أصدرت الحكومة البريطانية في الأسبوع الثاني من الشهر الماضي تقريرًا في غاية الأهمية عن "مستقبل مستدام للصحافة" الذي تناول مختلف إشكاليات أزمة الصحافة في بريطانيا وسبل معالجتها. وتأتي أهمية التقرير من أنه يعتبر مثالًا جيدًا لما يمكن أن تكون عليه السياسة العمومية ودور الدولة في الديمقراطية في مجال توفر الشروط الضرورية لاستمرار الصحافة في البيئة الرقمية.
وأشار التقرير إلى التحوّلات الجذرية والشاملة التي تعرفها الصحافة البريطانية وتنامي استهلاك الأخبار في منصات الميديا الاجتماعية وعدم قدرة صناعة الميديا الإخبارية على توفير مضامين إخبارية ذات قيمة متصلة بالشأن العام. كما تعرض التقرير إلى النتائج الوخيمة لمنصات الميديا الاجتماعية على صناعة الأخبار وخاصّة غوغل وفيسبوك وتأثيرات هذا الاحتكار المزدوج على هذه الصناعة.
أشار تقرير حكومي بريطاني مؤخرًا إلى عدم قدرة صناعة الميديا الإخبارية على توفير مضامين إخبارية ذات قيمة متصلة بالشأن العام
ومن المعطيات الهامة والجديدة التي أتى بها التقرير والتي تسمح بتوصيف أزمة الصحافة البريطانية، كحالة نموذجية لأزمة الصحافة، تراجع مبيعات الصحف بأكثر من النصف في العشرية الأخيرة، وكذا تراجع مداخيل الإشهار بنسبة 96 في المائة، وأيضًا انخفاض عدد الصحفيين من 23 إلى 17 ألف من عام 2007 إلى 2018 إضافة إلى تقهقر عدد قراء الصحافة المحلية حتى أن بريطانيّا واحدًا من عشرة أصبح يشتري صحيفة محلية. وعلى سبيل المثال، فقدت صحيفة "الغارديان" البريطانية 60 في المائة من قرائها في العشرية الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: النهاية: هل حان وقت موت الصحافة على يد الإعلام؟
ويعرف التقرير بأن الصحافة الجيدة تشمل الصحافة الاستقصائية والصحافة المحلية والتحقيقات عن تجاوزات السلطة في القطاع العام والخاص ورصد أنشطة المؤسّسات العمومية والتحقيق فيها ومراقبة الحكومة والقضاء. ومن المعطيات الأخرى المهمة التي تضمنها التقرير مسألة تكلفة الصحافة الجيّدة وخاصة الصحافة الاستقصائية فجريدة "ذي الصن" (The sun) مثلًا أنفقت 73 ألف باوند (حوالي ثلاث مائة ألف دينار) على تحقيق لم ينشر لأنه لم يستكمل كل الأدلة والحجج الضرورية لمصداقيته.
وصرح أحد مسؤولي صحيفة "ذو أندبندت" (The independent) لمعدي التقرير أن تكلفة فريق مختص في الصحافة الاستقصائية قد تبلغ 100 ألف باوند لرئيس التحرير و 50 ألف كمعدل لكل صحفي إضافة إلى نصف مليون باوند تكلفة المصاريف غير التحريرية، دون أي يكون لهذا "الاستثمار" نتائج ملموسة مما يجعل الأمر مستحيلًا بالنسبة إلى جريدة مثل "ذو الإندبندنت" حسب تعبيره.
تشمل الصحافة الجيدة بالخصوص الصحافة الاستقصائية والصحافة المحلية والتحقيقات عن تجاوزات السلطة في القطاع العام والخاص
ولعل أهمية التقرير، إضافة إلى توصيفه لحالة الصحافة البريطانية، تكمن في التوصيات التي تقدم بها المتصلة أغلبها بالتحكم في تأثيرات منصات الميديا الاجتماعية. فقد أوصى التقرير بتنظيم الاتفاقيات التجارية بين شركات الميديا الاجتماعية (فيسبوك وغوغل على وجه التحديد) التي يجب أن تخضع إلى مراقبة هيئة تنظيمية، ومراقبة التزامات هذه الشركات بتأمين مصادر معلومات موثوقة وذات جودة في سياق تنامي ما يسمّى الأخبار الكاذبة وتطوير برامج في مجال التربية على الميديا لتعزيز قدرات الجمهور على فهم عالم الأخبار والميديا، إضافة لإحداث صندوق لدعم الابتكار في الصحافة ذات العلاقة بالصالح العام.
