مقال رأي
خمس سنوات منذ انطلاق ثورة 17 كانون الأول/ديسمبر، والتي كشفت للتونسيين حجم هول ما خلّف "الهولوكوست النوفمبري" كآخر ثلاث وعشرين سنة من أصل نحو ستين سنة من الاستبداد والفساد، تسير حركة النهضة في تونس إلى عقد مؤتمرها العاشر في الربيع المقبل وهو الثاني بعد الاعتراف بها رسميّا إثر هروب المخلوع في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011.
من المتوقع أن تعقد حركة النهضة التونسية مؤتمرها العاشر في الربيع القادم وهو الثاني بعد الاعتراف بها رسميًا إثر الثورة
حركيّة كبيرة لا تراها عين الرقيب إلاّ نادرًا داخل أطر حركة النهضة استعدادًا لمؤتمرها العاشر وهو الأوّل من نوعه الذي سمح فيه لمن ينوون الترشّح بالقيام بحملاتهم الانتخابيّة في تقليد جديد داخل الحركة، ولكنّها حركيّة تتزامن مع متغيّرات كثيرة وكبيرة في آن واحد، يعيش على وقعها المشهد التونسي من حيث موقع الحركة اليوم وحجمها السياسي والانتخابي والأدوار التي ينتظر أن تلعبها مستقبلًا أو التي يفترض أنّ تقوم بها حاضرًا باعتبارها جزءًا من مشهد السلطة في السنوات الأخيرة وركيزة أساسيّة من ركائز مشهد ديمقراطي في طور التأسيس.
ولئن كان موضوع علاقة "الدعوي بالسياسي" في الحركة أبرز ما يشغل منافسيها السياسيين وحتّى بعض القريبين منها وعنوانًا لحوار داخلي واسع في صفوفها إلاّ أنه من المفضوح خضوعها الى ابتزاز متهافت لدفعها إلى التحوّل إلى حزب علماني، عبر إلزامها بفبركة جملة من الشعارات والالتزامات المكتوبة في مؤتمرها القادم لتفصل بين النقطتين (الدعوي والسياسي)، منكرين عليها حدوث أيّ تطوّر في السنوات الأخيرة في تواصل واضح لسياسات التحديث القسري الفوقيّة التي يرون فيها عزلًا لهذا الحزب عن حامله الاجتماعي ومساهمة في إضعافه انتخابيًا وسياسيّا. لكن بعيدًا عن كل هذا، فإنّ المتابع للنقاش الداخلي صلب حركة النهضة نفسها وأعمال لجان التحضير للمؤتمر العاشر يجعل ثلاثة أسئلة كبرى حاضرة بقوّة.
سؤال "التنظيم" و"الحزب"
بعد تزوير المخلوع لانتخابات 1989، إتمامًا لأركان انقلاب على السلطة، دفعت حركة النهضة إلى مواجهة دمويّة مع آلة قمعيّة للجهاز الأيديولوجي للدولة بمختلف تلويناته الرافضة لوجود الإسلاميين، فقسم ظهرها بين مهجّر ومسجون وفي أحسن الأحوال متخفّ، وهي تجربة انطلقت بخرق بند في لوائح مؤتمرها الأخير آنذاك بإمضائها على الميثاق الوطني وانتهت بمراجعات ومراكمات كبيرة لم يتابعها أغلب التونسيون في إبّانها، بالتوازي مع الحفاظ على صلابة ووحدة الصفّ رغم الاختلافات الكثيرة التي حدثت ورغم الانقسام بين قيادتين واحدة في الداخل وأخرى خارج تونس إضافة إلى مغادرة بعض الوجوه للسفينة.
شرط تغيير الاسم قبل انتخابات 1989، دفع تنظيم "حركة الاتجاه الإسلامي" حينها إلى البحث عن واجهة سياسيّة لتصريف المشروع فكانت "حركة النهضة" التي يختلط فيها السياسي والدعوي، غير أنّ الآلة القمعيّة أجبرته (أي التنظيم) على الانكماش مجددًا حماية للأشخاص وللمشروع الذي أصبحت واجهة تصريفه سياسيًّا محظورة وبقي سريًا، فلم يواكب المراجعات والمراكمات التي جرت في الخارج في مناخات أكثر تشبعًا بثقافة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة.
وبعد هروب المخلوع في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، عادت قيادة حركة النهضة بالخارج وانفتحت القيادة بالداخل على العائدين مثقلين بسنوات الاستبداد ومحمّلين بمراجعات وتراكمات كبيرة أيضًا لم يكن من السهل تنزيلها على التنظيم المنغلق في الداخل ولا على الوافدين الجدد لتتحوّل بسرعة كبيرة إلى حزب سلطة امتلك قدرة عجيبة على هيكلة نفسه في ظرف أشهر معتمدًا على خبرة وتجربة وإشعاع مناضلي وركائز "التنظيم" الذي غادر انغلاقه جزئيّا، ليطرح جدل قيادة المهجر وقيادة الداخل الذي أنهاه الفوز في انتخابات 2011 والمؤتمر التاسع جزئيًا وليس كليًّا.
