17-سبتمبر-2018

عرفت تونس توافدًا غير مسبوق من سياح أوروبا الشرقية في السنوات الأخيرة (كريس ماغراث/getty)

خلال إقامتي بأحد النزل في منتجع سياحي تونسي لم يكن من العسير أن تتفطن بأنك تقضي عطلتك بين قوم لا تفقه لغتهم، وقد تكتشف لأول وهلة أنك جاهل تمام الجهل بألسنتهم التي لم تتعود عليها الأذن. هي لغة تبدو لك في شكل سلسلة من الأحرف المنطوقة تصيغ جملًا لا يمكن أن تفهم أنها مفيدة في غياب تعابير أو تقاسيم على وجوه شخوص قيل إنهم سياح وافدون من أوروبا الشرقية وخاصة من روسيا.

عصفت بذهني مجموعة من الأسئلة حامت حول الفعل التواصلي بين هؤلاء الوافدين ومتعهدي الخدمات السياحية والتجار وعملة النزل الذين يجدون أنفسهم أمام سوق جديدة مختلفة عن الأسواق السياحية التقليدية التي تعّود بها التونسي منذ أواسط القرن الماضي والمتكونة أساسًا من جنسيات فرنسية وألمانية وأنقليزية وإيطالية.

رافق الانتعاشة السياحية في تونس توافد عدد كبير من السياح من بلدان أوروبا الشرقية قادمين بثقافة لغوية وسلوكية جديدة على التونسيين على خلاف السياح التقليديين من فرنسا وأنقلترا وإيطاليا

إذ رافق الانتعاشة السياحية في تونس، في السنوات الأخيرة، توافد عدد كبير من سياح بلدان أوروبا الشرقية وخاصة من روسيا وبولونيا وأوكرانيا وصربيا، وقد جلبت معها هذه السوق ثقافة لغوية وسلوكية جديدة سواء في الاتصال أو المعاملات.

وتتميّز كل دولة في أوروبا الشرقية بتاريخها وعاداتها وتقاليدها وحياة شعوبها ولغتها وطقوس دينها. ومن أهم بلدان هذه المنطقة كرواتيا وألبانيا والتشيك وبولندا وصربيا وروسيا وسلوفينيا وأوكرانيا. وتتحدث أغلب مناطق أوروبا الشرقية اللغة السلافية والتي تُعرّف بأنها "مجموعة من اللغات المتقاربة التي تتحدث بها الشعوب السلافية، وتندرج كمجموعة فرعية من اللغات الهندو أوروبية يتحدثها سكان أوروبا الشرقية والبلقان وجزء من أوروبا الوسطى وجزء في شمال آسيا".

اقرأ/ي أيضًا: الجزائريون يتشبثون بالساحل التونسي وجهة سياحية وجدل حول العرض السياحي المقدم

ولئن اعتبر الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر أن "اللغة مغامرة"، فهي بالفعل كانت كذلك لدى فئة من المجتمع التونسي الذي يتصل بمصلحة مباشرة مع السائح من بلدان أوروبا الشرقية مما يدفعه إلى خلق آليات التواصل وتنمية مهارات الاتصال بكافة الطرق المتاحة.

إتقان اللغة من أجل الزواج والهجرة

هنا في إحدى أسواق المدينة العتيقة بسوسة حيث يتوافد مئات من السياح يوميًا، لاحظنا وجود عدد من التجار وأصحاب محلات بيع الصناعات التقليدية يستعينون بأشخاص يعتبرون "وسطاء" بينهم وبين السائح الأجنبي. يتقن هؤلاء لغات مختلفة ولهم براعة فائقة في استقطاب السائح واستدراجه نحو ابتياع بضائع تذكارية من السوق ويطلق عليهم "البزناسة".

أيمن: بعد أن ألفنا لغة الفرنسيين والألمان والأنقليز، ها نحن نألف لغة الروس والبولنديين والصرب وغيرهم والهدف واحد وهو كسب قوت يومنا لنعيش

وقد فقه هؤلاء "البزناسة" الصفات الطبيعية والثقافية لتلك الشعوب الزائرة فيكفي أن يشاهده حتى يتبين جنسيته فيتقرب إليه مستعملًا لغته، ويبدي تقربًا بإظهار كافة مؤهلاته وخبرته ببلد السائح وما إن يطمئن إليه حتى يكون أحد زبائنه ويكون له نصيب مادي من الربح التجاري.

اتصلنا بأيمن أحد هؤلاء "البزناسة" الذي لم يعتبر إتقان لغة بلدان أوروبا الشرقية مغامرة على خلاف ما ذهب إليه مارتن هيدغر بل قال "نحن لا نبقى عاجزين عن اتقان أي لغة وافدة مهما كانت صعوبتها وذلك من أجل كسب المال، فبيننا وبين الكسب المادي تنتفي كل لغات العالم". وواصل قائلًا: "وكما ترى بعد أن آلفنا لغة الفرنسيين والألمان والأنقليز، ها نحن نألف لغة الروس والبولنديين والصرب وغيرهم، ونحن نستعد كذلك لإتقان اللغة الصينية كلما ازداد عدد توافدهم بيننا والهدف واحد كسب قوت يومنا لنعيش".