مفارقة الحرية والأزمة
لقد أردت التمهيد للحديث عن أزمة الصحافة التونسية بالإشارة إلى التقرير الحكومي البريطاني عن الصحافة للتأكيد على مسألتين أساسيتين: أولهما أن أزمة الصحافة وإن كانت كونية فإنها أيضا مرتبطة بسياقات مخصوصة، وثانيهما أن هذه الأزمة تستوجب سياسة عمومية إذا اعتبرنا أن الصحافة، بما في ذلك الصحافة الخاصة، مرفًقا عموميًا ضروريًا للحياة للديمقراطية التي يحتاج فيها المواطنون إلى مصدر موثوق للأخبار يساعدهم على التصرف بعقلانية كأفراد متنورين وبمعرفة للمشاركة في النقاش العام وفي الحياة السياسية وعند الاقتراع في الانتخابات. هذه السياسة العمومية التي دفعت الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس إلى الدفاع عن فكرة إنقاذ صحافة الجودة باعتبارها موردًا أساسيًا من موارد المجال العمومي الديمقراطي قائلًا إن وجود الدولة الديمقراطية يستوجب صحافة إخبارية جادة.
تشترك الصحافة التونسية مع الصحافة في العالم الديمقراطي في كثير من الإشكاليات لعلّ أهمها نتائج الميديا الاجتماعية الوخيمة على وجودها
وتشترك الصحافة التونسية مع "الصحافات" في العالم الديمقراطي في كثير من الإشكاليات لعلّ أهمها نتائج الميديا الاجتماعية (وخاصة الفيسبوك بالنسبة إلى الصحافة التونسية) الوخيمة على وجودها خاصة في مستوى النفاذ إلى الموارد الإشهارية أو الإعلانية ولكن لا يجب أن يمنعنا هذا من الخوض في خصوصيات أزمة الصحافة التونسية إذا أردنا أن نفكر في سبل إنقاذها من الموت.
والحديث عن أزمة الصحافة المكتوبة في تونس يمثل على نحو ما مفارقة عجيبة. فكيف يمكن أن نتحدث عن أزمة وقد اكتسب الصحفيون ومؤسسات الميديا بشكل عام موردًا أساسيًا أي الحرية حتى يقوموا بأدوارهم على أحسن وجه في مجتمع في طور الانتقال نحو الديمقراطية. ألم تكن الحرية المطلب الأساسي والرئيسي الذي كان يطالب به الصحفيون بشكل خاص لقيام ميديا جيدة قادرة على أداء وظائفها؟
تبيّن الحالة التي تعيشها الميديا التونسية أن الحرية التي يتمتع بها الصحفيون لا تمثل الشرط الوحيد لقيام الصحافة الجيّدة التي يطمح إليها الصحفيون أنفسهم والموطنون كذلك، كما أن الحرية التي تضمنها الأطر التشريعية والقانونية ليست كذلك الشرط الوحيد لقيام الصحافة الجدية القادرة على أداء وظائفها في مجتمع ديمقراطي. لأن الصحافة هي أيضًا ممارسة ذات تكلفة عالية وهي عملية جماعية وليست مغامرة فردية تحتاج للشجاعة فقط كما يمكن أن يروج لذلك تصور رومانسي للصحافة. فالصحافة ممارسة منظمة تقتضي موارد مالية وتنظيمية وكفاءات تحريرية وتقنية ومتعاونة في أطر مؤسسية (غرفة أخبار ذات مهنية عالية).
