مقال رأي
يوم الأحد 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، سيذهبون لانتخاب رئيس جديد لتونس. لن أغامر بالتنجيم فيما يمكن أن يحدث. لكن بلا شكّ أننا إزاء انتخابات رئاسية رتيبة، وليست إلا أحد تمظهرات ركود سياسي ثقيل. سأتحدث هنا عن الاحتمالات الواقعية الممكنة وبوضوح خاصة "ما العمل؟"، وكنت ناقشت بشكل أولي هذه المسألة في المقال السابق (معضلة المشاركة والمقاطعة في الانتخابات الرئاسية التونسية). لكن سأتحدث قبل ذلك عن مراحل الرتابة وحتمية الركود، عن بسيكولوجيا المرحلة التاريخية التي نمرّ بها، كمقدمة لاستكمال مناقشة طبيعة المرحلة الراهنة عمليًا.
المشاركون والمقاطعون في الانتخابات الرئاسية، وتخوين أي طرف منهم للآخر مضيعة للوقت، إذ أنهم جميعًا بلا استثناء لا يملكون حصرًا القدرة على التغيير الفوري لموازين القوى
نرفض أحيانًا أن نفهم أننا نعيش الرتابة، بمعنى هي مرحلة تاريخية تتجاوز رغباتنا وأمانينا. أن نقبل أن الزمن الذي نمر به أحيانًا بلا معنى أو أثر، أننا نعيش ثقبًا أسود زمنيًا. نوعًا من مضيعة الوقت التاريخي. هناك مراحل في التاريخ لا يحدث فيها الكثير. أحيانًا لا شيء تمامًا. مجرد الفراغ. العشرية السابقة للحرب العالمية الأولى. أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة زمن بن علي. بداية القرن التاسع عشر زمن الدولة الحسينية. أواخر العشرينات في تونس. مصر الثمانينيات.. إلخ.
في هكذا مراحل، نحن لسنا إزاء منعطفات درامية، حركة سريعة ملتهبة، أو حالة عامة من الشغف والشغب والعنفوان. فقط الرتابة. هذا بعكس تمامًا حالة العنفوان والشغف التي تعتمل في سياق المعركة في فلسطين وحولها الآن. ذلك سياق آخر مختلف تمامًا ويتجه عكسيًا مع مسار الحالة التونسية. ولهذا هو مصدر الشغف الوحيد للتونسي في هذه اللحظة.
ما ستحققه المشاركة في الانتخابات يفوق بكثير ما يمكن أن تحققه المقاطعة، لأن ما يخشاه الرئيس المنتهية ولايته وفريقه المحيط به وأنصاره المقربون هو تحديدًا المشاركة بجدية
وتحصل الرتابة بالأساس عندما يصل الشغف والعنفوان إلى مستويات قصووية. مثل الشغف العاطفي الذي يصل إلى حدّ التلبس الكامل بالعشيق، الانغماس المطلق. يمسّ حدود أفقه. وينتهي إلى حالة من الرهاب من إمكانية فنائه. أو ببساطة خيبة الأمل من أنه ليس أبديًا أو استثنائيًا أو حتى حقيقيًا.
"عشرية الانتقال" تشبه هذا النوع من الشغف العاطفي. حالة من الانغماس القصووي الطاهر، "جمال البدايات"، سنة 2011، ثم المسار المتعرج، بهبوط وصعود مثل الأسنان الحادة للمنشار، المسار البطيء لكن المؤكد، نحو الخيبة الشاملة. حيث انتقل حلم الخلاص الجماعي إلى صدمة وشعور عام بالخيانة والهجران. وانتقلنا إلى هيمنة حلم "الخلاص الفردي". ومن ثمة هجرة السياسة.
ألّا يوجد شغف في هذه الانتخابات ليس فقط مردّه الفعل التسلطي لصاحب السلطة. حتى هو نفسه فقد الشغف، الذي صاحبه في حالته الطهورية المبكرة التي أوصلته إلى السلطة. بات محاطًا بحبليْ القرابة والأجهزة. استعاض عن عفوية وبراءة الـ2019، بحالة من الخمول، والرفض العملي للقيام بالحملة أصلًا، طبعًا تحت عنوان ألا منافسين هناك، إذ لا معنى للمنافسة والتنافس وأنت تقود "حرب التحرير الوطني". الحرب يقودها رئيس أركان واحد. لا توجد "دولة داخل الدولة"، أو تحرير داخل التحرير.
