الترا تونس - فريق التحرير
"راني ما عملت شيئ.. يا رب، يا رب"، هي العبارة التي كان يردّدها الشهيد فيصل بركات أمام جلّاده الذي كان يمارس أشنع أساليب التعذيب وأكثرها وحشية، وذلك حتى لفظ فيصل أنفاسه الأخيرة في نفس يوم إيقافه بتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول 1991 ولكن ظلّت ذكراه باقية، إذ عاد ملفّه للسطح مؤخرًا بإعلان هيئة الحقيقة والكرامة إحالتها 33 متهّما في جريمة مقتله على القضاء المختصّ في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بنابل.
أحالت هيئة الحقيقة والكرامة 33 متّهمًا على القضاء في قضية مقتل فيصل بركات الذي مات تحت التعذيب في أكتوبر/تشرين الأول 1991
وسبق وأن قدمت والدته وشقيقه شهادة مؤثرة في ثاني جلسات الاستماع العلنية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، لا تزال عالقة في أذهان ملايين التونسيين من شدّة بطش تعذيبه ومعاناة عائلته لعقود بعد مقتله بين السعي لافتكاك حق ابنها، وتضييقات نظام الاستبداد.
شهادة عائلة فيصل بركات - جلسة الاستماع العلنية 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2016
تعذيب وحشي لشاب تهمته أنه "إسلامي"
وُلد فيصل بركات في 4 ماي/آيار 1966 بمنزل بوزلفة من ولاية نابل، ونشط طلابيًا بكلية العلوم في تونس ضمن الاتحاد العام التونسي للطلبة، وانتمى لحركة النهضة، وكان معروفًا بانخراطه في الأنشطة الاجتماعية الخيرية في جهته.
بيد أن انتماءه السياسي ونضاله في مواجهة الاستبداد جعلاه هدفًا لآلة القمع، خاصة مع بداية التسعينيات، حينما شهدت الحملة الأمنية القمعية نسقًا تصاعديًا، وبلغت انتهاكات حقوق الإنسان أشدّها، وقد مات حينها كثيرون تحت التعذيب من بينهم رشيد الشماخي وكمال المطماطي الذين أحالت هيئة الحقيقة والكرامة قائمة المتهمين في مقتلهما على القضاء أيضًا. ولم تكن تهمة فيصل بركات على غرار العديد من ضحايا محرقة التسعينيات إلا أنه إسلامي.
اقرأ/ي أيضًا: قلع أظافر ورصاصة في الرأس.. عن قصة مقتل نبيل بركاتي
انطلق المسلسل الشنيع لمقتل بركات، بمداهمة ثلاثين عونًا من الحرس الوطني لمنزل العائلة بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 1991، وكان ذلك على الساعة الثانية فجرًا، هم زوّار الليل الذين كانوا يباغتون الديار لترهيب العائلات واختطاف أبنائهم. لم يجد أعوان الأمن طريدتهم في تلك الليلة المشؤومة، فعمدوا لاحتجاز شقيقه في مركز الحرس، وخاطبوا والد الضحية "كيف يجي فيصل تو نسيبوا ولدك هذا"، وذلك على النحو الذي تكشفه جذاذة الضحية التي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة في وقت سابق.
قام أعوان الأمن باختطاف شقيق فيصل بركات لإجباره على تسليم نفسه وهو ما تمّ ليتعرّض فيصل لشتّى أنواع التعذيب حتى فارق الحياة
وفعلًا بتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول أي بعد أسبوع من الواقعة، تمّ إيقاف فيصل بركات، وتعرّض لشتّى أنواع التعذيب إذ وضعوه في شكل الدجاجة المصلية، وهي واحدة من أكثر أساليب التعذيب وحشية، وتداول الأمنيون على ضربه بالهروات على كافة أنحاء جسمه. وتفيد الجذاذة أنه تم إدخال عصًا بشرجه وربط ذكره بخيط صنارة بشدة وذلك طيلة ست ساعات، إلى أن لفظ فيصل بركات أنفاسه الأخيرة على مرأى ومسمع العديد من الموقوفين.