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام التونسي.. خريف الأزمة يتلو ربيع التعددية
وتتمثل الأزمة الراهنة التي تعيشها الصحافة التونسية في تراجع مبيعات الصحافة الورقية بشكل كبير وتوقف العديد من الصحف اليومية والأسبوعية عن الصدور، إذ تشير بعض الإحصائيات المتداولة في الصحافة إلى تراجع عدد الصحف الورقية من 250 قبل الثورة إلى 50 بعدها. ومن مظاهر الأزمة أيضًا أن تحولت بعض الصحف إلى مواقع إخبارية على غرار الصحفية اليومية "الصريح". كما تتمثل أزمة الصحافة في الظروف الهشة المهنية التي يعيشها الصحفيون التونسيين في أغلبيتهم وفي ندرة المضامين الجيدة والمبتكرة وخاصة منها المضامين الميدانية كالتحقيقات والريبورتاجات وفي تراجع الموارد الإشهارية. أما أغلب المؤسسات الصحفية التي لم تغلق بعد، فهي مؤسسات صغيرة لم ترق بعد تنظيميًا وتكنولوجيًا إلى مستوى مؤسسات قادرة أن تشكل صناعة قابلة للحياة.
أزمة شاملة ونسقية
إن مصادر الأزمة الراهنة التي تعيشها الصحافة التونسية متعددة مما يجعل منها أزمة شاملة ونسقية متعددة المستويات. فهي أزمة متصلة بتحولات البيئة الثقافية للميديا التونسية. فقد تزامن الانتقال الديمقراطي بالنسبة للميديا التونسية مع تعاظم استخدام الميديا الاجتماعية الذي تحول إلى نشاط روتيني من أنشطة الحياة الاجتماعية.
فالفيسبوك على سبيل المثال أصبح يمثل مصدرًا أساسيًا من مصادر الأخبار بالنسبة للتونسيين خاصة مع تنامي استخدام الهواتف الذكية واللوحات المكتبية التي تراجعت أسعارها بشكل كبير. وساهم هذا التحول في تراجع الإقبال على الصحافة المكتوبة خاصّة لدى الشباب. وبشكل عام، فإن مؤسّسات الصحافة المكتوبة والإلكترونية لم تتمكن، بسبب قلّة الإمكانات خاصّة، من توظيف الميديا الاجتماعية لتطوير حضورها فيها، حتى وإن كان هذا الحضور يحمل إشكاليات كثيرة في ذاته لأنه يعزز على نحو ما تبعية هذه الصحف والمواقع إلى الميديا الاجتماعية التي تصبح المصدر الأول والأساسي للقراء.
تزامن الانتقال الديمقراطي بالنسبة للميديا التونسية مع تعاظم استخدام الميديا الاجتماعية الذي تحول إلى نشاط روتيني من أنشطة الحياة الاجتماعية
ولهذه التبعية نتائج خطيرة في مستوى المضمون الذي أصبح خاضعًا لمبدأ "الكليك" مما يدفع الصحف وحتى الصحفيين أنفسهم أحيانًا كثيرة إلى استبطان ثقافة المضمون ذي القابلية للقراءة السهلة والسريعة مما قد يفسر هيمنة المضامين الخبرية ذات القدرة على استثارة القارئ عبر العناوين المثيرة. فلا غرابة أن نجد الصحفيين يقيمون، بضغط في أحيان كثيرة من إدارة التحرير، قيمة المضامين بعدد "الكليك" الذي تحوز عليه مما أدى إلى استبعاد المضامين العميقة خوفًا من تراجع شعبية الموقع ومن التقييمات السلبية للإدارة.
أما التحول الثاني الذي يفسر أزمة الصحافة في تونس فيتمثل في مستوى الدولة وإعادة تشكيل دورها خاصة في مستوى إدارة الإشهار العمومي. وكان هذا الإشهار العمومي قبل الثورة يمثل موردًا بالنسبة لمؤسسات الصحافة المكتوبة على وجه الخصوص ضمنت لها بيئة مستقرة قد تكون منعتها من تطوير ذاتها. وأدّى حذف آليات توزيع الإشهار العمومي إلى نتائج وخيمة على اقتصاد الصحافة المكتوبة على وجه الخصوص.
ويعتبر المهنيون أن هذا النظام تم استبداله بنظام آخر عمليًا غير شفاف. فقد أصبحت المؤسسات العمومية تقوم بتوزيع الإشهار العمومي وفق معايير ليست دائما معلومة. في المقابل، فإن غياب إحصائيات حول توزيع الصحف يمنع وجود معايير موضوعية لتوزيع الإشهار. وعلى هذا النحو، تقوم المؤسسات العمومية بالاعتماد على معايير السعر الأدنى مما أدى إلى تنافس محموم بين المؤسسات الميديا، منافسة تصبح في أحيان عديدة غير شريفة. ويرى المهنيون أن هذا النظام الجديد يشجع على الفساد والمحسوبية وعدم الشفافية. (انظر هذه الدراسة حول الصحافة التونسية).
