06-مارس-2019

لقد لعبت التكنولوجيا دورها في إغواء المرأة الباحثة عن البروز (صورة تقريبية/ كريستيان فيريغ/ Getty)

 

مقال رأي

 

قد يبدو السؤال من الوهلة الأولى مقلقًا وعنيفًا بما يحمله من شحنة من العنف المبني على فعل الاختراق وكسر الحلقات المغلقة في حياة النساء والمرأة المفردة، خصوصًا ونحن نعيش على اعتقاد ملكيتنا للتكنولوجيا لا ارتهاننا لها ولكن الدهشة يجب أن تزول ونحن نفكّك علاقة هذه الأخيرة بالنساء وتمثلاتهن صلب مجتمعات ذكورية، مهما تظاهرت بعكس ذلك.

لقد جرّت التكنولوجيا المرأة على نحو غير مألوف إلى التجرد من أسلحتها الدفاعية في وجه الفضول الذكوري لتقدم له مجّانًا ما جاهد لاكتشافه منذ الانفصال الأول بين آدم وحواء

اقرأ/ي أيضًا: المرأة أو الرجل: من الأفضل في قيادة السيارات؟

كرجال تراكمت بيننا وبين النساء على مرّ التاريخ حواجز من جليد ومسافات في الصقيع لم نكن نقدر على كسرها وتخطّيها دون الحاجة المضنية إلى تسخين هذه العلاقة وشحنها بالحب الذي مثل الشفرة الوحيدة لاختراق فضاء المرأة وولوج عالمها، وهو ما قادنا في النهاية إلى التسليم بعجائبية المرأة ككائن عصيّ على الفهم ومحكوم بالتناقض بين الفعل والشعور، مُترجَمة عبر المقولة الأشهر "يتمنعن وهنّ راغبات".

على ضوء التكنولوجيا بما أنها مجموعة من الأدوات والمهارات والمعارف الالكترونية والرقمية وثوراتها المتلاحقة وتمخضّات المجتمع على وقع التحركات النسوية في وجه الهيمنة التاريخية للذكور، وفّر التسلح بالتقنية فرصة سانحة لإعادة توزيع القوى على نحو أكثر عدالة مما كانت عليه، إذ أُتيحت للنساء أخيرًا القدرة على اختراق الفضاء العامّ الذكوري وفرض أجنداتهن، حتى صارت تلبية احتياجاتهن عنوانًا لتوجهات اقتصادية وإعلامية واجتماعية وسياسية، إلخ.

لكن هذه الهدية مسمومة، إذا سلّمنا سلفًا أن جانبًا من سلطة المرأة مستمدّ من حالة شكّنا الدائم نحوها والافتقاد إلى اليقين بأي شيء يتعلق بها، وقد كنا شاهدين تاريخيًا على انهيار عشاق المرأة الأسطوريين على أسوار الحيرة والتساؤل في حرب نفسيّة من أجل الفهم والاستنطاق.

لقد لعبت التكنولوجيا دورها في إغواء المرأة الباحثة عن البروز والظهور ونفخ الذات على نحو يشعرها باحتلال الساحة وتسيد الفضاء ولكنها جرّتها على نحو غير مألوف إلى التجرد من أسلحتها الدفاعية في وجه الفضول الذكوري لتقدم له مجّانًا ما جاهد لاكتشافه منذ الانفصال الأول بين آدم وحواء.

إن الهوس المتزايد للنساء ببرامج التواصل الاجتماعي والاعتماد شبه الكلي عليها في التعبير والتواصل والعمل والترفيه مكنّنا من فهم اهتماماتهن وتوجهاتهن

لم يعد مستحيلًا اليوم معرفة في ما تفكر النساء؟ وعلى أيّ نحو؟ ذلك أنهنّ بتنا يعترفن بكل شيء من خلال حبّ الظهور والرغبة في مسك زمام الأمور، من خلال منصات النشر والمشاركة التي أتاحتها برمجيات تقنية تأخذنا حينيًّا إلى فضائهن الخاص وحياتهن الضيقة.