والحقيقة لو يتدبر صاحب السلطة ويسترشد بحكمة التاريخ لفهم أن أي انتصار زمن انفضاض الناس عن السياسة هو أهم مؤشرات حكم زائل بالضرورة. في حين أنّ الانتصار زمن التفاف الناس حول السياسة والتحامهم بها يعني إمكانية الاستدامة بشرط الإنجاز.
أول وأهم ما تحتاجه تونس في لحظة الركود الحالية والرتابة، هو العمل بكل جهد على المشاركة المكثفة في الانتخابات
في الحقيقة، هو، وأيضًا المعارضة المنقسمة والتائهة والتي تلاحق الأحداث وتلهث وراء اللحظة، رغم رتابتها، كما أيضًا بقية الناس، من تبقى منهم يهتم بالكاد بهذا الميدان ("الدومان" كما يمكن أن يقول التونسي "العادي")، ليسوا جميعًا إلا تعبيرًا عن مهجة اجتماعية مهيمنة، تبرمت من كل شيء. لم تعد تهتم أصلًا. تعيش الرتابة وتتعايش معها، بل تعتبرها ملهاة تستحق السخرية. عمليًا مهجة مهيمنة تستمتع بالرثاثة، والإحباط، وتعتبرهما أمرًا يستحق الاهتمام، ولمَ لا؟ المديح!
أقول كل ذلك، لأن سطوة الحكم التسلطي لوحدها لا تقدر ولم تقدر أبدًا في تجربة تاريخية، أن تصنع الرتابة. بل أحيانًا هي الحافز لحالة العنفوان والديناميكية، واستحثاث الرفض والتحدي. لكن عندما تأتي في سياق عام، والسياق بمعنى مسار الزمن المركب هو دائمًا المفتاح للفهم والتفهم، منعرج منحنٍ يطغى فيه التبرم والخيبة والسلبية واليأس، فإن السياق هو الرئيسي وليس الفعل المتسلط.
كل شيء يشير إلى أن السلطة لا ترغب في أن تكون الانتخابات حدثًا أصلًا. هي ترفض أن تقوم بحملة لنفسها بالأساس.. تخشاها! وسؤال لمن يصوّت المشاركون، ثانوي أمام مسألة المشاركة المكثفة
ورغم ذلك، ومن أجل ذلك بالتحديد، فإن الفاعل السياسي يتميز تحديدًا بأنه "فاعل". وليس مشاهدًا من على الربوة. ولهذا يجب أن يسائل الرتابة ويتحداها. قلت ومازلت أقول إني أحترم كل الاجتهادات الصادرة عن مختلف الفاعلين خاصة المعارضين منهم، المشاركين والمقاطعين في هذه الانتخابات. بل يجب القول إن تخوين أي قطاع فيهم للآخر مضيعة للوقت، إذ أنهم جميعًا بلا استثناء لا يملكون حصرًا القدرة على التغيير الفوري لموازين القوى. إذ يجب الانطلاق بتواضع أنّ اللحظة ليست طازجة للطهي السياسي، وناضجة للتغيير عبر القرار والموقف السياسيين.
يبقى أنّ -في رأي قلته ولا أزال- المشاركة هي الموقف الأكثر قدرة على الفعل، ليس الآن كما شرحت بل ما بعد 6 أكتوبر/تشرين الأول. يتركز حجاج العديد من أنصار المشاركة وأيضًا المقاطعة على نقطة أساسية: هل يمكن الانتصار في هذه الانتخابات على قيس سعيّد؟ أو بشكل أدق: هل يمكن أن يسمح هو لأحد بالانتصار عليه؟.
السؤال هنا عملي ذرائعي بشكل مباشر. يتعلق بإمكانية الانتصار والهزيمة. في حين أن المشكل الرئيسي يقبع في مكان آخر تمامًا. الانتصار الآن الوحيد الممكن هو في إمكانية استنهاض الناس، تلك المهجة الاجتماعية المهيمنة التي تميل إلى الخمول والركود، استنهاضها لتعيد بعض الثقة إلى السياسة. مثل محاولة استعادة ثقة عشيق تعرض إلى الخيانة في الحب، مرة أخرى. تلك أعظم تحديات أي فاعل سياسي في الزمن الراهن.
الدعوة المستميتة من أجل المشاركة المكثفة هي مفتاح مرحلة جديدة، فذلك قدر الفاعل السياسي إن قرّر أن يكون فاعلًا وليس مفعولًا به
وهنا، ما ستحققه المشاركة يفوق بكثير ما يمكن أن تحققه المقاطعة، في رأيي. لأن ما يخشاه الرئيس المنتهية ولايته وفريقه المحيط به وأنصاره المقربون هو تحديدًا المشاركة بجدية، طرح قضايا السياسة ومنها الحصيلة والخيبة "25 جويلية/يوليو"، مجرد استنهاض النقاش وتحدي قدرة السلطة على تقبل المنافسة الجدية إلى آخر رمق، ومن ثمة رفضها المتوقع لأي احتمال للهزيمة، ذلك المسار وما يحمله من قدرة على استفزاز حالة الضعف في السلطة، لا تقدر بأي شكل من الأشكال أن تفعله المقاطعة. وهو تحديدًا ما سيحفز ذائقة الناس مرة أخرى نحو السياسة، ويحرّك بعض الشغف لها في أعماقهم.
أول وأهم ما تحتاجه تونس في لحظة الركود الحالية، العمل بكل جهد على المشاركة المكثفة في الانتخابات. كل شيء يشير إلى أن السلطة لا ترغب في أن تكون الانتخابات حدثًا أصلًا. هي ترفض أن تقوم بحملة لنفسها بالأساس.. تخشاها. مسألة لمن يصوت المشاركون ثانوية أمام مسألة المشاركة المكثفة، إذ أن الناخبين لديهم بسيكولوجيتهم الخاصة في كيفية تقرير "التصويت المفيد" في آخر أيام وساعات الانتخابات. لكن الأهم أنه كلما اقتربنا ونقترب من موعد 6 أكتوبر/تشرين الأول، يزيد خوف من يخشى انتخابات حرة ونزيهة، ويراكم الأخطاء والتعديات والفتاوى الغريبة والأخطاء الجسيمة وتغييرات آخر لحظة بما يحمله كل ذلك من ارتباك وتململ.
كلما اقتربنا ونقترب من موعد 6 أكتوبر 2024، يزيد خوفُ من يخشى انتخابات حرة ونزيهة، فيراكم الأخطاء والتعديات والفتاوى الغريبة والأخطاء الجسيمة
المشاركة المكثفة ستعني بالضرورة استفاقة خائبي الأمل من السياسة واليائسين منها، استعادتهم للرغبة والشغف، ومن ثمة وبشكل حتمي الوقوف على أننا نسير في الطريق الخطأ، وأننا في حاجة للتغيير. وكلما تقدمت السلطة في خطوات إلغاء الأصوات والحد الانتخابي الأدنى أصلًا، سيعني ذلك أن مرحلة ما بعد 6 أكتوبر/تشرين الأول، ستكون مجالًا للرفض المتصاعد لبقاء الوضع كما هو.
الدعوة المستميتة من أجل المشاركة المكثفة هي مفتاح مرحلة جديدة، والطريق الوحيد لاستعادة المهجة الغالبة من الناس إلى السياسة وميدانها. فقط هجرانهم لها ما يجعل الحكم التسلطي في طريق مفتوح. ومرة أخرى لا أقوم بالتنجيم هنا، فقط أقرأ بعض التاريخ.
ما العمل إذًا؟ المشاركة ثم المشاركة. ذلك قدر الفاعل السياسي إن قرّر أن يكون فاعلًا وليس مفعولًا به، ومجرد موضوع رتيب عابر في التاريخ.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"