11-أبريل-2019

حرص الجلادون زمن الاستبداد على التخفي وراء أسماء مستعارة (أ.ف.ب)

 

أذكر حين التقيتُ منذ ست سنوات إحدى ضحايا نظام الاستبداد لتروي تفاصيل حكاية خلتُ أنّ آثارها قد مضت وولت، وجدتُ وجهها، رغم مرور أكثر من 18 سنة عن تلك العذابات، شاحبًا كمن يرتدي جسدًا ليس ملكه، كانت تبدو أكبر من سنّها وهي تروي قسوة الفترة التي سجنت فيها وكأنّها بالأمس.

حين تتذكر راضية العمري سنوات التسعينيات وتحديدًا سنة 1994 عندما اُعتقلت رفقة ستّة من زميلاتها بتهمة الانتماء إلى جمعيّة غير مرخص لها وعقد اجتماعات سريّة، تقول إنّها كانت صغيرة لا تعلم أنّ مجرد قطعة قماش صغيرة فوق رأسها ستغير مجرى حياتها، بل ولم تكن تعلم أنّها "ارتكبت جرمًا" وأقحمت نفسها في صراعات سياسية لا علم لها بها ودمرت حياتها، كما تقول.

كانت تروي تفاصيل تلك الفترة بدقة وكأنّها حصلت منذ وقت وجيز، ولم تمح من ذاكرتها تفاصيل الأمكنة والأشخاص وكامل الأحداث. وأذكر أنّني حين سألتها عن الجلاد، انطلقت في وصف تفاصيل ملامحه وشكله وطرق تعذيبه لها.

اقرأ/ي أيضًا: السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية

وحينما سألتها "ما اسمه؟"، استرخت قليلًا إلى الوراء لتسند ظهرها إلى المقعد الخشبي، ثم ضغطت بكلتي يديها على جانبي المقعد كمن يبحث عن التوازن، وأجابت بابتسامة أسى "لا أعرف اسمه فكلّ من كانوا في السجن كانوا ينادون بعضهم بأسماء مستعارة حتى لا يتم كشفهم لكني أذكر أنّ جلادي كان يكنّى ساطور".

وتساءلتُ حينها عن مدى إمكانية معرفة الأسماء الحقيقية لجلّادي الأمس إذا كانوا فعلًا يتخفون وراء أسماء مستعارة خاصة وقد اطلعتُ على مجموعة من كتب أدب السجون التي ذكر مؤلفوها أيضًا أسماء مستعارة للجلادين على غرار "التوكابري" و"بوكاسا" و"الكاص" وغيرها. يُشار إلى أن هذا الصنف من الكتب ألفه بعض ممّن تعرض للتعذيب أو أولئك الذين نقلوا شهادات على لسان الجلّادين أنفسهم زمن بورقيبة أو بن علي، وذلك على غرار "الحبس كذاب والحي يروّح" و"أحباب الله" و"برج الرومي" وغيرها من المؤلفات التي حفظت جزءًا من ذاكرة الانتهاكات في السجون ومراكز الإيقاف زمن الاستبداد.

ضابط سجون لـ"ألترا تونس": كان يتخفى الجلادون وراء أسماء مستعارة خشية ذكرهم والتشهير بهم في قنوات المعارضة زمن الاستبداد

بخصوص هذا الموضوع، يقول أحد ضباط السجون في تصريح لـ"ألترا تونس" إنّ تلك التسميات كان يتخفى وراءها بالفعل كلّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان وأساسًا أعمال التعذيب خشية ذكرهم والتشهير بهم في قنوات المعارضة. وقد ذكرت تقارير حقوقية سابقًا أسماء بعض هؤلاء الجلادين وقد وقع حرمانهم من إجراء تربصات في فرنسا التي رفضت قبولهم بسبب ذكر أسمائهم في هذه التقارير، وهو ما جعلهم يحرصون على استعمال أسماء مستعارة وكنايات حتى لا يقع كشفهم من طرف المنظمات الحقوقية.  