تجربة "الهولوكوست النوفمبري" دفعت بجزء من قيادات حركة النهضة إلى التعامل ببطء كبير مع ما يقتضيه الزمن السياسي الجديد من سرعة تطوّر بل إنّ بعضهم عمل على إعادة إنتاج نفسه في جيل جديد تمّ تأطيره ضمن ذراع طلابيّة سمّيت "شباب النهضة بالجامعة" مكونة أساسًا من شباب يرون أنفسهم في جيل السبعينيات والثمانينيات إراديًّا على نحو مثير للجدل فحتّى عندما أرادوا إصدار نشريّة أطلقوا عليها من الأسماء "الاتّجاه" في ضرب من ضروب "النوستالجيا" التي حوّلتهم إلى مجرّد "مجترين للقديم عاجزين عن التجديد".
وفي الأثناء، عجزت قيادات النهضة العائدة من الخارج على تنزيل تجربتها ومراجعاتها وحتّى أفكار زعيم الحركة داخليًا لأسباب عدّة منها ما يتعلّق بضيق الوقت وما يتعلّق بعدم القابليّة لدى قيادات الداخل خاصة وبعض الشباب، لتكون الواجهة الأقوى خارجيًا للحركة والحلقة الأضعف داخليًّا بسبب عجزها إلى حدّ بعيد عن إيجاد خطاب تربوي داخلي في صفوف أنصارها بهدف ردم التناقض بين الخطاب المستخدم والتثقيف الداخلي.
يطرح مجددًا وبقوّة في الأسابيع القليلة التي تفصل حركة النهضة عن عقد مؤتمرها موضوع العلاقة بين الدعوي والسياسي في محاولة لـ"تونسة" الحزب
يطرح مجددًا وبقوّة في الأسابيع القليلة التي تفصل حركة النهضة عن عقد مؤتمرها العاشر موضوع العلاقة بين الدعوي والسياسي لا من باب التطوّر فحسب بل من باب آخر مفاده أن "أذرع تصريف المشروع" لابدّ أن تواكب الزمن السياسي الجديد الذي يفرض مغادرة "القوقعات المنغلقة" إلى فضاءات نقديّة وتربويّة على نهج مراجعات كبرى تتيح "تونسة" فعليّة خارج استحضار "إفرازات الرضوض السيكولوجيّة" التي يعاني منها بعضهم وتجعله سجينًا للماضي.
قد يختزل وسم "الحمائم" و"الصقور" الذي صار يطلق على قيادات ورموز حركة النهضة، طبيعة الاختلاف الداخلي في صلب الحركة بين التوجّهين المتناقضين الذين يغلّب أحدهما الدعوي على السياسي ويغلب الثاني السياسي على الدعوي.
سؤال "المشروع" و"منطق التطوّر"
أشرت في سؤال العلاقة بين "الحزب" و"التنظيم" إلى وجود مراجعات كبرى انطلقت في بداية التسعينيات وتواصلت حتّى بعد الثورة أقدم عليها زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وعدد من القيادات المهجريّة كانت وراء إنقاذ الحركة لنفسها في تجربة السنوات الأخيرة غير أن هذه المراجعات تواجه ثلاثة عوائق كبرى لتنزيلها في صفوف الأنصار، للخروج من منطق الاعتصام بالتاريخ إلى منطق المناورة السياسيّة أولًا والخضوع إلى مطلب "التونسة" ثانيًا.
أولى العوائق التي تحول دون تنزيل المراجعات والمراكمات التي أنتجتها قيادة حركة النهضة، تتمثل على وجه الخصوص في وقوف بعض القيادات وربّما الهياكل ضدّ "منطق التطوّر" ذاته وتشبّثها بمشروع "الاتجاه الإسلامي" بشكل طوباوي ينمّ عن عدم وجود قدرة لدى هؤلاء ولا شجاعة على التمايز عن بقيّة الحركات الإسلاميّة في المنطقة وهو ما نجح فيه زعيم الحركة راشد الغنوشي، الذي مثلت رؤيته الفكريّة في أكثر من مناسبة مصدر بحث وتمحيص وحتّى شتم وسباب من عدد من الحركات الإسلاميّة في ما يشبه الصراع بين "رؤية عقائديّة منغلقة" ورؤية سياسيّة منفتحة لا تتناقض مع جوهر الإسلام.