من جهة أخرى، تحوُّل الخاصّ في حياة النساء إلى علنيّ، كسر صور نمطية كثيرة حولهنّ وعزّز أخرى، على غرار حب المرأة للمرآة وافتتانها بنفسها أكثر من أي شيء آخر وهو ما تثبته هيمنة صورهن في الحسابات الاجتماعية على حساب أنواع المنشورات الأخرى.

نعم تُلهمنا التكنولوجيا كنساء ورجال في التأثير والتموقع وتشكيل البروفيلات التي نريد، على اعتبار أن من أهم إسهامات التكنولوجيا خلق عالم افتراضي مواز للعالم الفعلي، وبالتالي فإن النساء اللّاتي كنّ يعانين الهيمنة والإقصاء وجدن في ما تمنحه الكاميرا من جمالية وتأثير فرصة للتوسع في رسم الذات والإسهاب في تكبير الأنا ميكروسكوبيًا، حتى صارت "أنا" جليّة ومفهومة.

في السابق، كنا مضطرين إلى رؤية مقالات رديئة تدّعي أنها تجيب على تساؤلات من قبيل ماذا تحب النساء في الرجال؟ أو كيف تفسر الحركات الجسدية للنساء؟ إلخ. وعلى نحو منطقي تستقطب هذه المواضيع أكبر عدد من الرجال الباحثين عن إجابات استعصت عليهم، ولكن في الوقت الحالي لم يعد لذلك أيّ معنى، طالما أنهن صرن يقدمنا الأجوبة عن طواعية، من خلال الظهور الافتراضي الذي كسر الخجل وحقق التساوي بين الجنسين.

اقرأ/ي أيضًا: "الطفلة بلا مكياج كالكرهبة بلا لفاج".. هل يثق الرجل في جمال التونسية؟

رغبة المرأة في النجاح الافتراضي عبر تكثيف الحضور والظهور يسحبها إلى ملازمة رقعة الضوء وعلى نحو غير احترافي تفتح فضاءها الخاص للتعميم والنشر

إن الهوس المتزايد للنساء ببرامج التواصل الاجتماعي والاعتماد شبه الكلي عليها في التعبير والتواصل والعمل والترفيه مكنّنا من فهم اهتماماتهن وتوجهاتهن، فالبروفايل الرقمي بما يتضمنه من تفاصيل وإيضاحات بات مفتاحًا في المتناول لدخول عالم أي امرأة وفق الطرقات التي تحبذها وهو ما ينفي تمامًا احتمالية الوقوع في خطأ سوء الفهم أو التقدير معها.

إن برامج الموسيقى أو تطبيقات السينما أو فضاءات الترفيه الإلكترونية توفر فهمًا دقيقًا حول تفضيلات النساء المستهدفات، ما يمنح للباحثين عن سبر أغوارهن المفتاح المناسب لخلق توافق مزيف مبني على الرغبة في التظاهر بالتناسب الروحي والتقابل على مستوى الاختيارات والتوجهات لبناء تشابه "وهمي".

رغبة المرأة في النجاح الافتراضي عبر تكثيف الحضور والظهور يسحبها إلى ملازمة رقعة الضوء وعلى نحو غير احترافي تفتح فضاءها الخاص للتعميم والنشر وفق نزوع داخلي لجعل نفسها المحور الرئيس في النقاش العام والاهتمام الخاصّ، وهو ما حوّل الجلسات النسائية المغلقة سابقًا والمثيرة للفضول علنية وعامة.

ذلك الاختراق، في الأخير هو لحظة فارقة في كسر الجدار الفاصل بين العالمين الذكوري والنسوي، على مستوى افتراضي امتدّ الى الواقع وجعل من مجتمعاتنا العربية الذكورية منافقة أكثر بحيث تقبل تبعيّتهن افتراضيًا، فتماهيهن في مواقفهن وتنصفهن في طموحاتهن وتثمن محتوى "جلساتهن النسائية" نظريًا، وترتدّ عليه واقعيًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحركة النسوية..بين الأبوة السياسية والحنين للماضي

النساء في الانتخابات البلدية.. "ما هي إلا امرأة"؟