حين تصاعدت أحداث الثورة بداية 2011، هرب رجال الأعمال سليم شيبوب صهر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي خارج تونس خشية ملاحقته بسبب قضايا الفساد المتورّط فيها، وقد قامت السلطات التونسية بتجميد أمواله بعديد البنوك الأجنبية.
ولكن شيبوب الذي ترك عائلته وحدها في تونس وهو ملاحق من القضاء التونسي قرّر بإرادته العودة إلى تونس ومواجهة مصيره، وهو ما تمّ في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، ليقع اعتقاله على ذمة القضايا المنشورة ضدّه، قبل إطلاق سراحه يوم 12 جانفي/يناير 2016 لاستيفاء الآجال القانونية للإيقاف التحفظي.
عاد سليم شيبوب إلى تونس نهاية 2014 ثم اُطلق سراحه بداية 2016 ليقدّم مطلب لتسوية وضعيته مع الدولة عبر العدالة الانتقالية
لم تمرّ أشهر قليلة من خروجه من السّجن حتى ظهر سليم شيبوب في مقرّ هيئة الحقيقة والكرامة يده بيد المكلّف العام بنزاعات الدولة، في صورة لاقت صدى واسعًا في ذلك اليوم الموعود، وهو يوم 5 ماي/آيار 2016، إذ أعلنت الهيئة المكلّفة بتنفيذ العدالة الانتقالية إبرام اتفاقية تحكيم ومصالحة بين سليم شيبوب بوصفه مرتكب انتهاكات فساد مالي والدولة التونسية ممثلة في المكلف العام بوصفها متضرّرة.
وقد ذهب ظن العديدين بأنه تم يومها التوصل لاتفاق مصالحة بين شيبوب والدولة، سيقوم بموجبه الأول بتقديم تعويضات، فيما ستقوم الثانية بإسقاط تتبعاتها، وذلك في إطار آلية التحكيم والمصالحة ضمن مسار العدالة الانتقالية بعيدًا عن القضاء العادي وتشعباته. ولكن حقيقة، لم تكن تلك الاتفاقية الموقعة إلا البداية فقط لمسار طويل من ملف شيبوب لم ينته بعد، بل وعرفت الأيام الماضية أطوارًا جديدة حوله.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تفضح شهادة الطرابلسي منظومة الفساد في تونس؟
كانت بداية شيبوب في قضية التحكيم والمصالحة لدى هيئة الحقيقة والكرامة بتقديمه مطلب مصالحة، تضمّن ما اقترفه من عمليات فساد عبر الوقائع التي أدت لحصوله على استفادة غير مشروعة، واعتذاره الصريح، مع تحديد القيمة المحدّدة لإستفادته، كما أعلن قبوله بتقديمه شهادة علنية حول الفساد. وبإتمام شيبوب استيفاء شروط قبول مطلب التحكيم، قبلته لجنة التحكيم والمصالحة بالهيئة التي راسلت بدورها المكلف العام بنزاعات الدولة الذي قبل مبدأ الصلح وتسوية الملفات في إطار العدالة الانتقالية، فكانت اتفاقية التحكيم والمصالحة في ذلك اليوم الموعود، وهي اتفاقية الانطلاق في سلسلة جلسات تحكيمية ومفاوضات من أجل إصدار قرار تحكيمي. ولكن كانت الخيبة.
قدّم سليم شيبوب مطلب تحكيم لهيئة الحقيقة والكرامة قدّم خلاله اعتذاره الصريح عن أفعاله وتضمّن ما اقترفه من عمليات فساد وأعلن استعداده لتقديم شهادة علنية أمام العموم
قامت وزارة أملاك الدولة لاحقًا بإقالة المكلف العام بنزاعات الدولة، وتعطّل ملف سليم شيبوب كغيره من آلاف الملفات الأخرى. تقول هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها السنوي لسنة 2016 إن المكلف العام طلب التأجيل في زهاء 1000 جلسة تحكيمية وذلك بغض النظر عن موضوعها، وطبعًا دون تقديم طلبات. وقد اتهمت مؤخرًا "الحقيقة والكرامة" وزير أملاك الدولة الحالي بأنه لا يعترف بقانون العدالة الانتقالية، وقالت إنه يعطل ملفات التحكيم والمصالحة، سواء المرفوعة من الضحايا ضد الدولة، أو المقدّمة من رجال الأعمال الفاسدين لتسوية وضعياتهم مع الدولة.