وقد صرح جمال بركات شقيق الضحية الذي كان موجودًا لحظة جلب شقيقه إلى مركز الحرس أن أعوان الأمن قاموا بوضع ستار لحجب الرؤية كي لا يشاهد مع بقية الموقوفين الشخص الذي وقع اعتقاله حينها. ولكن يضيف جمال أنه رأى لاحقًا شقيقه فيصل وهم يقتادونه إلى مكتب رئيس الفرقة وعليه آثار الاعتداء، وكان يستمع لصياح واستغاثة فيصل أثناء تعذيبه مرددًا "اللهم إني مظلوم فانتصر" وكان يكرر "راني ما عملت شيء"، ويقول "يارب يارب"، وذلك حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
تنقل الشهادات أن فيصل بركات تعرّض للتعذيب لمدّة 6 ساعات وكان يردّد "اللهم إني مظلوم فانتصر" ويكرّر "راني ما عملت شيء"
وكشف جمال شقيق الضحية خلال جلسة الاستماع العلنية قبل سنتين، أن تقرير الطب الشرعي تحدث عن وجود كدمات عريضة في الجسم وتجلط دموي في بعض الأجزاء، إضافة لزرقة وانتفاخ في الجهاز التناسلي، وذلك بتسجيل جروح غائرة في الشرج، وتمزق في العضلة الشرجية واحمرار بالمستقيم، وكذلك وجد ثقب في المعدة نتيجة دخول قضيب صلب من الشرج بطول 15 صم، وكان ذلك السبب المباشر للوفاة.
شقيق الضحية يسرد مقتطفات من التقرير الطبي لجثة أخيه
كيف حاول النظام طمس الجريمة؟
عمد الأمن على إخفاء معالم جريمته الوحشية منذ اللحظات الأولى، وذلك بادعاء أن فيصل بركات توفي نتيجة حادث مرور، ولكن تقرير الطبيب الشرعي أفاد أن سبب الوفاة هو التعذيب، وقد احتفظ الطبيب بنسخة بخط اليد من التقرير فيما سلّم نسخة مرقونة لأعوان الأمن الذين كانوا مرابطين بالمستشفى. وتكشف التحريات التي أجرتها "الحقيقة والكرامة" ورود مكالمة للطبيب من وزارة الداخلية مضمونها "أحنا عندنا الثقة فيك... آش دخل الشرج في حادث مرور وباش تنحيهم هاذوما"، فرد الطبيب على مخاطبه أنه لا يمكن تغيير فحوى التقرير، ولكن فعلت الوزارة ما تشاء وأعدت تقريرًا لتبرئة القتلة، وذلك وفق ما كشفته الهيئة.
قام نظام الاستبداد بإخفاء معالم جريمته والإيهام بوفاة فيصل بركات بسبب حادث مرور وتم لاحقًا حفظ القضية دون محاسبة أي طرف
وفعلًا فتح قاضي التحقيق حينها بحثًا في جريمة القتل على وجه الخطأ نتيجة حادث مرور والفرار، وتم حفظ القضية في مارس/آذار 1992 لعدم التوصل لمعرفة الجاني، بذلك تم الإيهام بوجود جريمة لغاية إفلات المجرمين من العقاب، والذين كانوا الأمنيين المباشرين للتعذيب وأيضًا رؤسائهم والمستشارين والوزراء والقضاء والأطباء الذين كانوا جميعًا متورّطين في هذه المسرحية. وقد صرح الشهود الذين حضروا حادثة مقتل فيصل بركات أنهم تعرضوا للتهديد بالسجن من جديد أو القتل في حال تقديمهم لشهادتهم لدى حاكم التحقيق.
اقرأ/ي أيضًا: 33 متّهمًا أمام القضاء في قضية مقتله.. تعرف على قصة مقتل رشيد الشماخي
وقد عانت عائلة الشهيد الويلات حينها، إذ كشف جمال بركات في شهادته أن والده كاد يفقد أعصابه أو فقدها فعلًا وفق تعبيره، ذلك أنه "أصبح مرعوبًا من قوات الأمن بطريقة مهولة"، وذلك بعد قتل ابن واختطاف ابن آخر وتعذيبه لمدة شهور وهو جمال الذي ناضل طيلة سنوات لمحاسبة قتلة شقيقه.
