تمثّل الاحتجاجات التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر المنظمات النقابية في تونس، ضد السلطة يوم 26 كانون الثاني/يناير 1978 حدثًا فارقًا في تاريخ البلاد، لأنها أول الاحتجاجات الشعبية وأكثرها دموية منذ استقلال البلاد سنة 1956، وقد عكست وقتها أوجّ الأزمة السياسية والاقتصادية بسبب تضييقات السلطة وسعيها للسيطرة على المجال العامّ، وذلك بالإضافة لانتهاج الحكومة لسياسات اقتصادية ليبرالية لقيت رفضًا من المنظمة الشغيلة.
قبل أحداث الخميس الأسود سنة 1978، كانت تونس تعيش على صفيح ساخن بعد إعلان بورقيبة نفسه رئيسًا مدى الحياة سنة 1975
قبل اندلاع أحداث الخميس الأسود سنة 1978، كانت تعيش البلاد على صفيح ساخن حيث اتجهت السلطة لتكثيف قمعها على الأصوات المعارضة خاصة بعد إعلان بورقيبة نفسه رئيسًا مدى الحياة سنة 1975. ففي آذار/مارس 1977، تمّت إدانة 30 عنصرًا من حركة الوحدة الشعبية بتهمة الاعتداء على أمن الدولة، وهذه الحركة المعارضة كان أسسها من المنفى أحمد بن صالح، الذي قاد التجربة الاشتراكية للبلاد في الستينيات قبل عزله من بورقيبة ومحاكمته بتهمة الخيانة العظمى له قبل هروبه من السجن. كما منعت السلطة، في شهر حزيران/يونيو من نفس السنة، عقد المؤتمر الوطني للحريات، الذي أعدته شخصيات من حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بقيادة الوزير السابق أحمد المستيري.
اقرأ/ي أيضًا: في الذكرى الـ171 كيف ولماذا ألغيت العبودية في تونس؟
بالتزامن مع هذه التضييقات، عرفت البلاد صعوبات اقتصادية حادّة وتعدّدت احتجاجات العمّال وإضراباتهم حيث بلغت ساعات العمل الضائعة أكثر من 1.2 مليون ساعة عمل سنة 1977 فقط. وطالب اتحاد الشغل في نهاية هذه السنة السلطة بتدارك الوضع خاصة في ظلّ الخيار الأمني المعتمد ضد المحتجّين. وقد ألقى هذا الملف بظلاله على السلطة حيث تم قبيل انتهاء السنة عزل وزير الداخلية فيما استقال 6 وزراء من الحكومة.
واعتمدت السلطة حينها في صدامها مع النقابيين على مليشيات تابعة للحزب الحاكم، وقد بلغت الصدامات أوجّها يوم 20 كانون الثاني/يناير 1978 في ذكرى تأسيس المنظمة الشغيلة حيث هاجمت هذه المليشيات اجتماعًا لها وتتالت الهجمات على مقرات عدة في مختلف المحافظات. وردًّا على ذلك، أعلن الاتحاد الإضراب العام يوم 26 من نفس الشهر.
كان يوم الإضراب يومًا داميًا في تونس، حيث حاصرت السلطة مقرّ الاتحاد الذي كان دعا أنصاره لعدم النزول للشارع لتجنب استفزازات الحزب الحاكم الذي دعا قبل الإضراب بيوم أنصاره للنزول للشارع لمنع الإضراب. غير أنه خرج آلاف المحتجين للشارع وواجهتهم القوات الأمنية بالقمع والاعتقال، ولم ينته اليوم حتى تم إعلان حالة الطوارئ وتدخّل الجيش.
اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات شعبية في تونس عشية ذكرى الثورة
وقد خلفت هذه الأحداث مئات القتلى والجرحى وامتلأت السجون بآلاف من العمال والنقابيين والطلبة وغيرهم. تحدثت الحكومة لاحقًا عن 52 قتيلًا و325 جريحًا، فيما تحدّث المعارض أحمد المستيري عن 140 قتيلًا وتتحدث تقارير مستقلة عن 300 قتيل، ولا يزال التضارب حول العدد النهائي لضحايا الخميس الأسود، الذين سقطوا قبل قرابة 40 سنة، إلى اليوم.
خلفت أحداث الخميس الأسود في تونس 1978، إثر قمع الشرطة للإضراب، مئات القتلى وامتلأت السجون بآلاف من العمال والنقابيين والطلبة
وقد واصلت السلطة لاحقًا في تصعيدها باعتقال قيادات المنظمة الشغيلة حيث تم إزاحة الحبيب عاشور من قيادتها بالقوة وتنصيب قيادة جديدة موالية للسلطة. وحوكم الحبيب عاشور في نهاية السنة بالسجن لمدة 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، قبل أن يقع إطلاق سراحه بعد سنة، وليعود لاحقًا لقيادة أكبر المنظمات العمالية في البلاد.
تعاملت السلطة بقمع أمني شديد مع هذه الاحتجاجات، وقد كان الرئيس بورقيبة حينها وقد بدأت عليه مظاهر العجز الصحي، حيث تكثفت صراعات الأجنحة داخل السلطة من أجل خلافته. ويتهم اتحاد الشغل الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بوقوفه وراء تأجيج الصدام يوم الإضراب حيث كان وقتها مديرًا عامًا للأمن الوطني.
لا تزال للآن أحداث الخميس الأسود صفحة دامية لم يقع بعد معالجتها ولم تُكشف الحقائق حولها. فهي أول الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بورقيبة الذي بدأ يفقد توازنه نهاية السبعينيات حتى تكرّرت لاحقًا احتجاجات شعبية سنة 1984 ليتواصل تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد طيلة الثمانينيات وهو ما اتخذه المخلوع بن علي كذريعة ليقوم بانقلاب أبيض سنة 1987 ولتعرف تونس نظامًا دكتاتوريًا جديدًا ظلّ جاثمًا على صدور الشعب حتى اندلاع الثورة نهاية 2010.
ومن المنتظر أن تعقد هيئة الحقيقة والكرامة، التي تتولى تنفيذ مسار العدالة الانتقالية بالبلاد، يوم 26 كانون الثاني/يناير الجاري في الذكرى 39 لأحداث الخميس الأسود جلسة استماع علنية خاصّة حولها قد تمثّل فرصة لكشف الحقيقة وحفظ الذاكرة الوطنية عن واحدة من الصفحات الدامية في تاريخ البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: