02-نوفمبر-2018

مؤسسات عمومية تعاني صعوبات مالية في المقابل تعطي موظفيها امتيازات عديدة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

باتت الوظيفة العمومية تمثل مشكلًا كبيرًا على عاتق الدولة، التي وجدت نفسها بين معادلتين إحداهما أصعب من الأخرى، عاطلون عن العمل يطالبون بالتوظيف والاندماج في الوظيفة العمومية، مقابل ارتفاع عدد الموظفين العموميين البالغ عددهم 800 ألف موظف وما يعنيه من تضخم للكلفة الجملية لأجورهم، رغم انخفاض معدّل أجر الفرد مقارنة بالمستوى العربي والعالمي وفق ما يؤكده أغلب خبراء الاقتصاد في تونس.

اقرأ/ي أيضًا: توريث الوظائف: الأقربون أولى بالوظيفة!

ولذلك لم تجد الحكومة من حلّ سوى إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية، بل وبعث برنامج للمغادرة الطوعية مقابل دفع منح لكل موظف يغادر القطاع العمومي. إذ تأمل الحكومة تسريح ما يزيد عن 10 آلاف موظف، غير أن التقديرات جاءت أقل من المتوقع.

ويهدف برنامج التسريح الطوعي لموظفي القطاع الحكومي إلى خفض عدد موظفي الدولة بنحو 20 في المائة خلال 3 سنوات، ورُصد لهذا المشروع اعتمادات بحوالى 535 مليون دينار، أي نحو 215 مليون دولار.

وكان قد أكد المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في دراسة حول "أزمة الوظيفة العمومية" أنّ عدد الموظفين في القطاع العمومي تضاعف 16 مرة منذ الاستقلال، إذ ارتفع من حوالي 36 ألفًا سنة 1956 إلى أكثر من 690 ألفًا سنة 2017. وبيّنت الدراسة أنّ عدد الموظفين العموميين ارتفع بالخصوص بعد سنة 2012 بسبب عمليات التوظيف العشوائية لصالح المنتفعين من العفو التشريعي، والانتدابات الاستثنائية لأهالي شهداء الثورة وجرحاها، إضافة إلى تسوية وضعية عمال المناولة والحظائر والآلية 16 الذي يقدر عددهم لوحدهم بحوالي 54 ألفًا.

 أكد المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في دراسة حول "أزمة الوظيفة العمومية" أنّ عدد الموظفين في القطاع العمومي تضاعف 16 مرة منذ الاستقلال

وسبق وإن اعتبر صندوق النقد الدولي أنّ كتلة الأجور في تونس تعتبر من بين الأضخم في العالم لاسيما وأنّها تستأثر بحوالي 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لتونس. وقد أكد بعض خبراء الاقتصاد أنّ كتلة الأجور الجملية مرتفعة جدًا لكنّ معدّل أجر الفرد الواحد منخفض جدًا مقارنة بالمستوى العالمي، إذ تتجه 70 في المائة من النفقات العمومية نحو الأجور التي يقابلها تراجع كبير في مردودية المؤسسات العمومية.

امتيازات تثقل كاهل الدولة

ينبّه خبراء في الاقتصاد، في ذات السياق، إلى ارتفاع تكاليف الامتيازات التي تخصص لبعض موظفي القطاع العام، على غرار أعوان الصحة وأعوان النقل، وسلكي الداخلية والدفاع، وذلك مع تمتع آلاف الموظفين بالنقل المجاني أو العلاج المجاني أو عدم دفع آلاف موظفي شركة الكهرباء والغاز، التي تعاني من صعوبات مالية، بمجانية الكهرباء، وذلك بالإضافة لغيرها من الامتيازات الأخرى.

وكان قد أثار تصريح لصلاح بلعيد، مدير عام شركة نقل تونس، في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي جدلًا كبيرًا خلال الشهر الماضي، حينما أشار أن ديون الشركة بلغت 800 مليون دينار، وأن النقل المجاني للأمنيين والعسكريين وأعوان الديوانة يكلّف الشركة سنويًا 20 مليون دينار. وقال أيضًا إن النقل المجاني، لهؤلاء الموظفين، لا ينص عليه القانون، داعيًا وزارتي الداخلية والدفاع للتكفل بمصاريف تنقل أعوانها لتتمكن الشركة من مجابهة أعبائها. وأشار مدير الشركة، في ذات الإطار، إلى أنّ الدولة تصرف للشركة 130 مليار سنويًا تعويضًا عن التلاميذ والطلبة، الذين يدفعون فقط 10 في المائة من سعر التعريفة، في حين لا تصرف تعويضات عن الأعوان المذكورين.

أثار تصريح لمدير عام شركة نقل تونس جدلًا كبيرًا خلال الشهر الماضي حينما أشار أن النقل المجاني للأمنيين والعسكريين وأعوان الديوانة يكلّف الشركة سنويًا 20 مليون دينار

وخلّف هذا التصريح جملة من التساؤلات عن حجم تكلفة مجانية نقل أعوان النقل في حدّ ذاتهم، خاصة وأنّ أعوان النقل وعائلاتهم يتمتعون أيضًا بمجانية النقل. وإذا كان التنقل المجاني لأعوان الديوانة والداخلية والجيش يكلّف الشركة 20 مليون دينار، فكم تكلفّ مجانية تنقل أعوانهم وعائلاتهم الشركة؟ وكم تكلفّ مجانية استهلاك الكهرباء لأعوان شركة الكهرباء؟ وكم تكلّف مجانية العلاج لأعوان الصحة؟ وكم تكلّف الامتيازات التي يتمتّع بها كلّ موظف عمومي على ميزانية الدولة؟

عبثًا تبحث عن إجابة لكل تلك الأسئلة والحال أنّه لا توجد دراسات أو إحصائيات عن حجم تلك الامتيازات وما تكلّفه على الدولة. فرغم أنّ كلّ وزارة تقوم بصرف تلك الامتيازات لمنظوريها إلاّ أنّها تبقى في نهاية الأمر محمولة على الدولة إجمالًا.

يشير الخبير الاقتصادي محمد الصادق جبنون لـ"الترا تونس" إلى أنّ نظام التأجير في عديد المؤسسات العمومية يعطي العديد من المنح والامتيازات، ولا يركز كثيرًا على الانتاجية ومن ذلك أن الترقية ليست على أساس الإنتاجية. ويضيف، من ناحية أخرى، لضعف معدّل الأجور وهو من أضعف المعدلات على الصعيد العربي والعالمي، بما يمثله، وفق تعبيره، من عامل منفرّ فتتجنب عديد الكفاءات القطاع العمومي وتتوجه إلى القطاع الخاص أو الهجرة، وذلك لعدم التوازي بين مستوى التأجير بين القطاع العام من جهة والقطاع الخاص والوجهات المهنية في الخارج من جهة أخرى.

محمد الصادق جبنون (خبير اقتصادي):  من المستحيل اعتماد منظومة تأجير في القطاع العام تقارب القطاع الخاص مع ترفيع الأجور وذلك مقابل مراجعة بعض الامتيازات التي لا تتماشى مع مردودية المؤسسات العمومية

ويقول جبنون إن هذا الأمر يجعل المؤسسات العمومية تفتقد للجودة العالية على مستوى جودة الموارد البشرية، وفق تعبيره. كما تضطر هذه المؤسسات، من ناحية أخرى، إلى تقديم العديد من المنح والامتيازات والعطل مما يؤثر على انتاجيتها ومردوديتها.