لكن أزمة الصحافة المكتوبة على وجه الخصوص مرتبطة كذلك بأسباب داخلية خاصة بالقطاع وبالمهنة ومنها على وجه الخصوص منظومة توزيع عتيقة لم يتم تحديثها. إذ يشير مثلًا تقرير اليونسكو عن "مؤشرات تطور وسائل الإعلام والاتصال في تونس"، في هذا الإطار، إلى أن منظومة التوزيع تخضع إلى الاحتكار لصالح المؤسسات المنتصبة قبل الثورة. وإضافة إلى نظام التوزيع العتيق والخاضع إلى الاحتكا، يجب الحديث أيضًا عن نظام محدود جدًا للتوزيع بواسطة الاشتراكات باعتباره تقليدًا أو ممارسة عير دارجة في تونس، إضافة إلى أن نظام الاشتراك الذي كان معمولًا به قبل الثورة اُلغي من طرف الحكومة بما قلص بشكل كبير من مصادر دخل مؤسسة الصحافة المكتوبة.
أزمة الصحافة المكتوبة على وجه الخصوص مرتبطة كذلك بأسباب داخلية خاصة بالقطاع ومنها على وجه الخصوص منظومة توزيع عتيقة لم يتم تحديثها
ومن الأسباب الأخرى التي تفسر أزمة الصحافة المكتوبة محدودية هو غياب الابتكار الذي يشمل التصميم ونوعية الورق والأشكال الصحفية والاستراتيجيات الرقمية والحضور في الواب وفي منصات الميديا الاجتماعية، إضافة إلى منافسة التلفزيون الذي أصبح يمثل ميديا أساسية في حياة التونسيين كمصدر للأخبار والترفيه ومتابعة الحياة السياسية. على أن محدودية الابتكار في المضامين يمثل المظهر الأكثر دلالة لأزمة الابتكار ذلك أن تنامي دور التلفزيون باعتباره مصدرًا أساسيًا من مصادر الأخبار لم يتبعه إعادة تشكيل لأدوار الصحافة كتطوير التحقيقات ومضامين عميقة تتيح للقارئ الحصول على خلفية لفهم الأحداث التي تعالجها الإذاعة والتلفزيون.
اقرأ/ي أيضًا: الأخبار الكاذبة Fake News.. خطر يهدّد انتخابات 2019
والواقع أن هذه المضامين الجيدة تحتاج إلى موارد بشرية وتنظيمية ومؤسسية لا تتوفر لدى المؤسسات الصحافة المكتوبة والإلكترونية مما يجعل أمام وضعية تشبه الحلقة المفرغة. فالمضامين الجيدة تحتاج إلى موارد وهذه الموارد غائبة لأن الصحافة لا يمكن لها أن تنتج مضامين جيدة تسمح لها باستقطاب القراء. ونتج عن هذه الأزمة كذلك سياقات مهنية لا تساعد الصحفيين على الابتكار وعلى الإنتاج الصحفي الجيد، فمعظم الصحفيين في الصحافة المكتوبة والإلكترونية يعملون بأجور زهيدة وفي ظروف مهنية صعبة تحرمهم من العمل الميداني المبتكر ومن الأفاق المهنية المفتوحة والمجزية. فلا غرابة أن تراى الصحفيين يشتكون من مصاعب مهنة لا يجنون بسببها الاعتراف الاجتماعي على غرار المهن الأخرى. فعمليًا لم يجني الصحفيون الكثير اجتماعيًا من شعار "السلطة الرابعة"، وكيف للصحفي أن يكون سلطة رقابة أو سلطة مضادة وهو يعيش ظروفا مهنية واجتماعية صعبة؟
ويمكن أن نضيف إلى كل هذه الأسباب ما يردّده المهنيون ونقاباتهم أحيانًا كثيرة عن مسؤولية سياسات الحكومات المتعاقبة منذ 2011 في استفحال أزمة الصحافة. فلم ترق بعد الإجراءات الجزئية إلى مستوى سياسة عمومية غايتها الأولى والأساسية تأمين شروط الاستمرارية للقطاع.