العاملون في القطاع يسعون لإتقان لغات السياح لتيسير التعامل معهم (بشير بالطيب/أ.ف.ب)

حسن الشطبوري أحد الباعة بمحل للصناعات التقليدية قال أيضًا "تعلمنا اللغة الروسية من خلال الممارسة والتواصل مع السائح ولم نقم بأي تكوين أكاديمي، نحن نفقه مصطلحات التجارة ولا نفقه في عبارات السياسة" حسب تعبيره. وأضاف حسن بالقول: "أكثر المصطلحات ترديدًا هي عبارات الترحيب ومصطلحات النعل الجلدي وحافظة الأوراق والنرجيلة وغيرها من البضاعة المعروضة أما الأثمان والمقادير فلا تستعصي على الجانبين فيكفي الإشارة لتدل على القيمة ".

وختم حسن حديثه لـ"الترا تونس" قائلًا: "السائح الروسي بالخصوص متعصب للغته ويرفض التحدث بلغة غيره ونادرًا ما يستعملون لغة بلد أوروبي آخر مثل الفرنسية والانقليزية لتسهيل لغة التخاطب إلا إذا كانوا قد زاروها سابقاً أو مقيمين فيها".

حسن الشطبوري (بائع) لـ"الترا تونس": نحن نفقه مصطلحات التجارة ولا نفقه في عبارات السياسة والسائح الروسي متعصب للغته ويرفض الحديث بلغة غيره

حدّثنا، في الأثناء، النوري السوسي، أحد العاملين في القطاع السياحي في السبعينيات، قائلًا: "أواسط القرن الماضي لما ازدهرت السياحة، كان القطاع ملاذًا للمنقطعين عن الدراسة من الشباب، وكان أغلب العاملين فيه يعانون الأميّة ورغم ذلك كانوا يتقنون جيدًا اللغات ومنهم من غادر البلاد نحو أوروبا وتزوج هناك". وأضاف السوسي مازحًا "جمال الحسناوات الأوروبيات كان التحدي الأكبر للشباب لكي يتحدوا حاجز اللغة".

اقرأ/ي أيضًا: "سوق القايد" في المدينة العتيقة بسوسة.. حفر في ذاكرة الحرف والفنون

حسناوات أوروبا الشرقية كنّ إحدى عوامل الجذب السياحي نحو كسر حاجز اللغة، فقد التقينا إسكندر.ح أحد المنشطين في القطاع السياحي الذي قال: "بعيدًا عن لغة التجارة والمال، العديد من الشباب يسعى إلى التقرب وطلب الود من السائحة الأجنبية كلّفه ذلك ما كلّفه من أجل الارتباط بها والتزوج من أجل مغادرة أرض الوطن بطريقة نظامية ولا يلتجئ إلى الهجرة عبر قوارب الموت".

غياب استراتيجية وطنية لتعليم اللغات الأجنبية

اعتبر بسام بوزعبية موظف سابق في أحد النزل، من جهته، أن "التونسي ذكي فإن خانته اللغة استعمل الإشارة فالمهم أن يتواصل ويحقق الهدف المنشود، ولا أنكر أن بعض النزل كانت تمكن عملتها من تكوين أكاديمي في اللغات خاصة للعملة المتصلين مباشرة بخدمات الزبون".

وفي تصريح لـ"الترا تونس" أدلى به مراد البحري رئيس لجنة السياحة والتراث ببلدية سوسة قال: "هناك غياب استراتيجية وطنية لتعليم اللغات الأجنبية خاصة وأن نوعية السياح القادمين إلى تونس نوعية جديدة خاصة منهم القادمين من أوروبا الشرقية، وهذه الشعوب تعتز بلغتها ولا قابلية لها لاستعمال لغات أخرى"

التونسي العامل في القطاع السياحي إن خانته اللغة استعمل الإشارة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

وأضاف البحري قائلًا: "تضررت السياحة من غياب الاستراتيجية في التكوين في اللغات مع غياب التهيئة الفكرية والثقافية لقبول هذه النوعية من السياح وهذا يؤثر سلبًا على المردودية من المنتوج السياحي، رغم أن التكنولوجيا الحديثة واستعمال الهواتف الذكية قد عزز دور التواصل وخفف من حجم الإخفاق في اتقان لغة الأجنبي".

 مراد البحري رئيس لجنة السياحة والتراث ببلدية سوسة: تضررت السياحة من غياب الاستراتيجية في التكوين في اللغات مع غياب التهيئة الفكرية والثقافية لقبول سياح أوروبا الشرقية

وعليه قد لا نختلف في أن "اللغة لئن كانت لا تزال أداة التواصل الأولية بين البشر نظرًا لما تتسم به من بعد كوني فإن تعدد الألسن يمكن أن يكون عائقًا في فهم المختلف ثقافيًا" حسب قول الأستاذ الصحبي الماجري.

ولكن لا بد من تهيئة الأرضية الملائمة لإنجاح عملية الاستقطاب السياحي لشعوب لم نألفها من قبل في إطار الانفتاح الاقتصادي والثقافي، وذلك لتحقيق أهداف منشودة تحقق التنمية والنمو بعيدًا عن "الرعوانية" التي نشاهدها اليوم في قطاع الخدمات السياحية والتي تجلت في ضعف اتقان اللغات الأجنبية. أما عن الباحثين عن سائحة حسناء من أجل الزواج والهجرة، فلا خوف عليهم!

 

اقرأ/ي أيضًا:

"ويني فلوس السياحة؟".. سؤال طرحه الشاذلي العياري لا حسم في إجابته

باعة المشموم.. عندما يتحوّل الياسمين إلى خبز