30-أبريل-2018

الأمنيون والعسكريون يشاركون في الانتخابات لأول مرّة في تونس (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

"بطاقة تعريفك خويا".. يوم أمس لم يكن أحدًا عاديًا. "أحد أحد" في عمر الجمهورية الثانية. يوم طلب فيه المواطن التونسي بطاقة تعريف رجل الأمن وليس االعكس. "زغرطي يا انشراح".. تراجعت لسويعات هيبة "الحاكم" لتتساوى مع هيبة "المواطن". فما جمعته المواطنة لا تفرّقه الأسلاك الوظيفية، لـ24 ساعة فقط على الأقلّ.

تراجعت لسويعات هيبة "الحاكم" لتتساوى مع هيبة "المواطن"، فما جمعته المواطنة لا تفرّقه الأسلاك الوظيفية، لـ24 ساعة فقط على الأقلّ

كمعظم التونسيّات والتونسيّين تابعت من البيت أصداء الاستحقاق الانتخابي الأوّل من نوعه في تونس بعد الثورة. "الحاكم" و"الجيش" ينتخبان. لم يكن هناك تغطية إعلامية كبيرة، كأنّما هي انعكاس لضعف الإقبال على صناديق الاقتراع نفسها. فمن بين 36459 أمنيًا وعسكريًا مسجّلًا، لم يقم بالاقتراع سوى نحو 4492 ناخبًا بنسبة تقدّر ب12 في المائة. رقم ضعيف ومخيّب لآمال بعض الأحزاب التي راهنت على تصويت الأمنيّين لها، "يا فرحة ما تمّت"، أم أنّ "الأمن والجيش مش مضمونين" كما قال سيدي الشيخ؟

أجدت الدعوة إلى المقاطعة نفعًا وترك الأمنيّون والعسكريون مراكز الاقتراع والصناديق "مفتوحة الأفواه"، أو ربّما لم يشأ الناخبون من الأمن والعسكر "التورّط" في "عملية مواطنية دقيقة" قد تشكّك في حيادهم المفترض وصفتهم "الجمهورية".

لكنّ الدستور يقول غير ذلك، فهو يكفل حقّ الانتخاب لكافّة المواطنين التونسيين دون استثناء، وذلك تماشيًا مع ما تخوّله المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس. وإن كان الأمنيون والعسكريون مطالبين بالحياد التامّ لدى أداء مهامّهم وعند حملهم الزيّ والسلاح، فهم عدا ذلك مواطنون يفترض أن يمارسوا حقوقهم كسائر التونسيين. فالقاضي والإعلامي، اللّذان يفترض فيهما الحياد، يمارسان حقّهما في الانتخاب، ذلك أنّ عملية التصويت فعل مدنيّ لا سياسيّ. "رفعت الأقلام وجفّت الصّحف".

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات البلدية.. ماذا وراء ضعف إقبال الأمنيين والعسكريين على الاقتراع؟

جاءت انتخابات الأمس بعد مرور فترة وجيزة على حادثة هزّت الشارع التونسي وزعزعت مجدّدًا ثقة شريحة كبيرة منه في سلك الأمن. مات عمر غرقًا...أو قتل، وغدا شعار "#تعلّم_عوم" عنوانًا جديدًا لصدام قديم متجدّد بين "المواطن التونسي" و"الأمنيّ التونسي". هو صدام يعكس في أحد أبعاده شعورًا راسخًا لدى المواطنين بأنّ رجل الأمن "عدوّه" ولدى الأمنيّين بأنّهم "مواطنون من درجة ثانية حاملون للسلاح". إنّها عقدة مركّبة: النقص في ممارسة الفعل المدني والتفوّق في "امتلاك القوّة". بالأمس، أقبل الأمنيون على مراكز الاقتراع ليتعلّموا "العوم في بحر المواطنة". ربّما تأخذ العقدة في التفكّك بتعاقب المناسبات الانتخابية، فـ"الدّوام ينقب الرّخام" بتعبيرة أجدادنا.

بالأمس، أقبل الأمنيون على مراكز الاقتراع ليتعلّموا "العوم في بحر المواطنة" وربّما تأخذ العقدة في التفكّك بتعاقب المناسبات الانتخابية

في الواقع، لئن كانت مشاركة الأمنيين والعسكريين بالأمس ضعيفة فإنّها خطوة أولى، كما نأمل، على درب ترسيخ الحسّ المواطنيّ لدى المنتمين لهذين السلكين. هي سنة أولى مواطنة، إن صحّ التعبير، اجتازها الأمنيون ب"العشرة متاع الحاكم". المهمّ أنّهم فعلوا.

خروقات وتجاوزات سجّلت خلال اليوم الانتخابي ونسبة مشاركة ضعيفة، لكنّ النصف الملآن من الكأس تقول إنّ تونس تواصل إشعال شموع الأمل وسط عتمة الليل العربي الطويل. فالأشقاء يتقاتلون والإخوان يتناحرون، أمّا نحن فنواصل الاحتكام إلى الصندوق. قد تفرز الصناديق مرّة أخرى خيبة مريرة أو مفاجأة غير سارّة، لكن تلك هي قواعد اللعبة التي تواضعنا عليها وقبلنا بها. لعبة قرّرنا، بشكل ديمقراطي، إدخال لاعب جديد فيها. لاعب لم يعد يكتفي بتأمين العملية الانتخابية، بل غدا صوتًا من أصواتها وعنصرًا مساهمًا في تحديد نتائجها.

قد تفرز الصناديق مرّة أخرى خيبة مريرة أو مفاجأة غير سارّة، لكن تلك هي قواعد اللعبة التي تواضعنا عليها وقبلنا بها

سنونو واحد لا يصنع الرّبيع. كذلك، حقّ الانتخاب وحده لا يكفي ليقرّب الأمني، خاصّة، من المواطن التونسي ويخفّف حدّة التوتّر بينهما. لكن هناك أمل دائما بأن تحدث "معجزة" فيعود "الحاكم" مواطنًا في خدمة الشعب لا عصا مسلّطة على رقبته. ربّما وقتها تختفي العبارة الشهيرة "A.C.A.B " من على الجدران، وتحلّ محلّها "A.C.A.C" أي "كلّ رجال الشرطة مواطنون". و"سلام يا دفعة".

 

اقرأ أيضًا:

تقدير موقف: الانتخابات البلدية في تونس.. حراك محلي ورهانات كبرى

النساء في الانتخابات البلدية.. "ما هي إلا امرأة"؟