جمال بركات يتحدث عن معاناة والده
من أجل الحقيقة والمحاسبة
حرصت عائلة فيصل بركات لحفظ حقوق ابنها منذ السنوات الأولى في مواجهة آلة القمع والبطش، حيث قام أحد النشطاء الحقوقيين المقيمين بالخارج بالمطالبة بالكشف عن الحقيقة في وفاة ابنها. وتم رفع شكاية إلى المفوضية العليا السامية لحقوق الانسان ولجنة مناهضة التعذيب، وتكونت لجنة دولية تضمّ 3 أطباء أجانب أكدوا أن فيصل مات بسبب التعذيب، وظلت القضية في الأثناء بين أخذ وردّ بين المنظمات الدولية والحكومة التونسية حتى اندلعت الثورة.
وسبق وكشف، في هذا الجانب، جمال بركات أنه من بين الأسماء التي طالبت العائلة بإدراجها ضمن قائمة المتهمين رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر، باعتباره كان يشغل زمن القضية منصب مندوب تونس في الأمم المتحدة وكان يقدّم التقارير حول الانتهاكات التي تطال حقوق الانسان ولم يتعرض في تقاريره إلى ملف شقيقه وبالتالي فهو ساهم في التغطية على الجريمة، وفق تقديره.
في الأثناء، أذن القضاء التونسي بعد الثورة باستخراج الجثة وعرضها على لجنة من الأطباء الشرعيين، وهو ما تمّ في 1 مارس/آذار 2013، وأكد تقرير الطبيب أن الثقب في الأمعاء المؤدي للوفاة ناتج عن إدخال آلة حاد في شرج الضحية، وأن الرضوض والجروح ناتجة عن التعذيب وسوء المعاملة، وبالتالي استحالة وفاته بسبب حادث مرور.
كشف التقرير الطبي أن فيصل بركات مات بسبب التعذيب وتحديدًا بسبب ثقب في المعدة ناتج عن إدخال قضيب حديدي في شرج الضحية
وقرر قاضي التحقيق في 30 سبتمبر/أيلول 2016 ختم البحث وتوجيه تهمة التعذيب الواقع من موظف عمومي أثناء مباشرته لوظيفته وبمناسبتها نتج عنه الموت لمجموعة من الأمنيين ولمسؤولين في وزارة الداخلية وغيرهم. ولكن تحدث جمال شقيق الضحية في شهادته في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 عن عدم تنفيذ بطاقات الجلب التي أصدرها حاكم التحقيق ضد 4 مسؤولين من بينهم رئيس مركز الحرس بنابل زمن الحادثة عبد الفتاح الأديب، وكشف أنه راسل رئيس الجمهورية وعديد الوزراء والمسؤولين للقبض عليهم، ولكن دون وجود رد فعل، متحدثًا عن وجود منظومة كاملة تحمي الجلادين بعد بن علي.
في الأثناء، لا تزال تأمل العائلة في كشف حقيقة مقتل ابنها فيصل ومحاسبة القتلة، وذلك بعد إحالة هيئة الحقيقة والكرامة لـ33 متهمًا في قضية مقتله على الدائرة القضائية المتخصصة في نابل، وقد كشفت الهيئة أن من بين المحالين رئيس الجمهورية السابق زين العابدين بن علي، وعددًا من مستشاريه ووزرائه، وثلاثة قضاة وطبيبين اثنين، إضافة لمسؤولين أمنيين. ويظلّ السؤال الآن، هل تتحقق العدالة ويُحاسب القتلة بعد 27 سنة من مقتل الشهيد فيصل بركات؟
اقرأ/أيضًا:
مأساة العميد كردون.. لما اُغتيل شرف الجيش التونسي!
انتهاكات تونس.. المقاومة مستمرّة لكشف الحقيقة ومنع الإفلات من العقاب