ثاني العوائق يتعلّق بمنافسي حركة النهضة السياسيين والأيديولوجيين الذين يحاولون إنكار انخراطها سياسيًا في منطق التطوّر في محاولة لدفعها نحو الوصول إلى انسداد في الأفق، والعودة إلى السؤال الأوّل أيّ العلاقة بين "الدعوي" و"السياسي"، قصد عزلها عن جمهورها الانتخابي، محاولين الاستحواذ على الحداثة فيما يشبه "الأوليغارشيّة الحداثيّة". أمّا ثالث العوائق فيتعلّق أساسًا بفقدان زعيم حركة النهضة راشد الغنّوشي لآليّات تنزيل رؤيته الفكريّة المتطوّرة والحداثيّة إلى أبعد الحدود ليجد نفسه بين صفيحين ساخنين واحد داخلي والآخر خارجي.
سؤال "الثورة" و"الدولة"
عشيّة الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2011، كانت حركة النهضة قد خلعت عن نفسها جبّة الحركة المقاومة للاستبداد لترتدي قميص السلطة وتجد نفسها في اختبار صعب لا لعدم امتلاكها للكفاءات القادرة على التسيير في صفوفها بل لكونها تدخل معتركًا جديدًا لم تدخله من قبل وفي وضع استثنائي بكلّ المقاييس لم تحسن التعامل معه في أغلب ردهاته ولكنّها اختارت أن تبقي على حظوظها في البقاء عبر خيار مرّ ولكنّه الأحسن والأنسب في تلك الفترة بقطع النظر عن "سؤال كيف؟".
يطرح في أذهان العقلاء، من المحسوبين على الثورة في تونس، سؤال محرج إلى أبعد الحدود يتعلّق أساسًا بالعلاقة بين "النظام السياسي" و"الدولة" فقد عاشت تونس لنحو ستين سنة، يتماهى فيها النظام السياسي (المؤدلج) مع الدولة لتكون الثورة ضدّ النظام بمثابة الثورة ضدّ الدولة والحال أنّه تمّ الفصل بين كليهما غير أنّ البعض لا يزال يراوح مكانه هناك دون وعي منه بما ينتج عن إسقاط الدولة وبما يخفي بعضهم من مصالح من وراء الدفع بالبلاد نحو مرحلة اللاّدولة، من هذا المنطلق فإنّ الممكن سياسيًا كان أساسًا "تثوير السياسات" لا "استهداف الدولة" القائمة على تقاطع مصالح عنكبوتيّة ومتشابكة لا يسهل إخضاعها بقدر ما يمكن إصلاحها وأنسنتها.
نجحت حركة النهضة في الحفاظ على "الدولة" ولكنّها فشلت في "تثوير السياسات"
نجحت حركة النهضة في الحفاظ على "الدولة" ولكنّها فشلت في "تثوير السياسات" فليبراليّتها السياسيّة المطلوبة انحرفت بها نحو ليبرالية اقتصاديّة ظاهرة في برامجها رغم أنّها الحزب الأكثر شعبية في صفوف الفئات المهمّشة والفقيرة وحتّى ليبراليّتها السياسيّة بقيت في حدود عناوين معيّنة همّشت أخرى حساسة ومهمّة. في مؤتمرها العاشر، وللإجابة عن سؤال دور الحركة مستقبلًا فإنّ حركة النهضة مجبرة على تحديد موقعها وخاصّة رؤيتها لطبيعة السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وفي عدّة قطاعات أخرى بعيدًا عن الاكتفاء بمجهودات "المناعة" داخل مشهد سياسي متغيّر وجيوسياسي متحرّك.
تدخل حركة النهضة مؤتمرها العاشر بحيرة كبيرة سببها أسئلة عميقة وجوهريّة يتحدّد بناء عليها موقع الحركة ودورها مستقبلًا كحزب يسير بحذر بين "نزعة عقائديّة منغلقة" أنتجت "تنظيمًا لينينيًا" في الداخل و"أوليغارشيا الحداثة" من الخارج في ظرف إقليمي ودولي باتت فيه الراديكاليات من اليمين واليسار خطرًا على الوجود الإنساني برمّته، ولتمرّ من هذا الامتحان سليمة أو بأخفّ الأضرار على أقل تقدير فإنّها يجب أن تعي وتفهم وتواكب أسباب ارتباط إشعاعها وطنيًا وحتّى إقليميًا ودوليًّا باسم زعيمها راشد الغنوشي الذي يظهر معزولاً برؤيته عن باقي الجسم الذي يراوح بين الانغلاق والتطوّر ببطء باستثناء بعض الوجوه المقرّبة منه.
حيرة حركة النهضة المتعدّدة المصادر، لا يجب أن تحجب خلال المؤتمر العاشر ضرورة "التشبيب" المحايث لتطوّر رؤيتها الفكريّة وممارستها السياسيّة، بعيدًا عن إعادة إنتاج القيادات المترهّلة لأنفسها في شكل أذرع معتصمة بالتاريخ ومحكومة بالخوف وعاجزة عن نقاش الأفكار.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"