وأشار محدّثنا، على صعيد آخر، بالقول: "يكون من الأفضل في بعض الحالات المحددة الترفيع في الأجور والتخلي عن بعض الامتيازات التي أصبحت الآن غير واقعية في خضم الصعوبات التي تعانيها المؤسسات العمومية وتكلّف الميزانية عجزًا بأكثر من 6 مليار دينار سنة 2017 وذلك في انتظار صدور تقييم لهذا العجز المتعلّق بسنة 2018".

ويدعو الخبير محمد الصادق جنون لاعتماد منظومة تأجير تقارب القطاع الخاص مع ترفيع الأجور وتحسين التغطية الاجتماعية وذلك مقابل مراجعة بعض الامتيازات التي لا تتماشى مع المردودية والنجاعة في المؤسسات العمومية.

اقرأ/ي أيضًا: عدم دفع موظفي الصناديق الاجتماعية لمساهماتهم.. امتياز عمّق أزمة الصناديق

أمثلة لبعض الامتيازات للموظفين العموميين

تتعد أشكال وصور الامتيازات والمنح المقدّمة للموظفين العموميين. إذ صدر أمر حكومي بتاريخ 17 أوت/أغسطس 2017 يتعلق بضبط طرق احتساب كلفة النقل المجاني لأعوان وإطارات بعض المؤسسات، ينصّ على تمتيع أعوان وإطارات الأسلاك النشيطة المباشرين بوزارات الداخلية والعدل والدفاع الوطني والمصالح الديوانية ومصالح الديوان الوطني للحماية المدنية بمجانية النقل الحضري والجهوي وبين المدن على الخطوط الداخلية للنقل العمومي الجماعي المستغلة من قبل الشركات الوطنية والجهوية للنقل البري. ونص الفصل 4 على أنه تُحمل على ميزانية الوزارة المعنية وميزانية الديوان الوطني للحماية المدنية كلفة خدمات النقل المجاني التي تسديها الشركات الوطنية والجهوية للنقل البري لفائدة أعوانهم.

لا توجد دراسات أو أرقام عن حجم تلك الامتيازات وما تكلّفه على ميزانية الدولة سنويًا أو حجم المنح المخصصة لبعض الأسلاك والتي تتغير سنويًا

فيما أمضت جامعة الكهرباء والغاز التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل اتفاقًا تضمّن عدة امتيازات جديدة للأعوان، مثل تمكينهم من وصولات الأكل لمدة 11 شهرًا، والترفيع في قيمة الوصل لتصبح 6 دنانير. كما تقرّر الترفيع في قيمة قروض السكن المسندة من قبل الشركة لفائدة أعوانها لتكون في حدود 25 ألف دينار مع إمكانية التمتّع بقرض تكميلي في حدود 5 الاف دينار. كما سيتم تمتيع كل أعوان الحراسة والتنظيف من الإعانة المدرسية وطب المؤسسة. وذكر البيان حينها أنه سيقع النظر في عدد من المطالب الأخرى ومنها منحة السياقة خلال المفاوضات الاجتماعية القادمة.

هي بعض من المنح والامتيازات التي يعلن عنها في عديد الاختصاصات والقطاعات، ولكن لا توجد دراسات أو أرقام عن حجم تلك الامتيازات وما تكلّفه على ميزانية الدولة سنويًا أو حجم المنح المخصص لبعض الأسلاك والتي تتغير سنويًا.

وفي سياق متصل، كان قد أكّد الخبير لدى الهيئة العامة للرقابة الإدارية والمالية لطفي الخالدي أن تكلفة الساعات الإضافية للموظفين العموميين سنة 2017 بلغت ما يقارب 95 مليون دينار، وذلك بالإضافة إلى تطور حجم منحة الساعات الإضافية بوزارة الصحة من 4 مليون دينار سنة 2013 إلى 62.5 مليون دينار سنة 2017.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفساد في الصفقات العمومية.. سرطان ينخر الإدارة في انتظار استئصاله

نظام تأجير خاص طبقًا للمعايير الدولية.. هل يتحقق مطلب القضاة؟