قد يأسرك الحنين إلى زمن غير بعيد تلاشت معه الأعمال الكوميدية الإبداعية الخالدة لنصحو اليوم على مضامين ربحية قائمة على التهريج والابتذال بحجة مواكبة الواقع الحداثي. فلا يمكن لأحد أن ينكر أن الفن هو رسالة نبيلة تجمع بين الإمتاع والإقناع لتكوين قيمة فنية ومعالم تربوية هدفها توعية المجتمع والنهوض بالذات الفردية. لكن ما نلحظه اليوم في أغلب الأعمال الكوميدية الرمضانية هو استخفاف مبالغ فيه بعقل المتفرج البسيط وترويج لصورة نمطية منفرة، مستفزة ورديئة حتى وإن ازدادت نسب المشاهدة تظل الجودة مغيبة. فهي صورة نمطية مجردة من أي رسالة اجتماعية تأبى الخروج عن السائد المبتذل.
المتتبع للأعمال الفنية الرمضانية في تونس يقف على أعمال قد تبدو في الغالب متشابهة، تعتمد على التقليد وخالية من أي لمسة إبداعية
اقرأ/ي أيضًا: "جنون القايلة".. إسراء ومعراج إلى عوالم أخرى
لم يعد إرضاء الجمهور هو المبتغى بل أمسى تحقيق الأرباح الخيالية هو الهدف الأساسي لتحتل هذه الأعمال المشهد الإعلامي بما تقدمه من سخرية وتهكم ومنتوج خاوي المحتوى لا يترك أي أثر قيمي أو إبداعي في نفوسنا ولا يشيد أي متعة في شعورنا. ذلك أن المتتبع للأعمال الفنية الرمضانية هذه السنة يقف على أعمال قد تبدو في الغالب متشابهة، تعتمد على التقليد لا التجديد، خالية من أي لمسة إبداعية. صورة نمطية ووجوه فنية متشابهة قد ألفنا حضورها في أغلب الأعمال بنفس الأسلوب دون إضافة فنية تذكر.
أعمال قد خلت من كل روح إبداعية وجمالية فنية ذوقية من شأنها أن تسمو بالمتفرج عن النمطية الفنية في عصر الاستهلاك التلفزيوني الذي أصبح مجالًا مفتوحًا يستقبل الجميع. مواضيع عديدة ورؤى إخراجية متنوعة مازلنا لم نقترب منها بعد لنسقط في فخ الابتذال والرداءة.
والأمثلة على ذلك عديدة لعل أهمها سلسلة "دنيا أخرى" التي بثت على قناة الحوار التونسي والتي لم ترتق إلى المستوى الكوميدي بسبب التهريج والابتذال المشحون ببعض مشاهد العنف الرمزي والمعنوي من خلال تواتر مشاهد الشتم واللكم في أغلب الحلقات حتى أصبحت المصطلحات المخلة بالحياء بمثابة البضاعة الفرجوية التي تروج للبذاءة والرداءة من خلال محاولة استغباء المشاهد، متناسين بذلك أن المتفرج له من الذكاء ما يجعله قادرًا على التمييز بين ما هو إبداعي وما هو مبتذل. ناهيك عن سلسلة "سبع صبايا" التي بثت على قناة التاسعة والتي شهدت تكرار نفس الأسلوب والافتعال والتقليد والمبالغة في التهريج الذي ألغى الجانب الإبداعي للعمل ما جعله مجردًا من التلقائية والطرافة.
اقرأ/ي أيضًا: "شورّب".. بين قسوة الواقع الاجتماعي وقسوة الدراما التلفزية
رداءة فنية يمكن أن نرجعها إلى ضعف النص والسيناريو وغياب الوعي بضرورة توفر مشروع ثقافي
إضافة إلى سيتكوم "نسيبتي العزيزة" الذي ظل محافظًا على نفس الوجوه والذي سقط أيضًا في التكرار الممل لبعض المواقف والرتابة والتهكم والتهريج والأفكار البسيطة المبتذلة التي صورت الشخصية الريفية على أنها شخصية غبية وساذجة. هي أعمال تجارية لا تنم إلا عن الانحدار اللغوي والإفلاس المعرفي الإبداعي.
منتوج قد جعل القطاع الفني الكوميدي يحيد عن مساره في تهذيب الذوق وتنمية الرؤى الفكرية لتكون الغاية الأساسية لمنتجي هذه الأعمال الترفيع في نسب المشاهدة دون الأخذ بعين الاعتبار الدور التربوي والتأثيري لوسائل الإعلام باعتبارها تمثل وسيلة من وسائل التنشئة الاجتماعية. ذلك أنها أعمال وإن حققت نسبًا عالية من المشاهدة فإنها لا تحمل مضامين واضحة قد تحاكي الواقع في بعض جوانبه بهدف الإصلاح بل إنها تؤسس لثقافة مبتذلة لما قد تحتويه من مشاهد عنف وسلوكيات مستفزة قد تكتسح الأوساط المدرسية والعائلية في ظل غياب سلطة رقابية.
رداءة فنية يمكن أن نرجعها إلى ضعف النص والسيناريو وغياب الوعي بضرورة توفر مشروع ثقافي قد يسمو بالذوات الثقافية لتكون حمالة أبعاد ودلالات قيمية تستنطق المخفي لتخرجه إلى العلن في قالب جمالي إبداعي.
فرغم أن التراث الثقافي زاخر بالإبداع في شتى المجالات إلا أن المجال الفني الكوميدي اليوم يكاد يفتقر إلى عقول مبدعة من شأنها النهوض بالقطاع الفني الإبداعي. فما أحوجنا إلى عقول إبداعية تواكب ما هو حداثي لتخرجه في قالب جمالي إبداعي يسمو بالذوق العام بعيدًا عن التهريج والابتذال الذي تراهن عليه القنوات التجارية الخاصة بحثًا عن الإثارة و"البوز".
يبدو أن الحل الأمثل للخروج من دائرة الرداءة الفنية هو ضرورة مراجعة السيناريوهات وفسح المجال للمواهب والكفاءات الشابة وتحفيزها على الإبداع والإنتاج والحد من احتكار بعض شركات الإنتاج وجشعها والمتطفلين على فن الإبداع. لتكتسب الفكاهة بعدًا جماليًا قيميًا أعمق من أن يكتفي بالسطح لأن الفن الراقي هو الذي يكسبها بعدًا جماليا. هو الذي ينظفها ويمدنها.
اقرأ/ي أيضًا: