05-مارس-2018

في أيامنا هذه ـ هكذا يقولون ـ ليس لدينا في اعتقادي من مدخل جدي للفرح سوى الفلسفة. أو لنقل تلك الفهلوة الفكرية المتاحة لنا نحن جيل الصغار كي نتلاعب، أكروباتيًا، ببؤس النصوص المقدسة حتى نجد فرصة لنستفرد بالطبيعة المحضة، فنستكشفها دون سلطة علوية نستدعيها بالدعاء وبالتعاويذ التي نسمعها في القبور. وهنا أستحضر ما قاله الشاعر الفرنسي الأنيق شارل بودلير حينما قال إن "الكتب المقدسة، مهما كانت الأمة التي تنتمي إليها، لا تضحك أبدًا". وقد تبادرت إلى ذهني تلك المقولة عندما كنت منهمكًا في تقشير بعض الجزر تمهيدًا لرميه في حساء الخضار.. فقد قال لي الطبيب إن هذا النوع من الحساء جيد لمرضى الزكام.

طبعًا لم يأت استلهام بودلير وحديثه الشيق عن النص المقدس هكذا اعتباطًا، فذهني، وإن كان قاصرًا ومحدودًا، إلا أنه يعاني النظام. فقد استفقت صباح أحد أيام الخميس من الأسابيع الماضية على حملة في موقع فيسبوك لمساندة الصديقة أماني زميط، أستاذة الفلسفة في أحد معاهد مدينة الصخيرة بالجنوب التونسي. وقد أطلق عدد من المثقفين هذه الحملة للوقوف بجانب أماني لأنها تتعرض لحملة تهديد وتشويه من قبل أشخاص قد تخفوا وراء أسماء مستعارة في الموقع الأزرق ولفقوا لها تهمًا باطلة من بينها "تحريض التلاميذ على عدم قول بعض الكلمات التي يرددها المسلمون".

تابعت ردود أماني على صفحتها في فيسبوك، وقد نفت نفيًا تامًا أن تكون قد تجاوزت المقدس. كما تابعت بيان نقابة التعليم الثانوي حول الموضوع وكيف أنهم أشادوا بالمجهودات التي تقوم بها أماني زميط من أجل إيصال المضامين العلمية إلى التلميذ. وأعتقد أنا شخصيًا أنها بالفعل أستاذة مجتهدة، أو هكذا يخبرني حدسي الصحفي، بالرغم من "فشل" الأستاذة في جعل تلاميذها متقبلين لأسس التفكير الفلسفي وفق المنطق الديكارتي "الشك المنهجي في كل شيء".

يؤرقني مشهد أتخيله دائمًا.. وهو أن أستفيق في يوم من الأيام قاصدًا حانتي المفضلة فأجد مظاهرة تحتج على وجود الحانات وتدعو إلى إيقاف بيع الخمرة

لن أناقش القضية في ذاتها، فقد مرت حالات كثيرة أمام ناظريّ تخص التكفير ونعت الناس بالزندقة والإلحاد لمجرد إبداء رأيهم في مسألة أو في خضم نقاش أو عند إلقاء درس. لكن الأمر الذي استوقفني هو أن الإنسان في تونس لا يزال قابعًا في تلك الحفرة اللعينة التي يعاني فيها من العتمة الصماء: إنسان تخرج من رأسه رائحة عجيبة مليئة بالتعفن. إذ كيف لتلميذ باكالوريا أن يتسبب في اندلاع حملة مقيتة على أستاذته لأنها دفعته لإلقاء نظرة على مساحة لا يعرفها، عوض أن يشكرها بدموع خاشعة أمام جلالة العلم؟ هل لا تزال المنظومة التربوية والتعليمية في تونس تنتج مثل هؤلاء الصبية؟ أو لنسأل السؤال من زاوية أخرى: هل لا نزال قادرين على استيعاب مثل هؤلاء في الجامعة وفي الشارع وفي محطة الحافلات وفي المقهى وفي الحانة وفي المطعم؟

يؤرقني مشهد أتخيله دائمًا، وهو أن أستفيق في يوم من الأيام قاصدًا حانتي المفضلة، فأجد مظاهرة تحتج على وجود الحانات وتدعو إلى إيقاف بيع الخمرة.. يا ويلي! ستحل عليّ الكارثة، وسيحل العطش والهمّ والغمّ والحيرة والوجوم. وسوف أنهي كتابة مقالاتي ولن أجد الجعة التي تنسيني ألم الكتابة، وسوف أخرج ليلة الجمعة أنا وصديقتي ولن نجد ركنا أنيقًا نحتسي فيه النبيذ، وسوف لن أسكر ولن أرقص ولن أعربد ولن أغني.. وسوف لن ألتقي بأصدقائي.. يا ويلي!