"الحقيقة والكرامة" تكشف الأسماء الحقيقية للجلادين

نشرت هيئة الحقيقة والكرامة تقريرها النهائي الذي انتظره الجميع ليكون ثمرة سنوات من التقصي حول ما حصل في حقبة سعت النظم السابقة إلى طمسها وإخفائها بشتى الطرق، وهو تقرير لقي ردود أفعال مرحّبة وأخرى منتقدة لمضمونه.

وقد أشارت "هيومن رايتس ووتش" إلى أنّ "هيئة الحقيقة والكرامة كشفت في تقريرها عن الشبكات المؤسسية التي أتاحت حدوث انتهاكات حقوق الإنسان على مدى 5 عقود، ووثقت الدور الذي لعبه الرئيسان السابقان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومسؤولون كبار آخرون في التعذيب والاحتجاز التعسفي والعديد من الانتهاكات الأخرى في حق آلاف التونسيين". وأضافت أنّ الهيئة لم توثق فقط الانتهاكات التي طالت المعارضين السياسيين وإنما أيضا عائلاتهم، كما حددت أسماء المسؤولين الذين يُزعم تورطهم في الجرائم، ومنهم الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، الذي اتهمته بالمشاركة في التعذيب لما كان وزيرًا للداخلية في حقبة بورقيبة بين 1965 و1969، وطالبته بالاعتذار علنًا من الضحايا باسم الدولة.

دعت "هيومن رايتس ووتش" الحكومة للتحرك بسرعة لتنفيذ توصيات الهيئة من أجل ضمان محاكمة المتورطين في الانتهاكات الحقوقية الخطيرة

كما أشارت لتوثيق الهيئة للطرق المختلفة التي اعتمدتها السلطات الأمنية والقضائية لعرقلة عملها ومنعها من الوصول إلى أدلة الأرشيف وتحديد هويات أعوان الشرطة المتورطين في الانتهاكات. ودعت "هيومن رايتس ووتش" الحكومة التونسية "للتحرك بسرعة لتنفيذ توصيات الهيئة من أجل ضمان محاكمة المتورطين في الانتهاكات الحقوقية الخطيرة التي شهدتها البلاد"، داعية الحكومة أيضًا للمضي قدمًا في إصلاح القضاء وقوات الأمن المتورطة في الانتهاكات، وتوفير جميع الوسائل للدوائر الجنائية المتخصصة لتُلزم عناصر قوات الأمن بالمثول أمامها.

اقرأ/ي أيضًا: قلع أظافر ورصاصة في الرأس.. عن قصة مقتل نبيل بركاتي

وشددت المنظمة على ضرورة حصر اختصاص المحاكم العسكرية بالعسكريين الذين ارتكبوا جرائم عسكرية، مؤكدة ضرورة قيام الحكومة بتعزيز استقلالية القضاء عبر الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية في التحقيق مع القضاة أو تعيينهم، وزيادة التحقيقات والتدابير التأديبية ضد قوات الأمن الضالعة في الانتهاكات.

وقد تناول تقرير هيئة الحقيقة والكرامة تحديدًا في الجزء الثاني المتعلّق بتفكيك منظومة الاستبداد أسماء الجلادين والعناصر الأمنية المتورطة في الانتهاكات وخصوصًا التعذيب، زمن حكم الحبيب بورقيبة أو زين العابدين بن علي. وهي أسماء ذكرها ضحايا الانتهاكات أو الشهود وفق ما ورد في تقرير الهيئة.

ورد في الصفحة 90 من الجزء الثاني من تقرير هيئة الحقيقة والكرامة

خرق لحماية المعطيات الشخصية؟

يطرح كشف أسماء المورّطين في جرائم انتهاكات حقوق الإنسان جملة من الأسئلة خاصة في علاقة بالمساس بحماية المعطيات الشخصية بغض النظر عن إدانة المعنيين بالأمر. وقد أفاد مصدر من هيئة الحقيقة والكرامة لـ"ألترا تونس" أن مجلس الهيئة اتفق على عدم ذكر أيّ من الأسماء سواء تعلّق الأمر بأسماء الضحايا أو أسماء الجلادين لأنّ ذلك يعدّ مساسًا بالمعطيات الشخصية.