كيف الخروج من الأزمة؟
إن الدرس الأساسي والأهم الذي يجب أن نستخلصه من التحارب العالمية هو أن الصحافة المكتوبة والإلكترونية لا يمكن لها أن تستمر في الوجود دون سياسة عمومية واضحة المعالم كما تبيّن ذلك التجربة البريطانية ولكن أيضًا التجربة الفرنسية. ففي فرنسا مثلًا، تتلقى الصحافة المكتوبة والإلكترونية عدة أنواع من المساعدات المباشرة وغير المباشرة تتمثل في شكل صناديق تدعم توزيع الصحف عبر البريد وبرامج التأهيل الرقمي والصحافة المحلية وصحافة القرب والتنوع في الصحافة أو في شكل تخفيضات جبائية على غرار التخفيض في نسبة الأداء على القيمة المضافة، وقد تحصلت أكثر من 360 صحيفة على مساعدات مباشرة أو غير مباشرة من الدولة.
وبشكل عام، فإن التجارب الديمقراطية تبين أن مساعدة الدولة للصحافة المكتوبة والإلكترونية أصبحت موضع اتفاق على أن توزع هذه المساعدات وفق آليات شفافة. كما أوصت بذلك المنظمة الدولية "المادة 19" حتى لا تتحول هذه المساعدات إلى آلية للسيطرة على الصحافة أو لإرساء علاقات زبونية بين المؤسسات الصحفية والحكومة.
أزمة الصحافة التونسية هي أزمة نسقية وشاملة وعميقة تقتضي حلولًا شاملة تمتد من التكوين الأكاديمي إلى التوزيع مرورًا بضمان التحول الرقمي للمؤسسات الصحفية وتوفير الموارد
في السنوات الأخيرة، تم الإعلام عن إجراءات عديدة لفائدة الصحافة المكتوبة والإلكترونية منها إعفاءات مالية أو إحداث هيكل عمومي للإدارة الإشهار العمومي وإحداث صندوق دعم خاص بالصحافة المكتوبة الورقية والالكتروني. ولكن هذه الإجراءات لا يبدو أنها أتت أكلها إلى الآن، إذ لا نرى بوادر "صحوة صحفية" أو إرهاصات لنموذج جديد من الصحافة المبتكرة، بل إن أزمة صناعة الإخبارية تمتد إلى المجال الإذاعي والتلفزيوني، إذ نرى بعض القنوات،على غرار قناة "التاسعة" الجامعة التي تخلت عن نشرة الأخبار، تعمل على تقليص الإنتاج الصحفي المكلف لصالح البرامج الحوارية.
إن أزمة الصحافة التونسية، كما أشرنا إلى ذلك، هي أزمة نسقية وشاملة وعميقة تقتضي حلولًا شاملة تمتد من التكوين الأكاديمي إلى التوزيع مرورًا بضمان التحول الرقمي للمؤسسات الصحفية وتوفير الموارد والظروف التي تسمح للصحفيين بأداء مهني. فالإصلاح الجزئي (تحديث مسالك التوزيع مثلًا) لا يمكن أن يكون له تأثير يذكر ما دامت المضامين الصحفية التحريرية هي ذاتها. وما الجدوى من دعم رقمنة الصحافة إذا كان الصحفيون يشتغلون في ظروف مهنية لا تسمح لهم بإنتاج مضامين مبتكرة؟
وفي الحقيقة، أزمة الصحافة في تونس ليست فقط أزمة "صناعة" بل هي أيضًا أزمة تتعلق بمكانة الصحافة المهنية التي تجعل من الحقيقة مطمحًا أساسيًا بالنسبة إليها كما يؤكد على ذلك البند الأول من الميثاق الأخلاقي لنقابة الصحفيين التونسيين. لكن ألا تعلمنا الصعوبات التي تواجه ظهور هذه الصحافة المخصوصة، أي صحافة الحقيقة، عن الديمقراطية التونسية نفسها وعن أمراضها ومنها خاصة العزوف عن الشأن العام والاستقطاب الإيديولوجي والسياسي الذي يشوه قدرة الناس على النظر إلى الواقع؟
اقرأ/ي أيضًا: