا تقبل الاختلاف ولا تتعامل مع من يخالفها إلا بحدّ السيف وطلقات الرصاص.

تم اغتيال محمد البراهمي أمام مقود سيارته بـ14 طلقة نارية استهدفت ست منها الجانب العلوي من جسده في حين توجهت ثماني طلقات إلى رجله اليسرى

فالخامس والعشرون من شهر جويلية/ يوليو سنة 2013 كان ولايزال يومًا أسودًا في تاريخ تونس. ففي منتصف ذلك اليوم، وعندما كان القيادي في الجبهة الشعبية والنائب المؤسس محمد البراهمي يهمّ بمغادرة منزله، باغتته 14 طلقة نارية وهو أمام مقود سيارته، استهدفت ست منها الجانب العلوي من جسده في حين توجهت ثماني طلقات إلى رجله اليسرى، على مرأى ومسمع من زوجته وأبنائه الخمس. مطلقا النار كانا يمتطيان دراجة نارية من نوع "فيسبا" واستعملا مسدسًا من عيار 9 ملم، وقد كشفت التحقيقات إثر ذلك أن منفذي العملية هما الإرهابيان بوبكر الحكيم ولطفي الزين.

اقرأ/ي أيضًا: نجيبة الحمروني.. أيقونة الصحافة التي احترمها خصومها قبل رفاقها

مثّل اغتيال محمد البراهمي صدمة كبيرة للكثيرين خاصة أنه جاء أشهرًا قليلة بعد اغتيال هز كيان تونس، عندما وقع يوم 6 فيفري/ شباط إطلاق النار على القيادي في الجبهة الشعبية كذلك شكري بلعيد أمام منزله. ولم يكن الانتماء إلى الجبهة الشعبية هو ما يجمع شهيدي تونس بعد الثورة فقط، فقد اجتمعا على انتقاد الائتلاف الحاكم آنذاك وانتقادهما أيضًا لشبكات تسفير الشباب إلى بؤر التوتر. كما كان لكلّ واحد منهما مسيرته التي خطها بسنوات من النشاط والعمل الحزبي.

ولد محمد البراهمي في منطقة الحشانة التابعة لولاية سيدي بوزيد يوم 15 ماي/ أيار 1955 وتنقل في تعليمه الابتدائي والثانوي بين سيدي بوزيد وقفصة. ثمّ التحق بالمعهد الأعلى للتصرّف خلال السنة الدراسية 1977-1978 ليبدأ اهتمامه بالسياسة والنشاط الطلابي.

تمّ اعتقال محمد البراهمي في مناسبتين خلال الثمانينيات وأسّس سنة 2005 حركة الوحديين الناصريين التي عملت في السرية قبل الثورة

خلال سنته الأولى، راقب البراهمي مختلف التيارات الطلابية قبل أن يختار الانضمام إلى الفصيل الطلابي للتيار الناصري والذي كان يُعرف بـ"الطلاب العرب التقدميين الوحدويين". وفي هذا السياق، يقول الأمين العام لحزب التيار الشعبي زهير حمدي لـ"الترا تونس" إن محمد البراهمي كان من الوجوه البارزة في الجامعة والنشيطة في الجامعة التي تخرجّ منها عام 1982.

وطوال مسيرته السياسية اُعتقل البراهمي مرتين، الاعتقال الأول سنة 1981 والثاني سنة 1986، وقد برّأته المحكمة في المناسبتين. وعام 2005 أسس محمد البراهمي حركة الوحدويين الناصريين التي عملت في السرية حتى قيام الثورة التونسية في 2011، ليعلن آنذاك البراهمي عن تأسيس حركة الشعب ويستلم أمانتها العامة ويترشح لانتخابات المجلس التأسيسي في نفس السنة ويفوز بمقعد الحركة عن دائرة سيدي بوزيد، قبل أن ينسحب منها ويؤسس حزب التيار الشعبي سنة 2013.

اقرأ/ي أيضًا: نحيب الصباح الباكر.. وداعًا رفيقي خميّس

ويبيّن زهير حمدي في حديثه لـ"الترا تونس" أن محمد البراهمي جمعته علاقات وارتباطات بفصائل تقدمية وقومية في الوطن العربي ولعب دورًا كبيرًا في ربط الصلة بين القوميين التونسيين والعرب. ويشير في إطار متّصل إلى أن محمد البراهمي لعب دورًا كبيرًا في تصحيح بوصلة الناصريين وآمن أن مكانهم (أي الناصريين) هو العمل مع اليسار لا الحركات الإسلامية واعتبر أنهم يمثلون اليسار العربي الحقيقي وفق قوله. ويبرز محدثنا أن هذا الموقف كان السبب الرئيسي في انشقاق البراهمي عن حركة الشعب وتأسيسه للتيار الشعبي.

زهير حمدي لـ"الترا تونس": الشهيد محمد البراهمي ربى أجيالًا عديدة خاصة أنه كان نموذجًا في السلوك والعطاء السياسي 

ويفيد أن الشهيد محمد البراهمي هو من استقطبه إلى عالم السياسة قائلًا إنه استفاد منه كثيرًا وتعلّم منه العديد من الأمور التي يعلّمها إياه والده رغم أن فارق السن بينهما لا يتجاوز الـ5 سنوات. ويؤكد أن الشهيد ربى أجيالًا عديدة خاصة أنه كان نموذجًا في السلوك والعطاء السياسي على حد قوله.

وبعيدًا عن الجانب السياسي، كان لشهيد الجمهورية ميزات نادرة جدًا قلّما تتكاتف جميعها في شخص واحد. ولعلّ صفة "النبيل" قد تستطيع إلى حدّ ما جمع الخصال التي تمتع بها محمد البراهمي وميّزته عن بقية السياسيين. فالبراهمي كان من النوع الذي يؤثر سعادة غيره على نفسه ويسعد بخدمة الآخرين سواء كان من أصدقائه أو خصومه. كما يقول زهير حمدي لنا إن البراهمي كان إنسانًا صبورًا بشكل عجيب ويتحمل صعاب الأمور، علاوة عن تميّزه بالكرم والجود والعطاء دون حدود حتى لو كان ذلك على حساب عائلته وقوته مؤكدًا أنه كان سخيًا في عطائه.

زهير حمدي لـ"الترا تونس": كان الشهيد محمد البراهمي صبورًا بشكل عجيب ويتحمل صعاب الأمور علاوة عن تميّزه بالكرم والجود والعطاء دون حدود

هذا الجانب الإنساني الذي قد تعود جذوه إلى البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها اجتمع مع صفة تكاد تكون معدومة سواء كان ذلك في المجتمع أو في الطبقة السياسية. فمحمد البراهمي، كما يشدّد حمدي، تمتع بالحكمة وكان رصينًا في اتخاذ المواقف والإعلان عنها.

ورغم أن يد الإرهاب والغدر طالت سياسيًا تحتاج تونس إلى أمثاله إلا أن محمد البراهمي رحل بجسده فقط وترك لأبنائه وزوجته وأبناء شعبه، تاريخًا تحفّه المواقف الجريئة والصادحة وابتسامة صادقة رافقته طيلة حياته وخلّدت ذكراه في تاريخ تونس المعاصر كسياسي من طينة نادرة هي طينة الصدق، وذلك كما يشيد أنصاره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فتحية مزالي: أول وزيرة في تونس وقاهرة الذكورية

توفيق بكار.. عراب النقد الأدبي الذي أوصى خيرًا باللغة العربية