اقرأ/ي أيضًا: وجدي غنيم.. تكفير بالجملة يستفز التونسيين وإعلام السيسي ينتهز الفرصة!

قد يقول البعض إن هذا تطرف في تصور الأشياء، نعم ربما يكون الأمر كذلك في هذه اللحظة، لكن بالعودة إلى صبية الباكالوريا وكيفية تفاعلهم مع درس الأستاذة، فمن غير المستبعد أن ترى رجلًا له لحية غاضبة ويمشي بارتباك أمام أربعة أعمدة سوداء هن نساؤه.. منظر قبيح. أو أن تسمع عن فتوى تحرم الضحك بعد أن حرموا الخمرة البريئة من كل ذنب ارتكبه الإنسان بعد ديونيزوس. ولئن كانت خيالاتي هذه ـ على بساطتها وسذاجتها ـ قد تظهر "كليشيهات" تم استهلاكها في الرقة والموصل وسرت، إلا أن الخوف كل الخوف يكمن في التطبيع معها واعتبارها بالفعل كليشيهات.

الإرهاب لا يتفلسف، وبالتالي لا يضحك. وأنا أحرك قدر حساء الخضار بعد أن رميت قطع الجزر، عادت بي الذاكرة إلى باريس، يوم الأربعاء 7 يناير/ كانون الثاني 2015. استيقظت متثاقلًا في ذلك الصباح بعد جولة مرهقة في ضواحي باريس ـ الباردة جدًا ـ أبحث فيها عن عنوان الأستاذ جورج طرابيشي الذي أعطاني عنوانه دون أن يذكر رقم الضاحية، لكنه أجابني آخر المساء بأن نلتقي بعد أيام في حديقة مونمارتر.

في ذلك اليوم حدث أن هاجم عدد من المتطرفين مقر صحيفة "شارلي إيبدو" بالأسلحة الأوتوماتيكية، وقد قتلوا 12 شخصًا. لا علينا في ذكر تفاصيل ذلك اليوم بالنسبة لي، لكني عدت إلى نيتشه بشكل تلقائي قبل أن أخلد إلى النوم، وقد قرأت له في كتاب "ما وراء الخير والشر" جملًا مقتضبة عن الضحك والآلهة قائلًا "إني أميل إلى ترتيب الفلاسفة انطلاقًا من كيف يضحكون، بأن أنزل في أعلى السلم أولئك القادرين على ضحكة من ذهب. وإني لا أشك أبدًا في أن الآلهة نفسها تتقن الضحك على نحو ما يفوق الإنساني".

الإرهاب لا يتفلسف، وبالتالي لا يضحك

لقد أبقى نيتشه على مَلَكة الضحك لدى الإنسان الخارق، بالرغم من مقته الشديد لميزات الإنسان العادي. إلا أنه فضل استعارة هذه المَلَكة ووضعها صلب نظريته الغاضبة على واقع إنساني ضعيف وتافه ومستسلم. بل ولعل الضحك يعد المعيار الرئيسي على التمييز بين إنسان وآخر. فالضاحك إنسان قابل للالتحاق بمملكة نيتشه الخارقة، وأما العبوس فليبقى مع النص المقدس نادمًا حقودًا ينظر بغضب من الأعلى.

ماذا لو تخلت الإنسانية عن الدين؟ لقد سمعت هذه النبوءة من المؤرخ التونسي الكبير هشام جعيط قال فيها إن "الإنسانية تتجه نحو التخلي عن الدين". وأعتقد أن الرجل لا يقصد هنا غلبة التكنولوجيا والعلوم على الميتافيزيقا، بالقدر الذي أنا متيقن فيه أن القصد هو أن الإنسانية تتجه تدريجيًا نحو التخلي عن بعض الحمق الذي علق في مسيرتها. ولا أقصد هنا أن الدين حمق، بل أقصد ذلك الفلكلور الذي ورثناه واعتقدنا أنه من لوازم الطقوس والعبادات.. مثل ذبح "الكفار" مثلًا، أو تفجير المقاهي، أو ضرب الناس، أو نعت أستاذة فلسفة بأنها ملحدة.. لقد استوى حساء الخضار، سأتركه ليبرد ثم أعود إليه.. وبعدها سأنام كما قال لي الطبيب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أبو القعقاع.. في تونس أيضًا!

بهائيو تونس.. بين تجاهل السلطة والتعايش المنقوص