وينص الفصل 2 من قانون العدالة الانتقالية على أنّ "كشف حقيقة الانتهاكات حق يكفله القانون لكل المواطنين مع مراعاة مصلحة الضحايا وكرامتهم ودون المساس بحماية معطياتهم الشخصية"، لكنّ الفصل 4 من ذات القانون ينص على أن "الكشف عن الحقيقة هو جملة الوسائل والاجراءات والأبحاث المعتمدة لفك منظومة الاستبداد وذلك بتحديد كل الانتهاكات وضبطها ومعرفة أسبابها... وفي حالات الوفاة والفقدان والاختفاء القسري معرفة مصير الضحايا وأماكن وجودهم، وهوية مرتكبي الأفعال التي أدت إليها والمسؤولين عنها". ولم ينص هذا الفصل على مبدأ عدم المساس أو الكشف عن المعطيات الشخصية للجلادين ومرتكبي الانتهاكات عمومًا.

ينص الفصل 2 من قانون العدالة الانتقالية على حماية المعطيات الشخصية للضحايا فيما ينص الفصل 4 على أن الكشف عن الحقيقة يشمل هوية مرتكبي الأفعال

في هذا الجانب، يقول شوقي قداس، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، لـ"ألترا تونس" إنّه "من المفروض عدم ذكر أسماء لا من تعلّقت بهم الانتهاكات ولا الجلادين، ومن المفروض أن تدرج الأسماء فقط بالأحرف الأولى"، معتبرًا أن ذكر أسماء الجلادين كاملة يعتبر خرقًا لحماية المعطيات الشخصية "وليس في ذلك شك لأنّ الأمر يتعلق بوثيقة للنشر". واستشهد بالمحاكم التي أكد أنها حين تنشر بعض الوثائق يقع فقط الاكتفاء بذكر الأحرف الأولى للاسم واللقب".  

كما أشار محدّثنا إلى أنّ "محكمة التعقيب نشرت على موقعها بعض الوثائق وطلبنا منهم نفس الأمر وتمّ سحب كل المنشورات واستبدال الأسماء بالأحرف الأولى فقط وذلك حماية للمعطيات الشخصية".

وقال قداس إن هذا "الخرق" ليس الوحيد لهيئة الحقيقة والكرامة، مشيرًا إلى بيان سابق ذكرت فيه أنّه تمّ حذف كل المعطيات المخزّنة في منظومتها المعلوماتية وهو ما يدلّ على أنّ من اخترق تلك المنظومة وقام بالحذف تحصل على نسخ من تلك المعطيات وأصبحت عند جهات مجهولة والحال أنّ فيها الشهادات والفديوهات والتقارير الممضاة وغيرها، وفق تأكيده.

شوقي قداس لـ"ألترا تونس": هيئة الحقيقة والكرامة لم تحترم مبدأ حماية المعطيات الشخصية

وأكد أنّ الهيئة لم تحترم مبدأ احترام المعطيات الشخصية في عملها لاسيما وأنّه من المفروض أن تقوم بالتصريح لدى الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية. وأشار إلى وجود تواصل بين الهيئتين عام 2016 تم بموجبه إعلام هيئة الحقيقة والكرامة بضرورة تأمين المعطيات والتشاور مع الهيئة التي يرأسها لنصحها حول كيفية التعامل مع المعطيات وكيفية عرضها.

وقال قداس، في نفس الإطار، إنه يجب على كل هيكل يعالج المعطيات الشخصية أن يعلم قبل شهرين من انتهاء مهامه هيئة حماية المعطيات الشخصية على اعتبار أنها صاحبة القرار في مآل المعطيات وكيفية تحويلها للأرشيف الوطني. وأوضح، في هذا الجانب، أن هيئة الحقيقة والكرامة لم تقم بهذا الإجراء ليتم إعلام وكيل الجمهورية بخصوص هذه المسألة، وفق تأكيده.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيصل بركات... قتلوه تعذيبًا ثم قالوا "حادث مرور"!

كمال المطماطي.. الوفاة تحت التعذيب والجثة تبحث عن قبر