ظلّت بذلك القضية التحكيمية لشيبوب معلّقة، وهي ربّما أكثر الملفات التي لاقت تسليطًا للأضواء بالنسبة لهيئة الحقيقة والكرامة من طرف الفاعلين السياسيين والإعلاميين والمواطنين أيضًا، لأن الملف يهمّ واحدًا من أكثر رجال الأعمال نفوذًا زمن بن علي وهو سليم شيبوب.
اقرأ/ي أيضًا: 33 متّهمًا أمام القضاء في قضية مقتله.. تعرف على قصة مقتل رشيد الشماخي
ولكن كانت تعرف القضية أحيانًا بعض التطوّرات، ومن ذلك إعلان هيئة الحقيقة والكرامة في ماي/آيار 2017 أنها استطاعت تحويل مبلغ مجمّد بقيمة 3.5 مليون يورو من أحد البنوك السويسرية لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية، وذلك كتسبقة بخصوص اتفاقية التحكيم والمصالحة المُبرمة معه، واعتبرت أنّ تحويل هذا المبلغ" يأتي في إطار المجهودات والأعمال التحضيرية التي تقوم بها لجنة التحكيم والمصالحة لحصر الأموال المهرّبة التي تعود لسليم شيبوب والسهر على إعادتها لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية، وذلك قبل البتّ في ملفّ التحكيم والمصالحة وإصدار قرار تحكيمي نهائي بين الطرفين". دخل وقتها القطب القضائي المالي على الخطّ ليؤكد أن عملية استرجاع هذا المبلغ لم تكن إلا عملية قضائية بحتة باتهام هيئة الحقيقة والكرامة بالرّكوب على الحدث ومغالطة الرأي العام.
ولكن ظلّت عمومًا القضية في وضع أقرب للجمود، حتى عادت للسطح مؤخرًا بإعلان المكلف العام بنزاعات الدولة أنه يطلب مبلغًا بقيمة 1100 مليار دينار بتفصيل 350 مليون دينار نظير عمليات فساد استفاد بها شيبوب، و700 مليون دينار نظير الضرر المعنوي للدولة، وهي طلبات وصفها شيبوب بأنها "غير مقنعة". يقول رجل الأعمال إنه طيلة سنتين تقريبًا منذ إمضاء اتفاقية التحكيم والمصالحة، التقى المكلف العام السابق في مناسبتين فقط ولم يقع الحديث إلا في العموميات وذلك قبل إقالته.
المكلف العام بنزاعات الدولة يطالب شيبوب بتقديم تعويضات بقيمة 1100 مليار وشيبوب يعتبرها طلبات "غير مقنعة"
وأشار شيبوب في تصريح إذاعي مؤخرًا أن الاجتماع الوحيد "القيّم" بتعبيره هو اجتماع 17 أفريل/نيسان الماضي بهيئة الحقيقة والكرامة والذي حضره من ينوب المكلف العام بنزاعات الدولة، إذ تم الاتفاق على عدم التأخير في مسار الصلح بعقد جلسات صلحية متتالية خلال الشهر ولكن تفاجأ بإيداع المكلف العام طلبًا لتقديم تعويض بقيمة الـ1100 مليار، وذلك دون أي إثباتات لحصول استفادة وفق ما يقول شيبوب الذي تحدث أن القضاء العادي أسقط الدعوى في 5 قضايا مرفوعة ضده على الأقل.
بذلك، تظلّ قضية سليم شيبوب كغيرها من آلاف قضايا التحكيم والمصالحة معطّلة، وسط اتهامات من هيئة الحقيقة والكرامة للمكلف العام الحالي بتعمّد عرقلة معالجة الملفات، وذلك وسط غموض حول مصير الهيئة ذاتها التي أعلنت سابقًا عزمها مواصلة أعمالها لعدم "قانونية" قرار مجلس نواب الشعب عدم التمديد لأعمالها.
اقرأ/ي أيضًا:
العدالة الانتقالية والدولة المستقيلة
شهادات ضحايا الانتهاكات بتونس.. قصص الألم والعبر